من داخل السجن… ذكريات مقاتل فنزويلي في العالم العربي
صدر في السنوات الماضية العديد من الشهادات (المكتوبة والمرئية) لقياديين من العراق وسوريا وفلسطين حول أحداث الثمانينيات والصراعات الحزبية والميليشياوية، وقد ورد في كثير من هذه المذكرات اسم المقاتل الفنزويلي كارلوس ودوره في بعض العمليات التفجيرية والاغتيالات التي جرت في أوروبا خلال الثمانينيات، وبالأخص دوره في عملية الهجوم على منظمة «الأوبيك» في فيينا(1975) واختطافه عددا من وزراء النفط، من بينهم وزير النفط السعودي زكي اليماني، مع ذلك بقيت شخصية هذا الرجل، وعلاقاته بأجهزة الأمن في العالم العربي غامضة بالنسية لجيلنا، خاصة أن اسمه يظهر مع أكثر من جماعة، (مع جبهة التحرير الشعبية الفلسطينية أو المخابرات السورية أو القذافي أو علاقته ببغداد ووزير خارجيتها الأسبق طارق عزيز).
ولذلك يشكل كتاب الصحافي فاروق المصارع «أنا وكارلوس الأسطورة» فرصة للاطلاع على بدايات قدوم هذا الثعلب وفق ما كانت تصفه به أجهزة المخابرات الغربية، خاصة وأن المادة المدونة فيه هي خلاصة حوارات أجراها المؤلف مع كارلوس منذ 2017 في سجنه القابع فيه في إحدى المدن الفرنسية وعلى مدار أسابيع عديدة. ومصارع هو بعثي سابق من جنوب سوريا، غادر بلاده منذ سنوات طويلة واستقر في بلجيكا، وصدر له منذ فترة كتاب بالفرنسية حول تاريخ حزب البعث، كما عمل على ترجمة كتاب الصحافي لاسلوا لازكي «العالم كما يراه كارلوس» الذي صدر بالفرنسية عام 2017 (لم تنشر الترجمة العربية بعد) ومما يذكره مصارع في مقدمته أنه خلال حديثه مع لازكي حول حواراته مع كارلوس، التي استمرت من عام 2015 ـ2017 ذكر له في إحدى المرات رغبة كارلوس في اللقاء به، وبالفعل هذا ما جرى منذ عام 2017 وربما ما يزال مستمرا ليومنا هذا، إذ عكف على زيارته بشكل شبه أسبوعي ليستمع لقصته ونشوئه وذكرياته عن البلدان العربية وأجهزتها المخابراتية، وغيرها من التفاصيل الأخرى المتعلقة بالعمليات التي قادها، وكيف كان ينتقل من مدينة لأخرى بطريقة توحي وكأننا أمام فيلم بوليسي. وينتقل بنا مصارع في كتابه إلى السجن الذي يعيش فيه هذا «الثوري العالمي» كما يصف نفسه، فبعد اعتقاله عاش في منفردة لمدة ثماني سنوات قبل أن يطلب تشافيز من جاك شيراك تحسين ظروف عيشه في السجن، فنقل إلى سجن آخر يبعد 80 كيلومترا عن باريس، وهناك يبدو كارلوس متابعا لما يجري في العراق وسوريا، بعيد عام 2011، بسبب قدرته على قراءة ما يرغب من صحف، إضافة لوجود تلفزيون في غرفته مكّنه من متابعة قناتي «الجزيرة» و»العربية» وباقي القنوات الأجنبية كما يذكر. كما وفّر السجن الجديد له فرصة اللقاء بحبيباته ولاحقا الزواج من محاميته الفرنسية. فالرجل يعيش اليوم في سجن «فايف ستار» بل قد يجد القارئ أحيانا أنّ ظروف كارلوس أفضل من ظروفه، وربما هذا ما دفع مصارع إلى أن يقول له في إحدى المرات «هذا حال السجون كذلك في بلادنا العربية، مع فارق بسيط، فبدلا من بنات الهوى (اللقاء بحبيباته في غرفة خاصة) ينال (السجين) خازوقا ليسافر بسرعة إلى حوريات الجنة».
لم يكتف المصارع في كتابه بالاستماع وتدوين ما يذكره كارلوس، خاصة أن الأخير بدا غاضبا أحيانا مما دونه زميله الفرنسي عن حياته، ولذلك حاول إجراء مقارنات مع بعض الروايات الأخرى التي دونها سياسيون عرب حول دور كارلوس في بعض الأحداث، وفي هذا السياق ينقل ما ذكره فاروق الشرع في يومياته المفقودة عن كارلوس والمخابرات البريطانية، ويظهر رواية أخرى مخالفة لرواية وزير الخارجية السوري الأسبق.
طفل فنزويلي مدلل
وكما هي العادة في كتب السير، كان لا بد من العودة لحياة هذا الشخص، وهنا سنكتشف أنه من عائلة شيوعية، واسمه ايليش سانشيز وعرف باسم كارلوس نسبة إلى اسم عمه كارلوس خوليو، وكانت عائلته ميسورة الحال، فخلال صغره كان يلعب بالدولارات بسبب كثرتها في منزله، وكان له أخ يدعى لينين، وهذا ما يكشف عن مدى حماس الأهل للأفكار اليسارية آنذاك، وكان والده زير نساء وهي الحالة التي سيصبح ابنه عليها لاحقا، ولذلك قررت والدته الذهاب والعيش في بريطانيا في عام 1966، وبعد ذلك بسنتين أخذه والده في جولة إلى باريس للبحث عن جامعة له ولأخيه، لكن في ذلك العام كانت فرنسا تعيش حالة اضطرابات في ظل الحركة الطلابية (1968) ولذلك وبحكم علاقاته الشيوعية ذهب بأبنائه إلى موسكو للدراسة، وفي هذه الفترة سيتعرف في موسكو على رفعت أبو العون، وكان ممثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الاتحاد السوفييتي، وحين صدر قرار طرده من موسكو بسبب الخلافات الشيوعية الفنزويلية، اتصل به أبو العون وطلب منه المشاركة والتدريب مع الفلسطينيين في بيروت، وهنا نرى كيف أن الصداقة ستعلب دورا في التجنيد، إضافة إلى الخلفية الأيديولوجية اليسارية، وإن بدا أن كارلوس كان يعيش في موسكو حياة باذخة، بيد أنّ قرار إخراجه من موسكو دفعه لخوض غمار التجربة مع الحركات الفلسطينية المسلحة، وقد نطرح تساؤلا شبيها بالتساؤل الذي طرحه توماس هيغهامر مؤخرا، في سياق قراءته لشخصية عبد الله عزام (رغم الاختلاف في طبيعة الشخصيتين ودورهما) كيف أن ظروف 1967 هي التي دفعت عزام إلى أن يصبح لاجئا في الأردن، ولاحقا عابرا للحدود، وهذا ما نراه في حالة كارلوس، بعد أن أدت الخلافات الفنزويلية والتقارير المتضاربة إلى طرده، كما أن هناك عاملا لعب دورا لا شك في هذا الجانب، ويتمثل، كما لاحظ عالم الاجتماع حميد بوزرسلان في سياق تأريخه للعنف في الشرق الأوسط، في أن الحركات النضالية الفلسطينية كانت قد اندرجت آنذاك في مشروع شمولي أممي، يقوم على ربط المضطهدين ببعضهم وهذا ما يذكرنا لاحقا بما جرى مع الجهاديين. لكن لنترك الإجابة عن هذا السؤال لمؤلف الكتاب، الذي يبدو أنه بصدد إصدار جزء آخر من حواراته مع كارلوس.
في بيروت
من القصص التي لا تذكر عادة، أن لقاءه الأول في بيروت سيكون بالشاعر الفلسطيني غسان كنفاني، ومما يذكره أنه عندما وصل للمدينة في شهر تموز/يوليو عام 1970 طلب منه التنسيق مع بسام أبو شريف، المسؤول الإعلامي حينها عن مجلة «الهدف» التي تصدر باسم الجبهة الشعبية، الذي أعطاه اسم خالد، ومن هناك نقل إلى معسكرات الفدائيين في الأردن، لكن حال هذه المعسكرات لم يرق له، وبالأخص أوضاع الشباب الغربيين، الذين كان يدخنون الحشيشة، وسيطلب نقله إلى معسكر آخر، وبعد فترة التدريب، عاد الثعلب إلى لندن لتبدأ يومياته البوليسية في أوروبا تلك التي نراها في الأفلام، خاصة أن الأحداث كانت تتسارع بعد مقتل وصفي التل عام 1971 وحرب تشرين 1973، ولذلك أراد وضع، كما يقول في حواره، بصمته الثورية. وكانت أولى العمليات في منزل جوزيف إدوار سييف في لندن، الذي كان يرأس مخزن «ماركس أند سبنسر» ونائب رئيس الفيدرالية الصهيونية في إنكلترا، ومما يذكره يومها أنه كان يحمل مسدسا قديما وبحوزته 5 طلقات ولذلك أطلق ثلاثا منها على سييف وهرب، وبعد ذلك بشهر هاجم بنك هابواليم الإسرائيلي في وسط لندن، وألقى قنبلة أصابت عدة أشخاص.
لكن الشرطة البريطانية ألقت بالمسؤولية على المنظمة الأيرلندية الانفصالية، ومن الأشياء البوليسية هنا ما يرويه عن الشقق التي استأجرها، وكيف كان يتنقل بينها، وكيف أنه كان يلتقي في كل منها بعشيقة مختلفة، كما أنّ نشاطه هنا لن يقتصر على الهجوم على مصالح إسرائيلية، بل أيضا في فرض ما يسميه بـ»الضريبة الثورية» من أجل تمويل ميزانية الجبهة الشعبية، من خلال إرسال رسائل لبعض رجال الأعمال وتهديدهم مثل السوري أكرم عجة، أو التفكير بخطف السفير الإماراتي، كما يذكر في مذكراته التي جمعها الصحافي الفرنسي أنه فكر بخطف أسامة بن لادن، كونه من أسرة غنية (لم يأت على ذكرها في هذا الكتاب) كما يذكر أن هذه الضريبة فرضت لاحقا على ياسر عرفات، الذي تعهد بدفع خمسين ألف دولار شهريا، لكنه رفض العرض. وفي هذه الفترة أيضا اعتقل ميشيل مغربل مسؤول الجبهة الشعبية في أوروبا، وهو من مدينة طرابلس اللبنانية وجاء إلى باريس لدراسة تاريخ الفنون في جامعة السوربون، وخلال سفره إلى بيروت ألقي القبض عليه، وبعد التحقيق معه من الفرنسيين دلهم على منزل كارلوس، ولذلك ذهبوا هناك لاستجوابه، وعند وصول ثلاثة محققين فرنسيين مع مغربل قام كارلوس بقتلهم قبل أن يقوم بوضع المسدس في رأس مغربل وقتله، ليهرب بعدها إلى بروكسل وبعدها إلى برلين الشرقية وبغداد، التي أقام فيها لبعض الوقت، ومما يذكره عن هذه الفترة أنه عاش في حي الكرادة في منزل قريبة طارق عزيز، ثم سافر إلى جنوب اليمن، حيث معسكرات الجبهة الشعبية في أبين، وهناك سيعرض عليه معمر القذافي القيام بعملية ضد وزير النفط السعودي ووزير النفط الإيراني مقابل مبلغ 100 مليون دولار، وخلال التحضير سيتعرف على أنيس النقاش، الذي شارك في عملية اقتحام منظمة «أوبيك» بطلب من ياسر عرفات. وفي تفاصيل الهجوم يشعر القارئ وكأنه أمام مشهد سينمائي ومجانين، بدءا من دخولهم لمبنى الأوبيك وإطلاق الرصاص وكيفية التفاوض مع السلطات النمساوية وحصولهم على طائرة إلى الجزائر، حيث كان في استقبالهم وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، الذي حال كما يذكر كارلوس دون قتل زكي اليماني، بعدما حاول أنيس النقاش (الذي يصفه بالطائش والمتسرع) القيام بذلك في إحدى القاعات، وبعد هذه العملية سيصبح كارلوس أسطورة وشبحا موجودا في كل مكان.
الذهاب إلى دمشق
في فترة الثمانينيات ستغدو دمشق مكانا يتردد عليه كارلوس باستمرار وذلك بعد دعوته من قبل اللواء محمد الخولي (مدير المخابرات الجوية) وفي عام 1983 نفذت مجموعة كارلوس تفجيرا أمام المركز الثقافي الفرنسي في برلين الغربية بالاتفاق مع المخابرات السورية، وجراء هذه العملية طلبت السلطات في ألمانيا الشرقية من الأجهزة الأمنية الأخرى في الدول الشرقية، بمتابعة نشاطات كارلوس ورفاقه، ومع هذه الحادثة سيصبح إرهابيا متقاعدا ينام على أمجاد الماضي، ولذلك أصبحت سوريا الملاذ الأخير له، وهنا يذكر كارلوس أنه سكن في فيلا فاخرة في حي المزة في دمشق تحت إشراف الخولي الذي كلف مدير مكتبه العقيد هيثم سعيد بتقديم كل الدعم له، ما جعل سكان الحي يعتقدون أنه مسؤول روسي كبير لأنه يحمل السلاح ولديه الحرس والمرافقون، وإن كان كارلوس يعتقد أنّ هذا المشهد بدا أمرا طبيعيا آنذاك في سوريا، فالكثير من الأشخاص كانوا يحملون السلاح، ما يشير إلى فترة الثمانينيات، التي شهدت مواجهات بين النظام السوري والإخوان المسلمين، ولذلك كان ضباط الأمن وبعض البعثيين يتفاخرون بحملهم السلاح قبل أن تتراجع هذه الظاهرة في فترة التسعينيات. ومما يذكره أيضا أنه كان يقضي بعض الأوقات في بار الشيراتون، وأن زوجة مصطفى طلاس وبعض المسؤولين كان يحضرون منزله خلال المناسبات، وظل كارلوس في دمشق إلى عام 1990 لكن سوريا آنذاك كانت قد انضمت لتحالف تحرير الكويت، وفي لقاء جمع الرئيس الأسد مع الرئيس الأمريكي جورج بوش أشار إليه الأخير إلى وجود كارلوس وعلى إثرها طلب الأسد من اللواء علي مملوك إعلام كارلوس بضرورة الرحيل وهذا ما جرى في عام 1991.
وهنا يذكر كارلوس أنه عانى في إيجاد ملاذ آخر قبل أن يعثر عليه في السودان، بعد وصول حسن الترابي للسلطة، وإعلانه عن فتح أبواب السودان أمام جميع الحركات الجهادية، ولذلك قرر بعد مكوثه في الأردن لفترة قصيرة وزواجه من طبيبة أردنية، الانتقال للخرطوم للعيش في منزل بالقرب من السفارة الفرنسية، وليس بعيدا عن مكان إقامة أبو نضال والشيخ أسامة بن لادن وعماد مغنية، ويذكر كيف كانوا يتصادفون خلال نزهاتهم ويسلمون على بعضهم بالابتسامات الخفيفة وطأطأة الرئيس، لكي لا يثيروا الانتباه، ولأنهم كما يقول كان يعرفون بأن أقمار التجسس الأمريكية تترصد تحركاتهم، وهنا نرى كيف أن قادة السودان وفي محاولة منهم لتسوية علاقاتهم لاحقا سيقررون تقديم أكباش فداء، ومن بينهم كارلوس، الذي سيتم تسليمه للمخابرات الفرنسية مقابل عرض بتخفيف الضغوط عليهم، وبعد وصوله إلى باريس بقي كارلوس في المحاكمة يصر على موقفه، وفي السجن عكف على كتابة مؤلف بعنوان «الإسلام الثوري» وصدر في عام 2003 يشير فيه إلى أن الجهاديين «ليسوا متطرفين ولا حتى مجانين، إنهم مقاتلون ويدركون جيدا ما يفعلونه في الحرب العالمية الثالثة» وعلى الرغم من أن هذا الكلام أظهر أيضا عدم دقته وجنونه في السنوات الأخيرة، لكن ما يلفت النظر أن كارلوس من خلال خبرته القتالية وتأسيس الشبكات المقاتلة، كان يرى أن هناك صعودا لدور الجهاديين في المنطقة، كما أن تجربته وتوقعاته يوحيان بقدوم موجة جديدة من المقاتلين العابرين للحدود في الشرق الأوسط والأقرب لذلك أوكرانيا ومحيطها.
كاتب سوري