فضيحة فيسبوك وازدواجية المعايير الأمريكية
هل يحق للعراقيين أن يرفعوا شعار الموت للجنود الأمريكيين، والرئيس الأسبق جورج بوش ومن جاء من بعده، على مواقع التواصل الاجتماعي، لأنهم غزوا بلادهم واحتلوا أرضهم، وشردوهم في شتى أصقاع العالم، وقتلوا منهم أكثر من مليون إنسان؟ وهل مسموح لهم أيضا أن يطبقوا الفعل نفسه على زعماء وجيوش الدول الأخرى التي شاركت في الغزو؟
هل يحق للفلسطينيين أن يلعنوا الجيش الإسرائيلي ويرفعوا شعار الموت لهم ولكل زعماء إسرائيل منذ الاغتصاب وحتى اليوم، لأنهم سرقوا أرضهم وشردوا شعبهم، وقتلوا أطفالهم ونساءهم وشيوخهم؟ وماذا عن الأفغان الذين دكت طائرات الغزاة الأمريكيين بيوتهم ومدارسهم وحفلات زفافهم؟ أليس لديهم الحق في كتابة شعار الموت للجيش الأمريكي وزعماء البيت الأبيض؟ وهل يسري هذا الحق بأثر رجعي، فيُسمح لأشقائنا في المغرب العربي، وكل دول المشرق العربي والخليج، بأن يرفعوا شعار الموت للجيوش الفرنسيه والإنكليزية وزعمائهم الذين احتلوا كل هذه البلدان في القرن الماضي؟
الولايات المتحدة الأمريكية لن تتخلى يوما عن التوجهات القمعية، التي تشكل إحدى ركائز سياساتها مع الآخرين
لا تحتاج الإجابة على هذه الأسئلة طول تفكير، لأنه غير مسموح القيام بذلك، وأبرز دليل ما زال طريا في الذاكرة، هو ما حصل قبل بضعة أسابيع، عندما تم فصل عدد من الصحافيين العرب من قناة «دويتش فيله» الألمانية، والسبب هو تغريداتهم التي قيل إنها توحي بأنهم كانوا يقصدون بها إسرائيل. لكن لا شيء يدعو إلى العجب عندما يسمح العالم الحر، صاحب القيم الإنسانية وحق الرأي، بأن يحوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصة لنشر الكراهية والدعوة إلى العنف، وأن تصبح وسيلة من وسائل خدمة الأجندة الغربية ضد الآخرين، لكن لا يسري هذا الفعل والاستخدام ليكون بالضد من الغرب والولايات المتحدة. إنه حق حصري لهؤلاء ضد الآخرين، لذلك خرجت شركة ميتا المالكة لموقع فيسبوك، لتعلن السماح للمشتركين بنشر دعوات للعنف والكراهية والقتل ضد الرئيس الروسي والقوات الروسية فقط، وأنها باشرت باستثناء الخطاب المناهض لما وصفته الغزو الروسي لأوكرانيا، على الرغم من أن هذه الشركة كانت تحضر أي محتوى يكون مُحرّضا على العنف، أو يحمل خطاب كراهية كما يصفون. وكانت تحجب صفحات وتغلق حسابات، وتنذر مشتركين برسائل واضحة تطلب منهم تحسين أسلوبهم في التعبير، لأن المحتوى الذي ينشرونه يخالف سياسة الموقع. إذن أين هي المعايير الغربية التي يتحدثون عنها ويدعون الآخرين للالتزام بها، ويطلبون من دولنا السير عليها؟ إن ما يبدو واضحا هو، أن كل ما كان الغرب يروّج له، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، من موضوع الحريات والديمقراطيات والرأي والرأي الآخر، وحرية الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، هي مجرد أكاذيب وبروباغندا سياسية، كان الهدف منها تسليط حزمة أفكار براقة، تتحقق من خلالها حالة استلاب فكري يمهد لقبول ديكتاتورية الإعلام الغربي، وصولا إلى جعلها أشبه باليقين الذي يعتصم به الناس، فتصبح رؤوس القوم مجرد دلاء يُفرغون بها ما يريدون، لذلك فالمعايير التي يتحدثون عنها هي حالة سائلة وليست صلبة، وهي تتغير بتغير الأجندة، على سبيل المثال هم يقولون لكل المشتركين في مواقع التواصل الاجتماعي، إن بياناتهم الشخصية لن يتم التصرف بها خارج سياق الخصوصية، لكننا وجدنا قبل أربع سنوات أن موقع واتساب، قبل امتلاكه من قبل فيسبوك، فضح فيسبوك وقال، إن الموقع المذكور سلّم معلومات شخصية لملايين المشتركين إلى بعض الشركات، ما يعني أن مسألة المعايير موضوع نسبي يعتمد على الهدف والغاية، لذلك هو يميل أينما تميل البوصلة السياسية للولايات المتحدة والغرب، فالسياق العام اليوم في الغرب هو التشهير بروسيا وشيطنتها في أوكرانيا، وهذا يتطلب تغيير القواعد السياسية والأخلاقية وكل شيء.
إن الفعل الروسي ضد أوكرانيا هو عدوان وغزو بكل المعايير السياسية والإنسانية والأخلاقية، ولا يمكن وصفه بأوصاف أخرى، لكن التمييز ضد رئيس محدد بشخصه، وضد بلد محدد بعينه، بهذا الشكل الفاضح والدعوة إلى قتلهم على مواقع التواصل الاجتماعي، إنما هي دعوات تتلائم مع سياق النفاق الغربي، الذي يسمح ولا يسمح، ويلغي ويثبّت، ويضع معايير صلبة من أجل هذا الطرف، ومعايير سائلة من أجل الطرف الآخر. وهذا تأكيد على أن شركة ماتا ومواقع التواصل الاجتماعي وشركات الإنترنت العملاقة، كلها تعمل بنهج محدد وليس من فراغ، وبالتالي فإن هنالك دولا وشعوبا وأمما مسموحا أن يُسخّر الغرب كل التكنولوجيا ووسائل الإعلام ضدهم، لكن لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تنطبق القياسات نفسها على الغرب. إن من حق الإعلام الغربي والأمريكي، أن يقول كل ما يريد قوله عن الرئيس الروسي والجيش الروسي، في إعلامهم المرئي والمسموع والمكتوب، وهذا الفعل موجود وتؤكده يوميا تحليلات المحللين وتصريحات السياسيين، الذين يدعون إلى قتل بوتين أو الإطاحة به بانقلاب أو تمني الموت له في أية حالة، لكن أن ينتقل هذا الفعل إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه حالة شاذة تماما، لأن هذه منصات اجتماعية، أو هكذا يفترض أن تكون، كما أن المسجلين في هذه المواقع لم يمنحوها الحق في أن تفرض عليهم أجندة سياسية، تعطيهم حقا ما اليوم، وتمنعه عنهم غدا، تبعا لتغير البوصلة السياسية، ثم من أين حصل من يملكون هذه المواقع على الحق في منح أنفسهم سلطة السماح بتمرير خطاب معين وحظر آخر؟ وما هي الأسس التي اعتمدوها في تصنيف الخطابات بأن هذا ينم عن حالة كراهية وذاك ينم عن دعوة للعنف؟ ووفق أية مقاسات يتم تغيير هذه المعايير؟ يقينا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتخلى يوما عن التوجهات القمعية، التي تشكل إحدى ركائز سياساتها مع الآخرين، هناك سياق أمريكي يوصف بوضوح أنه ديكتاتوري يؤمن بالتفرد ويمنح نفسه صفة الاستثنائية، وفرض الشروط وتحديد طبيعة المسار، الذي يجب على العالم أن يسير وفقه، بل يتجاوزه إلى التحكم بكل ما يقال في وسائل الإعلام، وما يكتبه الناس في مواقع التواصل الاجتماعي. كما أن سياسة الراعي والقطيع لن تغادر العقل السياسي الأمريكي، على الرغم من الانتكاسات والهزائم المتتالية التي منيت بها في شتى أصقاع العالم، والتي كان آخرها الهزيمة الفضيحة في أفغانستان، فهل يحق للافغان أن يباشروا منذ اليوم ببث خطاب كراهية وعنف على مواقع التواصل الاجتماعي ضد بوش وأوباما وبايدن وجيوشهم؟
إن إدخال مواقع التواصل الاجتماعي على خط الأزمة الروسية الأوكرانية، والسماح بتمرير خطابات بالقتل والموت فيها ضد طرف دون آخر، يفت من مصداقية هذه المنصات ويأكل من شعبيتها، كما أن ذلك ينزع صفة التواصل بين المجتمعات عنها، ويجعلها منبرا لنشر أفكار معينة والترويج لأيديولوجية محددة. أيضا هذا الفعل ينزع الغطاء القانوني عن الشركات المالكة لهذه المواقع، ويعطي الحق للحكومات والأفراد أن يقاضوها، لأنها لم تسأل المشاركين فيها عن رأيهم في الفعل الذي أقدمت عليه، بل الأكثر من ذلك إنهم يحولونها إلى ساحات يتبارى الناس فيها لتقديم أعلى مستوى من الكراهية والعنف والتثقيف بهما.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية