الترابط بوصفه محكاً في العبور الأجناسي.
علم الأجناس فرع من فروع نظرية الأدب، ووظيفته الرئيسية تكمن في دراسة صناعة التجنيس وصيرورته، وتحليل نشأة الأجناس تاريخيا وطرق تحويل أساليبه وقيمية هذا التحويل. والشائع بين منظري الأجناس أنهم يصنفون الأجناس ذهنيا إلى أجزاء منفصلة في شكل عناصر، أو مكونات ويصنفون كل عنصر منها في شكل قوانين، فيدرسون كل قانون على حدة محددين آليات حركته وأشكال تقدمه.
لقد ساهمت هذه الدراسات وأغلبها قام بها النقاد الأرسطيون في جعل الأجناس علما له مقوماته وقضية من أهم قضايا النظرية الأدبية، وبسبب ذلك كله تقدمت هذه النظرية أشواطا مديدة. بيد أن الذي أعاق هذا التقدم هو شوط طرأ على النظرية الأدبية، إبان ستينيات القرن العشرين وتمثل بنظرية الانفتاح ومنهجية القول بـ(الشعرية) بوصفها نظرية للاندماج في الخطابات، تداولا وبلاغة وتأويلا، وبتعددية لا صحة فيها ولا خطأ. وبذلك ضاعت عضوية النوع الأدبي وتاريخية نشوئه في صلب مظهرية الخطاب اللساني الدلالية والتركيبية واللفظية التي هي مظهرية انفتاحية.
وهو ما يعده تودوروف فهما جديدا للجنس الأدبي يخضع إلى ما سماه اختبارا نقديا ما بين مفهومي النمط والجنس، منطلقا من تبني الشعرية التي هي عنده علم الخطابات، ومتحيزا بشكل غير مباشر لمفهوم النمط كمرادف لمفهوم الجنس لا لشيء سوى أنه يسمح بالانفتاح والالتحام ومن ثم يكون التناص المفتاح الذي به تتسع مساحات (النمط) أما إدراك هذه المساحات فمقرون بأفق انتظار القارئ. وبناء على ترادف مفردة النمط مع مفردة الجنس، ذهب تودوروف إلى اعتبار (الحوارية) ـ التي تحدّث عنها باختين ولم يجنسها، بل اعتبرها آلية من آليات إنتاج الخطاب الملفوظ ـ جنسا أدبيا سرديا، حيث التداخل النصي كالتداخل الأجناسي، يخضعان لآلية التناص ونظرية الانفتاح بعامة، التي أدت إلى تراجع البحث في تاريخ الأجناس وتعاقبية القوانين.
والحجة أن التاريخ الأدبي يظهر بمظهر فقير وهو يقطع صلته بالفنون المجاورة، ومن ثم هو يحتاج إلى التناص منفتحا بالنصوص على حساب قوالبها متداخلا في أبنيتها التي تتشابك مع بعضها بعضا، أما حدودها فلا أهمية لها. وبهذا التصور الانفتاحي صار مفهوم اللاتجنيس مطروحا للنقاش، بينما تراجع النظر في التجنيس، وتحولت الأجناس من كونها علما ذا قوانين محددة إلى إشكالية بلا قوانين ولا منظورات.
وكاد هذا الأمر أن يطغى لولا شعور المنظرين الانفتاحيين أنفسهم بفوضوية القول باللاتجنيس، فوضعوا أمامهم مسائل تسنين النص ومعايير تصنيفه، توالدا أو تواليا أو ثباتا، جاعلين إياها على المحك جريا وراء مقولات التناص والانفتاح والشعرية تارة، وتارة أخرى سيرا على المنوال الأرسطي.
ولعل الترابط في العلاقات والأبنية هو أهم دليل على أن التجنيس العابر هو أحد المحكات التي بها تزداد الدلائل على فاعلية التجنيس وتتقلص بالمقابل مساحات اللاتجنيس، وذلك بوصف الترابط خطوة من خطوات النهوض بوعائية القالب المحددة بسمات لا يمكن تخطيها، لاكتمال عدتها الإطارية التي بها يستقبل القالب المزيد من النصوص، رابطا مختلف الصيغ والأنماط والأشكال، ومبقيا فكرته الاحتوائية حاضرة بعيدا عن أي خرق أو انتهاك يضعف فاعليته الترابطية. وما ارتباط النص بالقالب وتحول صورة الكتابة إلى قالب أجناسي، ثَبُت اختلافه عن أي جنس آخر سوى تطور تاريخي ممتد في فكرة الأجناس. هذا التطور الذي لا انفصال في مراحله فهي متواصلة ومتصلة وفي حالة تحول دائم وحركة ذاتية. والتراكيب لا تستجد أو تتوالد إلا بترابط يساعد على إعادة النمو والتشكل من جديد وباستمرار، فيتماهى القديم والضعيف والمتهاوي والسطحي، في ما هو أقوى وأجدد وأصلب وأعمق.
وبهذا يكون العبور ناجزا بالانبثاق من الترابطات التي ساهمت في إعادة تقنين الفضاء الكتابي بين المعبور والعابر. وفي النتيجة تغلبت الأجناس العابرة على الأشكال والأنواع والأجناس الأضعف استجابة لمستلزمات الترابط البنائية ومقتضيات العبور الأجناسي. فأساس الترابط تقاني وصورته تحويلية فيها تنعكس تأثيراته النوعية مشتملة على مستويات وعلاقات ومفاصل ومجسات جميعها تدخل في عملية التقولب.
إن الشروط التي يستدعيها العبور هي استجابة لمستلزمات التطور الأدبي في بعديه الشكلي والموضوعي، وباتساع واطراد يلعبان بسببه دورا مهما على صعيد الحياة الاجتماعية والفنية. وبهذا تتوثق صلات الأجناس الأدبية مع بعضها بعضا في سلسلة متشابكة من الروابط تجعلها في مجموعات، وكل مجموعة تؤلف نوعا من الأنواع الأدبية، وتتألف كل مجموعة من فصائل ورُتب شبيهة بما في أجناس الكائنات الحية من روابط تتشعب عبرها فصائلها بشكل عضوي حسب ما لها من صلات بيئية ووظائفية وما تأخذه مما حولها من طاقات تمنحها إمكانيات وتعطيها قدرات على الاستمرار والبقاء.
إن الذي يجعل جنسا ما عابرا هو ترابط أجزائه النصية، دون أن تكون معزولة عن عمليات التأطير الخارجية، التي تظل ثابتة في حدودها وراسخة في قالبها، مهما تعددت التناصات الداخلية والتعالقات النصية وكثرت صورها.
وهذا التشابه بين طبيعة الأجناس في أنواع الأدب وطبيعة الكائنات الحية إنما مرده إلى الترابط بوجود مجموعة مشتركات تجمع بينها وتجعلها في مجموعة تتشابه فيها ماهياتها، ويكون واحدا منها ممثلا للمجموعة كلها فتسمى المجموعة حينها باسمه، وقد احتفظ بمركزية خاصة بالنسبة لعناصر تلك المجموعة. والسبب في هذه المركزية هو تطوره التاريخي الذي يعطيه الغلبة النوعية. وهذا الحال هو نفسه نجده مع الجنس الأدبي الذي لا يترابط إلا لكي يؤكد استقلاله بالنسبة إلى أجناس وأشكال يشاركها سماتها، ثم يوحد بينها أكثر بإكسابها سماته التي تتطبع بها من خلال تماهيها في وعائية التقولب الذي احتواها. وبهذا يتخالف العبور مع أي مفهوم من مفاهيم الانفتاح كالتعالق النصي والتداخل الأجناسي والتنافذ النوعي، وكلها عبارة عن جمع على نية الربط كجنس بجنس، أو جنس بنوع، أو نوع بجنس أو نوع بنوع، أو نوع بشكل، أو نوع بنمط أو نوع بصيغة، دون أي غلبة أو مركزية لأحدها. وإذا كان الجنس هو المقصود بعملية التفريق بين الترابط، حين يكون لغايات التعابر، والترابط الذي يكون لغايات التداخل، فإن العبور يظل محددا بطبيعة الجنس الذي يتكيف بشمولية قالبه، ويوجه تأثيراته بقوة روابطه، متكاملا في ذاتيته، غير محتاج الاجتماع بغيره، أو التشارك معه بخصوصياته. إذ لا ثغرات يحتاج معالجتها، ولا سمات تنقصه وعليه اكتسابها، بل العكس؛ هو يتبرع بسماته بسبب ما له من قوة الترابط بين جزيئات مكوناته، فارضا على المترابط معه اكتساب خصائصه والاتسام بها. وليست فاعلية العبور عمومية في أبعادها التجنيسية، وإنما هي تجري وفق قوانين موضوعية متعلقة بالحد وأصالته، وضرورة المحافظة على جوهره الذي هو تاريخي في روابطه التي تماشي طبيعته المستقلة وتنتفع منها أيضا.
ولأن للجنس العابر هذه القوة في الترابط الداخلي مع الاحتفاظ باستقلاليته الخارجية يغدو الجنس غير العابر مرشحا قويا للتداخل ثم الاندماج، محتاجا على المستويين الداخلي والخارجي اكتساب خصوصيات القالب العابر الذي ترابط معه فصار مثله بمجرد عبوره عليه. ولا يعود للضم والجذب والاحتواء والتجسير والتماهي، أي معنى أجناسي، إذا لم يكن الترابط احتوائيا، وإلا فإن الجنس الأدبي لن يكون عابرا لأن العملية بمجموعها ستكون تشاركية تداخلية. والمطلوب في العبور هو أن يتجاوز الجنس أي تشارك بوجود الروابط التي بها يكون التداخل النصي مجرد خطوة داخلية تتبعها خطوات الضم والتجسير والاحتواء والتماهي، وختامها هو العبور.
إن الذي يجعل جنسا ما عابرا هو ترابط أجزائه النصية، دون أن تكون معزولة عن عمليات التأطير الخارجية، التي تظل ثابتة في حدودها وراسخة في قالبها، مهما تعددت التناصات الداخلية والتعالقات النصية وكثرت صورها. وهو ما يجعل حدود الجنس العابر مميزة ومختلفة حتى لا مجال لفتح ثغرة ما فيها أو القيام بأي إجراء يعكر صفو الانتظام الإطاري وترابطه البنائي والتاريخي، هذا الترابط الذي يعمل بشكل ذاتي السيطرة. أما القول بإن هذه السعة في الجنس العابر بسبب الضم والاحتواء تعني أنه نص مفتوح، فمردود عليه بأن النص المفتوح يظل نصاً ولا علاقة له بالتأطير الحدي الذي هو خصوصية أجناسية. بعبارة أدق نقول لا مجال لأي نص أن يكون جنسا وهو بلا حدود إطارية، كبر هذا النص أو صغر، وسواء تعدد أو انفرد. فحديثنا عن القصة القصيرة كنص هو حديثنا عن شيء موصوف من خلال بعضه وليس كله. وإذا قلنا إن هذا الشيء هو البيت فإن حديثنا عن بعضه كغرفة أو شباك أو جدار لن يعطينا صورة للشكل النهائي لهذا البيت بينما يكون حديثنا عن البيت كوحدة واحدة من سوره الخارجي، إلى تفاصيل محتوياته الداخلية، عاكسا لنا شكله النهائي وصورته الكلية. وما القصة القصيرة بحديّة قالبها العابر وبنائية أساليبها الفنية، وتنوع محتوياتها الفكرية، إلا كالبيت في كليته وخصوصية ما في داخله.
كاتبة عراقية