البرزاني و”الموساد”.. ما خفي أخطر!
حسني محلي
لا بد من العودة قليلاً إلى التاريخ للتذكير بسجلّ عائلة البرزاني الأسود في العلاقة مع “إسرائيل”، ليس ضد العراق فحسب، بل ضد دول المنطقة وشعوبها عموماً أيضاً. وقد نُشر الكثير من الكتب والمقالات في الغرب حول خفايا هذا التعاون. ويبدو واضحاً أنه ما زال مستمراً بزخم أكبر، بسبب تورط عائلة البرزاني في قضايا خطرة جداً من خلال هذه العلاقة بجانبيها المعلن والسري.
بدأت هذه العلاقة بروفين شيلفا، الذي ذهب إلى بغداد في بداية العام 1931، ممثلاً عن الوكالة اليهودية، عندما كان العراق تحت الانتداب البريطاني. وكانت مهمة شيلفا الذي حضر هناك بصفته صحافياً تتمثّل بالاتصال بالعشائر الكردية في الشمال العراقي والبحث عن اليهود الكرد لإقناعهم بالهجرة إلى فلسطين. وقد نجح شيلفا بإقامة علاقات وطيدة مع العديد من الكرد، المسلمون منهم واليهود، وهو ما استغلَّه “الموساد” بعد قيام “إسرائيل” في مهماته الخطرة بدءاً من العام 1951، ومنها تفجير المعابد اليهودية لتخويف اليهود العراقيين وإجبارهم على الهجرة إلى “إسرائيل”. وقد تحقَّق هذا الأمر، إذ هاجر ما بين العامين 1951 و1955 نحو 140 ألف يهودي عراقي، بما فيهم يهود كرد، إلى فلسطين، ومنهم إسحاق موردخاي، من مواليد زاخو شمال العراق، والذي أصبح وزيراً للأمن في العام 1996. وكان عملاء الموساد آنذاك يقولون “إنَّ المسلمين، وانتقاماً لاغتصاب فلسطين، سيفعلون باليهود ما فعله هتلر بهم إبان الحرب العالمية الثانية وخلالها”.
وجاء انقلاب عبد الكريم قاسم الذي أطاح حكم الثنائي فيصل (الأصح: عبدالإله) – نوري السعيد، الذي كانت علاقاته مع “تل أبيب” وطيدة، سواء مباشرة أو من خلال حلف بغداد الَّذي كان يضمّ تركيا وإيران وبريطانيا، ليشجّع “الموساد” على المزيد من الاهتمام بالشمال العراقي، وعبر علاقاته مع العشائر الكردية، وأهمها عائلة البرزاني، فقد أرسل عبر إيران وتركيا العديد من ضباطه لتدريب مسلحي البرزاني، وكان اليهودي الكردي أفرائيم همزة الوصل بين الطرفين. وسمى الموساد دعمه الكرد “عملية السجاد”، وكأنَّه كان يريد لهذه العملية أن تكون بمثابة “السجاد الأحمر لدخول المنطقة عبر كردها”.
خلال تلك الفترة، التقى مدير عام وزارة الأمن الإسرائيلية شمعون بيريز كاميرون بدرخان، ممثلاً عن الملا مصطفى البرزاني، واتفق معه على سلسلة من خطوات المواجهة ضد العدو المشترك بغداد. وفي صيف العام 1966، قام الوزير الإسرائيلي لوفا آلياف بزيارة سرية إلى شمال العراق، وتبرّع للكرد بمستشفى عسكري قرب الحدود مع إيران. وكان الملحق العسكري الإسرائيلي في طهران يعقوب نمرودي همزة الوصل بين البرزاني و”تل أبيب”. وقد نجح بإقناع الطيار العراقي منير روفا، وهو من الموصل، بالهرب بطائرته “ميج 21” إلى “إسرائيل” في آب/أغسطس 1966، وهو ما ساعد الأخيرة على التصدي للطائرات السورية والمصرية خلال حرب حزيران/يونيو 1967، بعد أن اكتشفت نقاط الضعف فيها.
وفي نيسان/أبريل 1968، وبعد أسابيع من حرب حزيران، قام الملا مصطفي البرزاني بزيارة سرية إلى “تل أبيب”، والتقى وزير الأمن موشيه دايان، وأهداه خنجراً “لطعن العدو المشترك من الخلف”. وردّ دايان على هدية البرزاني بإرسال شحنات متتالية من الأسلحة الثقيلة إلى شمال العراق، وعبر الحدود مع إيران، كما أرسل العشرات من الضباط الإسرائيليين لتدريب البشمركة الذين ألحقوا أضراراً بالغة بالجيش العراقي، وخصوصاً في منطقة كركوك النفطية.. وبعد ذلك التاريخ، عاد البرزاني مرتين إلى “إسرائيل”، إذ كان يخضع للعلاج في المستشفيات الإسرائيلية، ويوقّع في كلّ مرة على المزيد من اتفاقيات التعاون العسكري والاستخباراتي بين الطرفين.
وفي أواسط السبعينيات، وبعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وبروز الدور السوفياتي في المنطقة، زادت “تل أبيب” تعاونها مع الكرد، وأرسلت إليهم الأسلحة والخبراء والأموال، وزوّدتهم بكل المعلومات عن الدولة العراقية.
وقد اعترف القيادي الكردي محمود عثمان في أكثر من مقابلة صحافية بالعلاقة الوطيدة بين البرزاني و”تل أبيب”، كما اعترف بزياراته وزيارة القيادات الكردية العراقية إلى “إسرائيل” ولقاءاتهم المسؤولين الإسرائيليين الذين زاروا بدورهم كردستان العراق باستمرار.
واقترحت غولدا مائير (أصبحت في العام 1969 رئيسة للوزراء بعد أشكول) على البرزاني تشكيل جهاز استخبارات كردي مدعوم من “الموساد”، وهو الموضوع الذي بحثه البرزاني أساساً مع زالمان شازار وليفي أشكول خلال زيارته “تل أبيب” في صيف 1968، وأدى جهاز المخابرات الإيراني سافاك دوراً فعالاً في هذا التعاون.
وجاءت حرب الخليج الثانية وهزيمة العراق في الكويت فرصة ثمينة للنشاط الاستخباراتي الإسرائيلي في الشمال العراقي، بعد أن جاءت قوات المطرقة (أميركا وبريطانيا وفرنسا والمانيا) إلى تركيا لحماية كرد العراق شمال خطّ العرض 36. وساهم ذلك في إقامة الكيان الكردي المستقلّ في المنطقة، بدعم من تركيا، إذ أمر تورغوت أوزال جيشه بالتوغل في الشمال العراقي لضمّه إلى تركيا، ورفض رئيس الأركان ذلك بعد تحذيرات أميركية.
واستغلّ عملاء “الموساد” الفراغ الأمني والعسكري والسياسي، فصالوا وجالوا في المنطقة، ونقلوا الأسلحة والمعدات القتالية إلى البشمركة البرزانية عبر القواعد الأميركية في تركيا، كما نجحوا بإقامة مقرات سرية للموساد في العديد من مناطق شمال العراق، وكانوا على اتصال مع عملائه في الداخل العراقي عموماً.
وقام عملاء الموساد خلال هذه الفترة بمسح اجتماعيّ للوصول إلى المئات من العائلات الكردية ذات الأصول اليهودية لإقناعها بالهجرة إلى “إسرائيل”، مستغلين الوضع الأمني والاقتصادي والنفسي السيئ في المنطقة. وقد تمَّ نقل هؤلاء إلى “إسرائيل” عبر تركيا، كما فعلت المخابرات الأميركية، عندما نقلت المئات من عملائها من العراق خلال الفترة الممتدة بين 1995 و1997.
وجاء الاحتلال الأميركي للعراق بمخطّطات صهيونية صاغها ونفّذها نائبا وزير الدفاع الأميركي ريتشارد بيرل وبول فولفوويتز، وهما يهوديان صهيونيان، ليساعدا الموساد على مزيدٍ من التحرك في الشمال العراقي والعراق عموماً، وهو ما كان كافياً لسرقة الآلاف من المخططات والآثار اليهودية من المتحف الوطني العراقي يوم سقوط بغداد في 9 نيسان/أبريل 2003، ونقلها إلى “إسرائيل” مباشرة.
وأدى الحاكم العسكري الأميركي آنذاك جاي غارنير، وهو صهيوني من صقور المحافظين الجدد، دوراً مهماً في ترسيخ الوجود الإسرائيلي الاستخباراتي والعسكري المكثف في العراق وشماله، بالتنسيق والتعاون مع مسعود البرزاني وأمثاله من الكرد والعرب الذين كانوا، وما زالوا، على علاقة وطيدة مع “تل أبيب”. وبفضل هذا التنسيق والتعاون، عاد المئات من الكرد اليهود من “إسرائيل” إلى العراق، واستعادوا جنسيتهم السابقة، ليساعدوا “تل أبيب” على القيام بالعديد من الاستثمارات الاقتصادية والتجارية والعسكرية، والأهم الاستخباراتية (ضباط متقاعدون من الموساد يشرفون على أمن مطار أربيل، ويقومون بتدريب عناصر المخابرات الكردية الذين يتحدثون العربية والكردية والفارسية). كلّ ذلك عبر العديد من المراكز السرية التابعة للموساد، ومنها المركز الذي قصفه الإيرانيون.
ولم يهمل عملاء المخابرات أيضاً القيام بحفريات أثرية سرية في مدينة بابل الأثرية، بحثاً عن تاريخ اليهود الذين قام ملك بابل نبوخذ نصر بأسرهم مرتين في العام 579 و586 قبل الميلاد. كما قاموا بحفريات مماثلة في منطقة أور، مسقط رأس النبي إبراهيم، وهو ما دفع الحاكم العسكري الأميركي غارنر إلى عقد أول لقاء مع قيادات المعارضة العراقية هناك، وليس في العاصمة بغداد.
ويقول بعض المؤرخين اليهود “إنَّ اليهود الكرد هم من بقايا السبي البابلي، حالهم حال يهود الخزر”، فيما يرى بعض الكرد “أنَّهم من أحفاد يوسف وبنيامين، وهما من أولاد يعقوب، وأحفاده هم بنو إسرائيل”. ويقول إسحاق بن تسيفي إنَّ الكرد “هم أحفاد القبيلة العاشرة التي اختفت في جبال كردستان خلال السبي البابلي وبعده”، وهو ما يثبته “وجود العديد من مقابر الأنبياء والأولياء اليهود في كردستان العراق”، بحسب ادعاءات بعض المؤرخين اليهود.
وكان هؤلاء المؤرخون قد أوصوا الأجهزة الإسرائيلية بمساعدة اليهود الكرد لشراء مساحات واسعة من الأراضي، ما دامت ضمن حدود “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ودجلة”، وقريبة من إيران؛ الخطر الأكبر بالنسبة إلى “إسرائيل”.
وقد استغلَّ “الموساد” وجوده في كردستان العراق للقيام بأنشطة مكثفة في إيران (بعد الثورة الإسلامية فوراً) وتركيا وسوريا (حالياً)، وخصوصاً شرق الفرات، حيث الميليشيات الكردية المدعومة من واشنطن وعواصم أوروبية، على الرغم من أنَّ “الموساد”، وبالتنسيق مع المخابرات الأميركيّة، اختطف زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من نيروبي، وسلّمه لتركيا في 14 شباط/فبراير 1999، بعد أن غادر سوريا في 9 تشرين الأول/أكتوبر 1998.
ويعدّ جنوب شرق تركيا، حيث يسكن الكرد، منطقة مهمة بالنسبة إلى اليهود. وقد هاجرت أول قافلاتهم من مدينة أورفة (عاش فيها النبي إبراهيم) إلى فلسطين في العام 1907 في عهد السلطان عبد الحميد. وسبق لآلاف اليهود الإيرانيين أن هاجروا إلى فلسطين قبل قيام “إسرائيل” وبعدها، ومنهم موشي كاتساف (والده كان قصاباً في مدينة يزد الإيرانية) الذي أودع في السجن مدة 5 سنوات، بتهم الاغتصاب والتحرش الجنسي بالنساء العاملات في مكتبه عندما كان رئيساً لـ”إسرائيل” في الفترة الممتدة بين العامين 2000 و2007.
واللافت أنّ يهود إيران لم يكونوا ضمن اهتمامات “الموساد” الإسرائيلي في عهد الشاه رضا بهلوي، وهو ما يفسر اعتراض ليفي أشكول ووزير خارجيته أبا إيبان على توصية زالمان شازار لمصطفى البرزاني خلال زيارته “إسرائيل” في نيسان/أبريل 1968، بحجّة أن ذلك سيحرجهما في علاقاتهما مع الشاه رضا بهلوي، ولأنَّ أشكول طلب من البرزاني “النضال من أجل الاستقلال وإقامة دولة كردية، بدلاً من الحديث عن حكم ذاتي لهم في شمال العراق”، وهو ما سعى إليه مسعود البرزاني في أيلول/سبتمبر 2017، عندما استفتى الكرد على الاستقلال بناء على توصية اليهودي الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي.
أما مناحيم بيغين الذي التقاه البرزاني، فقد قال في العام 1981 خلال الحرب العراقية – الإيرانيّة: “لقد قدمنا للكرد، وما زلنا، كل ما يحتاجونه من المال والسلاح في حربهم ضد بغداد، ولكنهم يتقاتلون فيما بينهم، وهو ما يتلف أعصابنا”. وكان بيغين صائباً في تقييمه هذا، إذ كان الملا مصطفى البرزاني، وبعده مسعود، والآن ناتشيروان ونجله مسرور، ينسقون ويتعاونون بشكل دائم مع “تل أبيب”، حتى في تنافسهم وصراعهم، تارةً مع حزب العمال الكردستاني التركي، وتارة أخرى مع الفصيل الكردي العراقي الآخر، أي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، الذي يتهمه أتباع البرزاني ومن معهم بأنه كان مقرباً من دمشق وطهران؛ عدوّي “تل أبيب” ودول إقليمية أخرى.. هذا الأمر انعكس على موقف مسعود البرزاني الَّذي رشّح بالتحالف مع مقتدى الصدر ومحمد الحلبوسي قريبه ريبر برزاني، وهو ذو أصول أمنية واستخباراتية، لمنصب رئيس العراق ضد الرئيس الحالي برهم صالح، وهو من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
ويرى البعض في هذا التحدي الكردي – الكردي جزءاً من مشروع إقليمي جديد يستهدف إيران وسوريا مع دعم أنقرة وأبو ظبي والرياض لهذا التحالف. ويفسر ذلك وجود عدد كبير من ضباط “الموساد” وعناصره في مناطق البرزاني، ومهمتهم الوحيدة هي كسب المزيد من المواقع داخل العراق من العرب والكرد والسنة والشيعة، بهدف الاستفادة منهم في الحرب ضد إيران استخباراتياً وعسكرياً، ولاحقاً اقتصادياً وسياسياً.
وكان الموقع الذي قصفته إيران أحد أهم المراكز التي تعمل بغطاء أميركي وعراقي وكردي برزاني. هؤلاء جميعاً أقاموا معاً الدنيا وأقعدوها بعد تدمير الموقع، في الوقت الَّذي يتجاهل كلّ هؤلاء الوجود الأميركي والبريطاني والفرنسي والإسرائيلي، السري منه والعلني، في العراق عموماً، وبتآمر من أطرافه المختلفة.