هل أيقظت الصواريخ الإيرانية سُبات السيادة العراقية؟
هل توجد سيادة في ظل حكم الأتباع والذيول المسبحين بحمد الحاضنين الدوليين والإقليميين؟ ما معنى السيادة في قواميسهم؟ وما معنى شرف الأوطان والذود عن ترابها؟ لكن أليس من الأجدر أن نبحث أولا عن ما تعنية الأوطان لهؤلاء قبل أن نلعنهم، لأنهم لم يحفظوا السيادة؟ ثم أما سمعتم بأن العزائم تأتي على قدر أهل العزم؟ فعلامكم تنفجرون غضبا لأن اثني عشر صاروخا إيرانيا دك الأراضي العراقية الأسبوع الماضي، ومع ذلك لم يرمش لأحدهم جفن؟ عجبا، أنسيتم أن محور المقاومة ساحاته العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأن تحرير فلسطين والقدس الشريف لن يأتي إلا بتدمير هذه الساحات أولا؟
وإذا كان الزعماء المحليون لهذا المحور، أكلهم وشربهم وتدريبهم وتسليحهم، كله يأتي من الجمهورية الإسلامية الشرقية، ويصطفون خاضعين صامتين في حضرة المرشد الأعلى وزعيم فيلق القدس قآني، حينما يجول في هذه الساحات فيوجه ويرسم الخطط ويأمر، فهل يوجد بعد كل هذا من عاقل يسأل لماذا لا توجد سيادة عراقية أو سورية أو لبنانية أو يمنية؟
أسألوا أي واحد من هؤلاء الذين يمسكون بالسلطات في العراق، وبقية دول ما يسمى «محور المقاومة» عن ماذا يعنيه الوطن والدولة والسيادة بالنسبة له. سوف لن تجدوا إجابات لديه، لأن الوطن لا يشكل ومضة معنوية في عقله وضميره. الوطن بالنسبة له هو جزء من ولاية الفقيه، وهو لا يعترف بالدولة لأنه منتظم في إطار من الأطر الخارجة على الدولة، وبالتالي لا يعرف معنى السيادة تبعا لذلك. لكن إن سألتموه عمن هو، وماذا يمثل؟ ستكون الإجابة سريعة، إنه جندي من جنود الولي الفقيه، وإنه سينظم للقتال في صفوف جيش وميليشيات هذا الرجل، ضد الوطن الذي ولد وترعرع فيه، إن تطلب الأمر ذلك. هذه هي المعادلة التي تحكم الأوضاع في العراق وبقية البلدان، التي تسيطر فيها الأذرع الإيرانية على الحكم. في حين أن طهران لا تفكر في كل هؤلاء حين ترسم سياساتها، هي تفكر في نفسها وقدرتها على التأثير في العراق وغير العراق، لذلك عندما توقفت الحرب الإيرانية العراقية في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، طرحوا مقترح أن يُسلّم العراق مقاتلي منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، التي كانت تعمل على الأراضي العراقية، مقابل أن يُسلّموا للعراق الميليشيات العراقية التي كانت تقاتل معهم الجيش العراقي، وهذا الفعل معروف وليس مستغربا في العلاقات الدولية في الأمس وما زال ساريا، وهو استخدام الذيول لمرة واحدة، ثم إلقاؤهم حينما تقتضي مصالح البلدان ذلك. مثال آخر على ذلك هو تخلي شاه إيران عن الميليشيات الكردية العراقية في سبعينيات القرن المنصرم، بعد اتفاقية عام 1975 مع إيران، حيث اندحرت وهرب زعماؤها ومقاتلوها من شمال العراق بعد بضعة أيام.
إذا كان هنالك أي اعتبار لسيادة العراق في العقل السياسي لدى صانع القرار في طهران، لتعامل معه بمنطق الدولة المستقلة
إن قيام طهران بقصف محافظة أربيل شمال العراق، بحجة وجود مركز استراتيجي للموساد الإسرائيلي، لا يعبر عن حقيقة الأمر في أي شكل من الأشكال، إنه دليل على استمرار نظام الحكم في إيران بالتعامل مع العراق بمنطق الوصاية النابعة، من أنه يجب أن يكون تبعا للسيادة الإيرانية. وكما إن الدول تتحرك سريعا مستخدمة كل ما لديها من سلطات، وبضمنها القوة الصلبة في حالة وجود أي تهديد داخلي، فإن القصف الإيراني كان قد سار وفق هذا المنطق المعطوب، فإذا كان هنالك أي اعتبار لسيادة العراق في العقل السياسي لدى صانع القرار في طهران، لتعامل مع العراق بمنطق الدولة المستقلة، ووفق ما تمليه عليه منظومة القوانين والأعراف، التي تحكم علاقات الدول بعضها ببعض، والتي من أبسطها إعلام العراق بما يعتريه من مخاوف على أمنه القومي، وبما تتوفر لديه من معلومات، ثم بعد ذلك اتخاذ الموقف المناسب في حال عدم استجابة العراق لمطالبه. أيضا هو أخرج بهذا القصف الصاروخي حلقة «المقاومين العراقيين» أتباعه من سلسلة محور المقاومة، الذي يدعي قيادته. ولو كان يؤمن بأن من يمسكون السلطة في بغداد هم رفاقه في محور المقاومة، أما كان الأجدر به أن يُعلمهم بوجود هذا المركز الاستراتيجي الإسرائيلي بين ظهرانيهم، فينقضون عليه ويعتقلون ضباط الموساد فيه، فيكون صيدا ثمينا بدل أن يُقصف المكان؟ ولأنهم يتعاملون مع العراق كتابع لخريطتهم السياسية والجيوسياسية، فإنهم صدّعوا رؤوسنا بخرق السيادة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، حين قصفت موكب زعيم القدس السابق قاسم سليماني في بغداد وقتلته. كانت تنظيراتهم تقول بأن واشنطن لم تحترم سيادة العراق، وحدث القصف على أراضي دولة مستقلة ذات سيادة. إذن لماذا هي قامت بالفعل نفسه على الأراضي العراقية في محافظة أربيل مؤخرا؟ الجواب ببساطة لأنها تنظر إليه على أنه ساحتها وجزء من إقليمها الجغرافي، ومن حقها أن تبسط وتمارس سيادتها على إقليمها. لكن السؤال الكبير هو أين الرئيس ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب والنواب؟ أين العلم والدستور؟
في اللغة الموصوف أكبر من صفاته، لكن في اللغة السياسية بين طهران وبغداد، وأنقرة وبغداد، ولندن وبغداد، وواشنطن وبغداد، وعواصم أخرى، الموصوف أصغر بكثير من جميع صفاته، فالجميع لا يمكن وصفهم إلا بكونهم حراسا صغارا للطائفية والإثنية، ومصالح دول الجوار، وما بعد الجوار، وقد حاولوا خلال ثمانية عشر عاما أن يبينوا أنهم قادة ورجال دولة، لكنهم فشلوا في إثبات ذلك، لذلك كانت ردود أفعال الرئاسات العراقية الثلاث، وكأن الحدث ليس في أرض العراق التي يحكمون، فقد اكتفى رئيس الجمهورية بوصف الهجوم الإيراني بأنه (جريمة إرهابية) من دون أن يشير ولو على استحياء إلى الطرف الذي قام بالفعل. وله الحق في ذلك، لأن حزبه أهم تابع لطهران من بين الأكراد، ليس اليوم وحسب، بل منذ أيام المعارضة. أما رئيس الوزراء فلم يستطع تجاوز البروتوكول الذي رسمه لنفسه في كل المواقف، حين يسارع للجلوس في مجالس العزاء وتقديم التعزية بمقتل كل بريء على أيدي الميليشيات، وتشكيل لجنة تُدفن فيها القضية لحظة الإعلان عن تشكيلها. وهنا مارس الفعل نفسه، فذهب مستطلعا المكان الذي قصفته الصواريخ الإيرانية، وكأنه مجرد سائح يتطلع إلى مكان كان عامرا في غابر الأيام، مع تصريح مقتضب، من دون تسمية الطرف المعتدي بالقول (لا نريد أن تصبح الاراضي العراقية ساحة معركة لصراعات البلدان وخلافاتها). أما زعماء الفصائل والميليشيات، فكان منهم من هو شاكر مساند لفعل إيران، وآخر شاكر لها لدفاعها عن العراق، وثالث مبرر وذلك أضعف أنواع الانبطاح.
لقد بات يقينا أن الشعب العراقي لم يعد يراهن في حماية أرضه على أي من هؤلاء الحكام، فالأنظمة التي تحكمها دمُى لا يتطلب من السكان تصديق زعاماتها، المطلوب فقط عدم تصديق أي شيء على الإطلاق منهم، لأنهم في كل مناسبة وفي كل موقف يعلنون وبصراحة تامة، حتى لمن لم يدرك حقيقتهم بعد، أنهم فاقدوا الإرادة والرؤية. لكنهم يظنون أن شعبهم بعقول إسفنجية قابلة على امتصاص الرأسمال الوحيد الذي يملكونه وهو الأقوال بلا أفعال.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية