هل عراق اليوم بحاجة إلى رئيس؟
ما الزعامة السياسية؟ ما هي مواصفاتها ومقاساتها وتأثيراتها؟ وما الذي يعنيه منصب الرئيس في بلد عمره آلاف السنين، وفعله الحضاري شع على البشرية نورا في يوم ما، لكنه اليوم يصارع من أجل البقاء؟ ما المسؤولية الملقاة على عاتق من يحمل صفة الرئاسة فيه؟ أيجعله سُلّما كي يغتني منه وفيه، ثم يُلقيه وراء ظهره بعد أربع سنين؟ أم أن يحمله على كتفيه كي ينهض به وفيه؟
هذه الأسئلة وغيرها كُثر تستنزف عقول العراقيين كلما حان وقت اختيار الرئيس، حيث يستطيل الموعد ويتمدد من أيام إلى أسابيع ثم شهور. اجتماعات تُعقد وتنفض بلا حل.. اتصالات داخلية بين الفرقاء أملا في أن يرسى المزاد على أحدهم.. استحقاقات دستورية تنتهي ثم تُمدد.. اتصالات خارجية مع الحاضنين الدوليين والإقليميين كي يوافقوا ، ثم بعد جهد جهيد يتم تنصيب رئيس بلا طعم ولا رائحة لكنه بلون. فالمنصب يجب أن يكون بلون كردي. هل الدستور يقر بذلك؟ كلا. إذن علام الرئيس يجب أن يكون كرديا؟ لا أحد يعرف.
السياسة والعمل السياسي والمناصب اختفت منذ عام 2003 في العراق، ولم تعد فعلا اجتماعيا ينهض به رجال دولة ذوو مشروع للتغيير إصلاحي أو ثوري
وعلى الرغم من أن الدستور لا يقر بذلك، لكن العُرف يسري شاء من شاء وأبى من أبى. المفارقة أنهم يقولون إن عمل الرئيس في العراق أنه حامي الدستور، في حين أن جميع من تسنموا هذا المنصب منذ عام 2005 وحتى اليوم هم أعضاء في حزب كردي انفصالي، لا يؤمن بالعراق الموحد أرضا وشعبا ومياها وسماء. كما يصف زعماء هذا الحزب العراق بأنه دولة مصطنعة لا وجود لها على أرض الواقع من قبل. والحزب قاتل الدولة العراقية منذ تأسيسها وحتى عام 2003. وفي الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 2017، باركوا وشاركوا في طرح مشروع استفتاء لاستقلالهم عن العراق. فهل بعد ذلك من يقين يمكن أن يعتصم به الناس حين يُقال، إن الرئيس حامي الدستور في العراق؟
إن ما يقال عن منصب رئيس الجمهورية ينطبق تماما على الرئاستين للسلطتين التنفيذية والتشريعية في العراق، فلم تعد هذه المواقع مرجعا موثوقا لخدمة هذا البلد وشعبه، بعد أن أصبحت سلعا يجري التداول بها في المزاد الطائفي والعرقي كل أربع سنوات. كما أن هذا التكالب المحموم في الوصول إليها، والاستعصاء السياسي المتكرر كلما حان موعدها، يؤكدان أن العمل السياسي في العراق بات مختزلا بالحصول عليها، وبذلك تحققت معضلة كبيرة في هذا البلد، وهي أن هذه الوظائف أُفرغت من محتواها الوظيفي والأخلاقي والمادي والمعنوي، وبالتالي أصبحت مصدرا للجاه والثراء فقط وليس للنفوذ. فالتكالب والترضية والمساومة لهذا الطرف أو ذاك، بمواقع حكومية مقابلة أو بمبالغ مادية، ينزع حالة النفوذ من المنصب، لأن أصحاب النفوذ تخلوا عنه لكنهم لم يتخلوا عن نفوذهم عليه، لذلك يبقى من هم خارج المنصب أكبر نفوذا من شاغله، وعليه لن يكون هنالك من دور لرئيس الجمهورية أو الرئاسة في السلطتين التنفيذية والتشريعية في صنع سياسة البلد. وهنا تبرز وبوضح إشكالية الانفصام بين حقيقة ممارسة السلطة الموجودة في كل مكان خارج الدولة، والشكل الخارجي للدولة. وقد أدت حالة الانفصام هذه إلى أضعاف الجميع، لأن جهاز الدولة قائم لكن السلطة ليس فيه، بل موزعة على أخرين في الداخل والخارج، وبذلك يصبح الرئيس مندوبا عن الأكراد، ورئيس الوزراء مندوبا عن الشيعة، ورئيس البرلمان مندوبا عن السُنة، ولا أحد من بين هؤلاء من هو مندوب عن العراق وشعبه.
لقد حرص كل الذين تولوا منصب الرئاسة على ممارسة الكذب على شعبهم بالحديث عن السيادة والاستقلال والابتعاد عن المحاور، وهللوا لخريطة العراق الموحد وشعبه الواحد، لكن أيا منهم لم يستطع الاستثمار في الأصول المادية والمعنوية للمنصب، كي يخدم بها الناس والوطن، هم فقط حرصوا على زيادة رغبتهم في تجاهل الحقائق المأساوية التي يمر بها الناس، فجعلوا من السنوات التي يمضونها في المنصب مجرد فرصة لتنمية شخصيات محبوبة يلصقونها على ذواتهم، كي يبدوا مناسبين لفترة رئاسية ثانية وثالثة، وربما رابعة، لكن حقيقة الأمر هي أنهم كانوا يعيشون بعيدا عن الناس في عوالم خاصة بهم. لقد نسوا أن صلاح الدين الأيوبي، حين أراد الذهاب إلى الحج، منعه العلماء من القيام بذلك لأن الأمة كانت بحاجة إلى وجوده بينهم، على الرغم من أنه عقد الصلح مع قلب الأسد. هذا دليل واضح على أهمية موقع القيادة والزعامة في حياة الأمم والشعوب، لكن يقينا ليس العراق وشعبه بحاجة إلى رئيس كان يقول لأستاذه في الجامعه أيام المعارضة، رجاء لا تذكر اسم العراق على لسانك، لأن ذلك يوجب عليك غسل فمك من أدران هذه الكلمة. وإذا كان هذا النمط من الزعماء السياسيين يتخذون من الوقاحة عقيدة سياسية، فإن ذلك لم يعد ينطلي على أحد ولن يُثبّت دالة لهم على شعبهم.
يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، إن هنالك ثلاثة مصادر لشرعية الوصول إلى السلطة: شرعية تقليدية تاريخية متداولة، مات الملك عاش الملك. شرعية قانونية تأتي بالانتخابات الحرة النزيهة. وشرعية تأتي من الكاريزما التي تأتي بالفطرة مع الإنسان، إذا أقترنت بالثقافة والتجربة أنتجت قيادات تاريخية. فهل ينطبق أحد هذه الشروط على الرؤساء في العراق؟ يقينا لا، لأن الوصول إلى كل المناصب في البلد ليس مرتبطا بأية شرعية. إنه مرتبط فقط بتوافق مصالح الأحزاب في الداخل، ومصالح القوى الخارجية الحاضنة، كما أن من يتسنم المنصب خاصة الرئاسات الثلاث، ليس المطلوب منه أن يمارس السياسة كفعل اجتماعي يخدم به الناس، فالسياسة والعمل السياسي والمناصب اختفت منذ عام 2003 في العراق، ولم تعد فعلا اجتماعيا ينهض به رجال دولة ذوو مشروع للتغيير إصلاحي أو ثوري. كما لم تعد الوطنية رأسمال يغذي العمل السياسي للرئيس، لأنه في العراق ليس مطلوبا منه تقديم برامج رؤيوية حقيقية للمجتمع. المهم أن يكون قادرا على دغدغة عواطف الناس وتحشيدهم وتجييشهم لقضاء أعمال مرحلية وليست منهجية. وكل وجوده بالمنصب مرتبط بإثبات أن قوميته أو طائفته موجودة في المشهد السياسي، حتى إن كانت هذه الأطياف الاجتماعية لا تعترف به ولا بدوره، ولا هو يمثلها حقيقة. لقد ذهب بعض المفكرين في علم السياسة إلى تحديد عوامل نجاح أو فشل الرئيس، فقالوا إنه الطبع ثم الشخصية مضافا إليها كيف يقارب الرئيس عمله الرئاسي، وهم يجزمون بأن الرئيس الفعلي عليه واجب كبير لدفع الأمور، أي يجب أن لا يسمح للأمور بأن تتجاوزه، وأن مهمته الأساسية دفع الأمور والأحداث عبر الإقناع والتفاوض، لكن عندما يكون وجود الرئيس وطبعه وعمله وشخصيته وتاريخه، كلها مرتبطة ومُسخّرة للعيش في نفق الهويات الفرعية، أليس هذا دليلا على أن العراق عاد إلى ما قبل قيام الدولة الوطنية بفعل جهود الرئيس ورفاقه؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية