من هو المرتزق وما دوره؟ ما الدافع وراء ذهابه للقتال في أي مكان؟ هل هنالك مؤسسات وشركات للمرتزقة أنشأتها حكومات؟ وماذا تستفيد الدول من المرتزقة؟
واهم من يظن أن المرتزقة ظاهرة حديثة المنشأ والولادة، بل الحقيقة إنها تعود إلى قرون خلت. فقد أنشأ الإيرانيون فرقة مرتزقة أطلقوا عليها تسمية «الخالدون» في عام 400 قبل الميلاد. وكان قوامها عناصر من الجيوش التي هُزمت أمامهم في المعارك، ثم وقعوا في أسر القوات الإيرانية، فاستخدموهم كدروع واقية لطلائع جيوشهم في الحروب.
وفي أوروبا استعان الملوك والأمراء في هذه القارة بمقاتلين كعناصر حماية لهم مقابل أجر، وكان اختيارهم يتم من البلدان التي يتميز رجالها بالبنية الجسدية القوية. حصل هذا في مطلع القرن الرابع عشر، ثم تطور الأمر كثيرا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث تم تأسيس شركات في سويسرا وإيطاليا وألمانيا، تقدم المرتزقة لمن يطلبهم للقتال في الحروب التي كانت مستعرة في أوروبا.
أما بعد الحرب العالمية الثانية فإن سوق المرتزقة بات الأكثر تداولا، بفعل السيطرة الاستعمارية على دول وشعوب فقيرة خاصة في افريقيا، ومناطق أخرى من العالم. وكانت الدول الاستعمارية تسوق مئات آلاف من البشر للقتال في أماكن أخرى في سبيل صنع مجدها، والسيطرة على الثروات الطبيعية، بينما كان جنرالاتها يخططون في أماكن حصينة، وضباطها يأمرون هؤلاء المغلوب على أمرهم بالتقدم، وحتى هذه الفترة لم يكن المرتزقة يعرضون جهدهم بإرادتهم، بل كانوا يُساقون بالقوة إلى حتفهم. ومع التطور الذي مرّ على البشرية يبدو أن هذه الظاهرة اتجهت إلى نوع من المأسسة، حيث بدأ العالم يسمع ويرى وجود مقاتلين أجانب مهنتهم الأساسية هي القتال في أي مكان وفي أي وقت. وهذا الفعل لا يمت بصلة إلى المؤسسات التي تحتكر بها الدولة الاستخدام الشرعي للقوة، كالجيوش الوطنية، التي تقاتل من أجل الأوطان وبعقيدة عسكرية قائمة على الذود عن سيادة واستقلال البلد، بل هم يقاتلون تحت لافتة مؤسسات تجارية تقدم خدمات قتالية من أجل المال وليس أكثر. لكن الإشارة الأكثر أهمية، أن بعض القوى الدولية والإقليمية أيضا، بدأت ببناء علاقات مع هذه الشركات للاستفادة من خدماتها في عمليات سرية، وأخرى في ساحات علنية كالحروب، لذلك بدأنا نسمع بأسماء عدد من الشركات التي توفر المرتزقة، محسوبة على هذا الطرف الدولي وذاك الإقليمي. ففي أثناء غزو واحتلال العراق برز اسم شركة «بلاك ووتر» الأمريكية كلافتة علنية كبيرة، حيث قام الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر بالتعاقد مع هذه الشركة بمبالغ مالية ضخمة تعدت حاجز الملايين من الدولارات. وكانت الخدمات التي قدمتها هذه الشركة هي توفير الحماية للكوادر الأمريكية المدنية والعسكرية وبقية عناصر الحلفاء، كذلك كانت خدماتها تشمل الطبقة السياسية التي جلبها المحتل معه لحكم العراق. وقد ارتكب مرتزقة هذا الشركة جرائم بشعة بحق المدنيين، لعل حادث ساحة النسور في بغداد التي راح ضحيتها العشرات من المواطنين الأبرياء على يد هذه الزمرة أبرز مثال على ذلك.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تبدو الرائدة في هذا المجال باستعمالها شركة بلاك ووتر، فإن بلدانا مثل روسيا وإيران وتركيا تستعمل شركات مرتزقة أيضا. حري بالذكر أن استعمال هذه الشركات يكون حسب طبيعة الأهداف الجيوسياسية لكل دولة من هذه الدول. فروسيا تستخدم شركة فاغنر التي أسسها الروسي ديمتري أوكين، وهي وسيلة جيوسياسية وجدت في نقاط الاهتمام الروسي في أوكرانيا، سوريا، ليبيا، مدغشقر، افريقيا الجنوبية وفنزويلا. كذلك تركيا تستعمل شركة تسمى «سداد» في ساحات فيها أهداف واهتمامات أمنها القومي، وهي تستخدم مقاتلين من سوريا للقتال في الخارج، حيث وجدت في ليبيا ومالي. أما إيران التي يقول التاريخ كان لديها مرتزقة منذ عام 400 قبل الميلاد، فإن هذه الريادة جعلت شركات المرتزقة التي أنشأتها تختلف كليا عن ما هو متعارف عليه في أمريكا وروسيا وتركيا. فقد ابتكرت ميليشيات من دين ومذهب واحد تحت عباءة ولاية الفقيه، أنشأتها محليا في كل بلد من البلدان التي تتلاعب بنسيجها الاجتماعي، فمرتزقة الحوثيين في اليمن، ومرتزقة حزب الله في لبنان، ومرتزقة الحشد الشعبي في العراق، ومرتزقة من باكستان وأفغانستان ظهروا في سوريا. وكل هذه الحشود من المرتزقة تُستخدم لتحقيق الأهداف الجيوسياسية الإيرانية، التي رسمها المرشد الأعلى وبقيادة الحرس الثوري الإيراني، حيث قاتلت مجتمعة أو بشكل منفرد في سوريا والعراق واليمن ولبنان.

اتجهت الدول، ديكتاتورية وديمقراطية، ذات قيم ومن دون قيم، غربية وشرقية، إلى استخدام المرتزقة للتهرب من الجرائم التي ترتكبها الحكومات في الحروب

أما اليوم فهنالك مسرح كبير تتوفر فيه آلاف فرص الموت لكنها فرص عمل للمرتزقة، إنها الساحة الأوكرانية التي باتت ملعبا يتبارى فيه الروس والغرب على من يُقدّم فرص عمل أفضل وموت محتوم إلى آلاف من المرتزقة. وقد بدت وكأنها من أبرز ملامح الحرب على هذه الساحة، بعد أن أعلنت كل الأطراف الترحيب بكل مرتزق للقتال ضد الطرف الآخر، فالرئيس الروسي يعلن الترحيب بمرتزقة من الشرق الأوسط، ويضع شروطا لهم وهي القتال من أجل المبدأ، وليس المال، لكن حديث بعض هؤلاء المرتزقة عن قيمة المدفوعات لهم فنّد الإعلان الروسي. والرئيس الأوكراني كان إعلانه مُبكرا أكثر من بوتين عن توافد آلاف الغربيين للقتال إلى جانب قواته، لكن الأكثر دهشة هو أن وزيرة خارجية بريطانيا تعلن على الملأ في 27 فبراير/ شباط الماضي، بأن كل من يريد القتال من البريطانيين في أوكرانيا ضد الروس مُرحّب به. وعلى الرغم من أنها سحبت كلامها هذا، وخرج رئيس الوزراء البريطاني ليرفض الفكرة، لكنها بينت بصورة واضحة نفاق الغرب وازدواجية معاييره. يقابل هذا الفعل فعل مثير للدهشة أيضا، حين تفتح السفارات الأوكرانية في العالم أبوابها لتسهيل ذهاب كل مرتزق يروم القتال ضد الروس في أوكرانيا. وتتوالى سلسلة المُدهشات في الحرب الأوكرانية حين ينضم بعض الأشقاء السوريين إلى جيوش المرتزقة فينقسمون إلى فريقين. فريق يؤيد النظام فيذهب للقتال إلى جانب موسكو ردا لجميل روسيا على النظام. وفريق يُعارض النظام فيذهب للقتال إلى جانب كييف للانتقام من روسيا التي دعمت النظام السوري. وبعيدا عن آلاف الدولارات التي قيل إنها تُدفع لمن يعمل بصفة مرتزق في الحرب الروسية الأوكرانية من قبل الطرفين، وآلاف أخرى تدفع لعائلته في حال مقتله، يبقى السؤال قائما هل من أخلاقيات بقيت في الحروب؟
لقد اتجهت الدول، ديكتاتورية وديمقراطية، ذات قيم ومن دون قيم، غربية وشرقية، إلى استخدام المرتزقة للتهرب من الجرائم التي ترتكبها الحكومات في الحروب. فتُهمة قتل الأسرى التي تقوم بها الدول تُلقى على عاتق هؤلاء في حالة اكتشافها. ولتقليل الخسائر في الجيوش الوطنية وتجنبا لنقمة الشعوب، يجري الزج بهؤلاء في الأماكن التي يجري اقتحامها، خاصة حقول الألغام. وإذا كان ميكافيلي دعا في القرن الخامس عشر إلى تشريع قانون الخدمة الإلزامية للقضاء على خدمات المرتزقة، الذين يذهبون إلى كل من يدفع أكثر حسب قوله، فاليوم أصبحت حتى الخدمة الإلزامية مصدرا لتخريج آلاف المرتزقة من الشرق الأوسط. فحال انتهاء خدمة الجندي يجد أن الدولة عاجزة عن توفير فرصة عمل له، فتتلقفه شركات المرتزقة الدولية للعمل لديها، كونه حاصلا على التدريب اللازم.