في أفانين السرد غير الواقعيّ
منذ القدم والقصُّ بالنسبة إلى الإنسان حاجة من حاجاته الضرورية ووسيلته للتسلية والتسرية، وهو يجمع أفراد أسرته ويعلل ما يراه غريباً ويسمي الأشياء بأسمائها، أو يستعير لها مسمى آخر بشفاهية وبفاعلية تخييلية تنبثق بتلقائية، فيها كم من السحر وكم من الواقع.
وبسبب هذا التلازم بين الإنسان والقص تنوعت طرائق الحكي، ولم تستقر على صيغ معينة، بعكس الشعر، الذي أرسى قواعده قبل عصر الكتابة ثم تعززت تقاليده أكثر مع معرفة الإنسان لها، فدُوّن الكثير من القصائد وظل أغلب القصص يروى عن ظهر قلب كأساطير وخرافات وأمثال وأغاني أطفال وما شاكل ذلك مما ظلت الذاكرة هي وسيلة حفظه وتناقله من جيل إلى جيل.
لا يُعدم وجود تقاليد للقص لكن أسسها ترسخت كأجناس محددة في مرحلة بعيدة عن مرحلة إرساء تقاليد الشعر، ولهذا صار الاعتقاد أن السرد تال للشعر، أو أن أجناس السرد حديثة النشأة بالنسبة إلى أجناس الشعر. وخير دليل على ذلك أنّ ملاحم السومريين والإغريق بُنيت على ما وصل إليهم من قصص أسطورية وحكايات خرافية تعود إلى عصور شفاهية سبقتهم لم تُعرف فيها الكتابة بعد. أما العرب فقد امتلكوا مخزوناً ثراً من الحكايات الخرافية عن الغول والسعلاة والجن، وبعضها تضمنته المعلقات وعزز القص القرآني بعضها الآخر، فدُوّن مع ما تم تدوينه من سير الأنبياء وأخبار الأمم والملوك والأمثال والأحاجي والنوادر والأخبار، فضلا عما أدته قصص ألف ليلة من أثر في القصص الشعبية، التي ظلت شفاهية باستثناء قصص معدودة.
وعرفت أوروبا في العصور الوسطى الرومانس، وهي حكايات قصيرة تشوبها المغامرات والخيال كقصص الساحرات والعشاق والشطار والرعاة، ثم تطورت في عصر النهضة وما تلاها فُعرفت القصة الطويلة ثم الرواية القوطية والرواية الفكتورية، ومعها تخفف البعد الخيالي وتطور البعد الواقعي وتعزز أكثر.
وخلال هذه المراحل الطويلة من تطور السرد الفني، كانت الشخصية هي الأساس في الحكي وهي المقصد في صورتين: صورة آدمية هي غالباً ما تكون رجلاً سمته البطولة والاستبسال، وصورة غير آدمية هي غالباً ما تكون خرافية ذات قدرات غير معقولة وخارقة وسحرية تفوق التصور ولا تماثل أي شيء في العالم الواقعي. وإذا كانت الصورة الأولى لبطل خارق وصنديد غير متحققة بشكل تام على أرض الواقع، لكن لها أساسا يسمح بالبناء على خلفية ما هو موجود بالفعل، فإن الصورة الثانية لكائن خرافي ليست متحققة واقعيا، أي لا أساس تُبنى عليه خرافيتها؛ فمن أين إذن أتى بها القاص البدائي؟ وكيف حاكى في وعيه ما لم يره ولا سمع عنه أو خبر بعض أسراره؟
يذهب جيل دلوز في تفريقه بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبّعة إلى أن الحدس هو أبسط أنواع التفكير، ويقوم على الاستشراف التلقائي حيث الأساس بلا أس، بمعنى أنه عدمي وافتراضي يصدر في شكل مشوش من اللامعنى، وعدَّ (الافتراضي هو أساس للفعلي.. هذا ما يسميه دلوز منطق الدورة المزدوجة) وليس شرطاً في المعيش الانتماء إلى واقع ممكن، وهذا (الممكن) هو مقولة من المقولات الأفلاطونية التي تفترض أن لأي شيء بعينه كوناً سابقاً وكائناً واقعاً وكوناً لاحقاً. وهذا ما يجعل التخييل متحركاً برحابة ما بين ثلاثة أكوان يحاكيها؛ أولها الكون الواقع وثانيها الكون المتخيل وثالثها الكون اللامتحقق.
وعلى الرغم من تعدد أساليب السرد غير الواقعي وتنوعها، فإن النتيجة واحدة وهي إضفاء الإمكان على ما هو مستحيل، وجعل اللامعقول مقبولا منطقياً.
ويدور السرد غير الواقعي في الكونين الثاني والثالث، فجلجامش في الواقع هو ملك لكن التخييل أضفى على واقعه سمات خرافية، ليكون البطل الخارق الذي لا نظير له يغلبه. وما دام التخييل يتحرك على أرضية الواقع فليس للممكن أن يكون غير ممكن، لكن يمكن لغير الممكن واللامعقول أن يكون ممكناً ومعقولاً. وهو ما عرفه الإنسان في عصور ما قبل الكتابة، فتخيل مخلوقات لا أساس واقعي لها، كالآلهة والشياطين والعمالقة، أو لها أساس واقعي كالحيوانات والطيور، فأضفى هو عليها أعضاء جسدية ليست لها أو منحها طاقات غير طبيعية.
فأما المخلوقات من النوع الأول فإن الإنسان استلهمه من لا وعيه التباسا بالطبيعة، وما فيها من طيور وحيوانات وجبال وبحار وغابات، كان قد ترك جمالها وغموضها وقوتها في لا وعيه الباطني، انبهارا أو رهبة أو استفزازا فحاكى ما لم يره ولا ما لا واقع له. أما المخلوقات من النوع الثاني فإن الإنسان استلهمه من وعيه لواقعه، فحاكى ما يرى ويسمع. وفي هذا الاتساع في التخييل صار قانون الاحتمال الأرسطي شاملاً السردين الواقعي وغير الواقعي، فالإنسان يحاكي ما سيكون، أو ما هو كائن أو ما كان.. لكن هل يعني هذا الشمول أن الطاقة التخييلية التي يحتاجها القاص في صنع صورة مستقبلية لما ينبغي أن يكون هي أكبر من الطاقة التي يحتاجها القاص في تخيل ما هو موجود فعلاً، أو ما كان موجوداً من قبل؟
لا شك في أن الطاقة التخييلية مطابقة ـ كانت أو مخالفة ـ هي واحدة وتتباين حسب قدرات العقل وإمكانياته في إعادة محاكاة ما يريد تصويره. وكلما أطلق القاص العنان للاوعيه وتخلّص من هيمنة العقل عليه، كانت طاقته التخييلية أكثر رحابةً واتساعاً بعكس ذاك الذي يحكي وهو يحتكم إلى عقله ويسير وفق بديهياته ومقتضياته. والاقتناع بالشخصية القصصية في السرد غير الواقعي لا يحتاج تحكيماً للعقل، بقدر ما يحتاج تخييلاً يقوم على نظام منطقي وترتيب سببي، يحقق الوحدة العضوية التي هي شرط لأي سرد ولا أهمية بعد ذلك لأن تكون الشخصية حقيقية أو غير حقيقية. وهذه المعادلة التخييلية التي طرفاها قانون الاحتمال والوحدة العضوية، يحاول منظرو علم السرد ما بعد الكلاسيكي ـ مثل ديفيد هيرمان وجيمس فيلان وبيتر رابينوفيتز وروبين وارهول ـ نقضها أو تفكيكها من خلال احتكامهم إلى العقل الذي وسيلته البرهنة والتفكير في الفاعلية السردية، غير مستندين إلى المنطق الذي وسيلته الإقناع والاستدلال في البحث عن ميكانيزمات تعالق العقل بالسرد، وفحص الأحداث القصصية، وفق فروض عقلانية من أجل إدراك اللاعقلاني المزيف والخادع والمستحيل من المشاهد والسيناريوهات معتمدين في الفحص والتدقيق طرائق معينة، تنبذ فاعلية التخييل كنتاج باطني لا إرادي يحاكي التجارب الواقعية المؤلمة أو الغريبة، جاعلاً غير الممكن ممكناً. وهذه الإشكالية في واقعية السرد ولا واقعيته ليست جديدة، ففي القرن الثامن عشر استهوت الفلسفة كتّاب الأدب والنقاد المنظرين له، من ناحية اهتمامهما بالواقعية ومناداتها بأن الأشياء لها وجود حقيقي خارج العقل المدرك، واستمر الواقعيون النقديون يشيرون إلى وجود خارجي مادي مستقل عن العقل، وكأن العالم مفصول عن الوعي، والجسد مفصول عن الروح والشكل عن المضمون.
وهو ما رفضه الظاهراتيون مركزين على فعل اللغة وجدلية العلاقة بين الذات والعالم. وظلت الانتقادات توجه للواقعيين النقديين والطبيعيين والاشتراكيين لما لديهم من إفراط وتفريط في فهم معنى الواقعية؛ أهي الواقعReal أم هي الحقيقة Truth؟
ذهب المترجم المعروف عبد الواحد لؤلؤة إلى أن كلمة الواقعية تعني الحقيقة، حين ترد في سياق فلسفي، وتعني الواقع حين ترد في غيره، لكننا إذا نظرنا في العملية السردية، واعتبرنا أنّ الفعل المنطقي هو المتغلغل فيها وليس الفعل العقلاني، فإن الواقعية لن تعني صدق المسرودات في حقيقيتها، بل منطقية أدائها لأدوار البطولة، ومدى قيامها بما ينبغي عليها أن تقوم به.
وبناءً على هذه الفرضية، اهتم مجموعة باحثين ـ من أتباع مدرسة النقد الأمريكية، وتحديدا النقد المعرفي ـ بالسرد الخيالي وسموه السرد غير الطبيعي مركزين على كيفيات تبني السارد والشخصية وجهات نظر لها وظائف مخالفة، أو غير منطقية أو مضادة للمحاكاة الواقعية الكلاسيكية، كما حللَّوا قصصاً تنتهج الواقعية الغرائبية أو اللامعقول أو الفانتازيا، لاسيما قصص فرانز كافكا، باحثين عما هو غير طبيعي في مسروداتها، وهل تكون أدوارها واقعية حقيقة أم أنها خيالية؟ وهل يصح أن يكون السارد واقعيا والمسرود غير واقعي؟ وأي رغبة هي الحاضرة: رغبة المسرود الذي يتمنى أم رغبة السارد الذي لا يتمنى؟ وتوصلوا إلى مسائل تتقاطع في أمرين: أحدهما معرفي في الربط بين السرد وعقل الإنسان والآخر واقعي أو طبيعي في تفسير معنى الواقعية الأدبية. وعلى الرغم من تعدد أساليب السرد غير الواقعي وتنوعها، فإن النتيجة واحدة وهي إضفاء الإمكان على ما هو مستحيل، وجعل اللامعقول مقبولا منطقياً.