التحليل النفسي وتطبيقاته العلمية.١

طلال الربيعي.

تكاد تخلو المكتبة العربية من مدخل مبسط وشامل لعلم التحليل النفسي منذ تأسيسه على ايدي سيغموند فرويد وزميله طبيب الانف والحنجرة دكتور جوزيف بروير, وتطبيقاته في مجالات مثل العلوم العصبية والسينما والأنثروبولوجيا والفلسفة والأثنية والادب وغيرها من مجلات المعرفة والفن.

هذه السلسة من المقالات تهدف الى سد بعض الثغرة في هذا المجال, ,ولكن ليس كلها بالتأكيد لأن أمر كهذا هو أمر مهول ومن عداد المستحيلات.

لأول جَمهور له في العالم الجديد, اعد فرويد سلسلة من خمس محاضرات ألقاها في جامعة كلارك في ماساتشوستس بدعوة من رئيسها، عالم النفس ج ستانلي هول G. Stanley Hall, احتفاءً بالعيد العشرين لتأسيس الجامعة, (على الرغم من تقديمها باللغة الألمانية)، حيث استعرض فيها بشكل واضح ومنظم حالة التحليل النفسي في ذلك الوقت بالإضافة إلى تاريخ أصوله: وصف فرويد، للجمهور العام، ولادة نظريته، محذرا “النظريات الكاملة لا تسقط من السماء وسيكون لديك أفضل أسباب الشك إذا قدم لك أي شخص نظرية كاملة لا تشوبها شائبة. يمكن أن تكون مثل هذه النظرية مجرد تكهنات لطفل ولا يمكن أن تكون ثمرة عمل غير متحيز لفحص الحقائق” (فرويد 1910،ص. 9).
Freud S: Five lectures on psycho-analysis (1910), in The
Standard Edition of the Complete Psychological Works
of Sigmund Freud, Vol 11. Translated and edited by Strachey J. London, Hogarth Press, 1957, pp 3–56

تشكل التحليل النفسي استنادا الى تراث فكري غني ومتجذر في الملاحظات التجريبية، السريرية المفصلة وغير المسبوقة لفرويد, ملاحظات حول الحياة النفسية والنظريات المتولدة من هذه الملاحظات, ومن ثم تنقيحها طوال الوقت لتكون الجوهر المركزي للتحليل النفسي.

على الرغم من أن مفهوم العقل اللاواعي كان قد ظهر في أعمال الشعراء الرومانسيين وكذلك في أعمال الفلاسفة مثل شوبنهاور ونيتشه، لكن فرويد طور أول فهم منهجي وشامل له ورسم صورة واضحة لكيفية تأثير الحياة العقلية اللاواعية على الطيف الكامل لتجارب و سلوك البشر. نظريته عن العقل تم شرحها أولاً في عمله الرائع في تأويل الأحلام (فرويد
1900) وتعديله باستمرار في أبحاثه اللاحقة.
Freud S: The interpretation of dreams (1900), in The Standard Edition of the Complete Psychological Works of
Sigmund Freud, Vols 4 and 5. Translated and edited by
Strachey J. London, Hogarth Press, 1953, pp 1–715

تحتوي أعمال فرويد على أفكار تم تداولها منذ فترة طويلة من قَبلْ في الفلسفة والطب والأدب. بالرغْم من ذلك تأثر فرويد بشدة بتعليمه الواسع النطاق والأفكار الاجتماعية والثقافية والفنية في وقته, وكان أيضًا مفكرًا مبتكرًا للغاية، قادرًا على دمج أفكارة مع ملاحظاته السريرية للوصول إلى
استنتاجات مذهلة وثورية. حيث انها استخدمت ليس فقط العديد من التيارات الفكرية لابتكارها نموذجًا معقدًا للعقل, ولكن أيضًا لأحالته علم النفس من مجال متحالف بشكل فضفاض مع الفلسفة إلى واحد يستخدم الملاحظات التجريبية لتقديم نظريات علمية حول طبيعة الوعي، الطبيعي
وعلم النفس السريري, والأحلام.

وصف فرويد (1914) نفسه ذات مرة بأنه “واحد من هؤلاء الذين “أزعجوا نوم العالم” “(ص 21)
Freud S: On the history of the psycho-analytic movement
(1914), in The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, Vol 14. Translated and edited by Strachey J. London, Hogarth Press, 1957, pp 7–66
باستخدام عبارة من هيبل (Christian Friedrich Hebbel, شاعر الماني 1813-1863), وتنبأ بذكاء أنه من غير المرجح أن يتم النظر الى أفكار ه من قبل معاصريه بموضوعية وتسامح. إصراره على أهمية النشاط الجنسي في الطفولة في النمو النفسي والمساهمة في ظهور الأعراض العصابية عند البالغين اثبت أنه كان مزعجا حقًا وغير مقبول إلى حد كبير لمعظم معاصريه من علماء او عامة الناس, وتسبب في العديد من الخلافات المركزية حيث تطور التحليل النفسي إلى نظام فكري بالإضافة إلى كونه مؤسسة معرفية.

الجدل الكبير الذي أثارته أفكار فرويد أدى على الفور تقريبا إلى تقديم آراء تنافس بعضها البعض حول مسببات المرض العاطفي ومبادئ الممارسة السريرية. في عام 1990، نسب فرويد الفضل في تأسيس علم التحليل النفسي إلى طبيب الانف والحنجرة النمساوي جوزيف بروير، الذي كان قد كتب معه كتاب “دراسات حول الهستيريا”.
Breuer J, Freud S: On the psychical mechanism of hysterical
phenomena: preliminary communication (1893), in
The Standard Edition of the Complete Psychological
Works of Sigmund Freud, Vol 2. Translated and edited by
Strachey J. London, Hogarth Press, 1955, pp 3–17
وتعتبر مجلة Scientific American جوزيف بروير الرائد الحقيقي للعلاج النفسي الحديث.
Step Aside, Freud: Josef Breuer Is the True Father of Modern Psychotherapy
https://blogs.scientificamerican.com/mind-guest-blog/step-aside-freud-josef-breuer-is-the-true-father-of-modern-psychotherapy/

بدأ فرويد محاضرته الأمريكية بالقول: “إذا كان هناك من جدارة في ابتكار التحليل النفسي، فتلك الجدارة لا تعود لي” (فرويد 1910 ، ص 9, اعلاه). “ولكني أتحمل كامل المسؤولية في التحليل النفسي “(ص 9). قصة علاقته مع بروير، المرشد الذي طور معه أفكاره, والذي افترق عنه فيما بعد، هي فقط واحدة من العديد من القصص الثرية، الشخصية والفكرية، التي كشفت عن قدرة فرويد على الاستفادة من الآخرين في إنشاء نظام فكري أصلي ومميز.

اشتملت رحلة فرويد على فضول فكري لا يشبع وشجاعة لنشر أفكار لا تحظى بشعبية فضلا عن حاجة عملية للغاية لكسب العيش لعائلته، وبعد ذلك، الدافع إلى إنشاء التحليل النفسي كمؤسسة وكذلك كعلم. جمع حوله مجموعة من الطلاب والتلاميذ الذين، في ولائهم او معارضتهم، تركوا علامة بارزة على فكر وهيكلية التحليل النفسي.

أثبت التحليل النفسي نفسه على حد سواء كمجال معرفي متماسك وكمؤسسة رسمية خلال حياة فرويد. توسعت دائرة فرويد في النهاية لتشمل، بمعنى ما، كل واحد منا مَن لا يستطيع النظر في طبيعة العقل دون الانخراط في المنهجيات والنظريات والأحكام المتنوعة التي طورها وأصدرها فرويد.

التاريخ المبكر و الجذور الفكرية
ولد فرويد في عام 1856 لعائلة يهودية غاليسيَة في فرايبرغ، مورافيا، الآن جمهورية التشيك ولكن في ذلك الوقت كانت جزء من الإمبراطورية النمساوية المجرية. والده يعقوب كان تاجر صوف مكافحًا، وترمل مرتين قبل أن يتزوج من والدة فرويد، أماليا ناثانسون، التي كان تصغره بحوالي عشرين عامًا.
انتقلت العائلة إلى لايبزيغ عندما بلغ فرويد 3 سنوات من العمر لمدة عام ثم إلى ليوبولدشتات، الحي اليهودي التقليدي في فيينا, بسبب الصعوبات المالية المتزايدة. حظى فرويد كطفل بمعاملة خاصة من قبل عائلته حيث ظهرت عليه علامات النبوغ المبكر، وخصصت له غرفته الخاصة
حتى عندما ولد ستة أشقاء أصغر سناً. دائمًا كان فرويد متفوقا في المدرسة و طالبًا متميزًا مفتونًا بشكل خاص بالعلوم الطبيعية. مع أنّ تعليمه الواسع فيها سوف تخدمه الفنون بشكل جيد. تميزت كتاباته العلمية بالثقافة والثراء. يبدو أن فرويد انجذب إلى الدراسات الطبية بعد سماعه كارل برول, Carl Brühl (1820- 1988, كان طبيبا نمساويا متخصصا في علم العظام المقارن comparative osteology), وهو يقرأ من قصيدة غوته ، “الطبيعة”. بدأ فرويد دراسة الطب في عام 1873 و حصل على شهادة الطب عام 1881؛ تسبب فضوله الفكري واسع النطاق ومشاركته في البحث أن يستغرق وقتا أطول من المعتاد 5 سنوات لإنهاء دراسته. غذت شره فرويد الفكري ثقافة جامعية متميزة بشكل غير عادي. التدرج المهني لفرويد ارقى به الى ان يصبح في النهاية أحد أشهر الأطباء في فيينا، وحصل على رتبة أستاذ مشارك. ومع ذلك، فإن فرويد تمتع باستقلالية فكرية في متابعة وانتقاد الجوانب الطبية والاجتماعية والثقافية لثقافة عصره.

على الرغم من القيود المفروضة وقتها بسبب معاداة السامية والصعوبات المالية، اشتملت رحلة فرويد الفكرية على مشاركة مبكرة وغير مقيدة في التعامل مع أفكار علماء ومفكري عصره . لقد ترعرع في حِقْبَة تميزت بتعاظم دور مدرسة هيلمهولتز Hermann von Helmholtz ( فيزياوي وطبيب الماني, 1821-1894, كان متخصصا في الفسيولوجيا التي كانت جزء من الفيزياء قبل ان تصبح علما مستقلا لاحقا, ولذا يسمى الطبيب أحيانا physician) في علم وظائف الأعضاء، التي بحتت عن الأساس الفيزيائي والكيميائي للظواهر الطبيعية، وكذلك الرومانسية، بتركيزها على الذاتية. قرأ فرويد على نطاق واسع، ولا سيما في الفلسفة، وكان معجبا بشكل خاص بلودفيغ فويرباخ الكتابة ضد وهم الدين والتركيز على الملاحظات التجريبية بدلاً من المبادئ الشكلية المنهجية، جعلت من فويرباخ، بنهجه الهيغلي، في أن يمارس تأثيرا عميقا على فرويد، كما فعل الكاهن والفيلسوف الكاثوليكي فرانز برينتانو Franz Brentano, الذي درس معه في الجامعة. أراد برينتانو فصل علم النفس عن الفلسفة والميتافيزيقا، لكنه أيضًا حافظ على شيء أكثر من الوضعية وعلم وظائف الأعضاء لفهم العقل، وقد فعل ذلك بفلسفته القصدية intentionality (سمة الحالات الذهنية, على سبيل المثال الأفكار والمعتقدات والرغبات والآمال التي تتكون في توجيهها نحو بعض الأشياء الوعي هو دوما وعي بشيئ ما, وسمة الوعي هذه متجذرة أيضا في الفلسفة الوجودية كما لدى جان بول سارتر). فشل نهج برينتانو الإيماني في ان يتخلى فرويد عن إلحاده، لكن تفكيره قدم لفرويد طريقة للنظر إلى العقل كانت أوسع مما تسمح به المبادئ المادية البحتة.

خلال سنوات دراسته الجامعية، درس فرويد مع عالم الفسيولوجيا إرنست بروكه Ernst Brücke,، الذي مثل التحول في العلم في ذلك الوقت من الحيوية الميتافيزيقية metaphysical vitalism (اعتقاد يبدأ من فرضية أن الكائنات الحية تختلف اختلافًا جوهريًا عن الكائنات غير الحية لأنها تحتوي على عنصر غير مادي أو تحكمها مبادئ مختلفة عن الأشياء الجامدة) إلى نهج وضعي تجريبيً يعتمد على الملاحظات الصارمة, ونسب الظواهر الطبيعية إلى مبادئ أساسية، حيث ازدهر النهج مع إحراز تقدم في الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك. لم تكن الفلسفة الوضعية, النابعة من عصر التنوير في القرن الثامن عشر، لرائدها أوغست كونت Auguste Comte (فيلسوف، وعالم اجتماع، ورياضياتي فرنسي, 1798 – 1857, أعطى لعلم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن، أكد ضرورة بناء النظريات العلمية على الملاحظة، إلا أن كتاباته كانت على جانب عظيم من التأمل الفلسفي، ويعد هو نفسه الأب الشرعي والمؤسس للفلسفة الوضعية) فلسفة عقائدية بقدر كونها منهجا لاستخدام العلوم الطبيعية في علم النفس البشري. عمل فرويد لمدة 6 سنوات في مختبر بروكه، من 1876 إلى 1882، والتقى بجوزيف بروير هناك، حيث ربطته صداقة عميقة معه.

كان تدريب فرويد في علم الأمراض العصبية Neuropathology، حيث ركز على دراسة الجهاز العصبي اللافقاري. كانت أعماله المبكرة حول أصغر اللبنات الأساسية للوظيفة العصبية خطوات أولية للغاية في بناء نظرية شاملة للحياة العقلية، ومنشوراته الأولى المتعلقة بالجهاز العصبي. يمكن اعتبار الأسماك النموذج الأولي لمحاولاته اللاحقة لرسم خريطة للأداء العقلي.
يتبع