فهم الهستيريا
طلال الربيعي .
على الرغم من أن العمل في المختبر وإجراء الاكتشافات العلمية كان من شأنه أن يكون الطريق الأضمن لان يصبح فرويد استاذا جامعيا، وخصوصا إن دراساته بدأت في كسب سمعة صغيرة له, الا إن تقدمه الأكاديمي لم يكن ميسرا. لذا ترك البحث لمتابعة ممارسة خاصة في علم الأعصاب السريري. كانت حركته أيضًا مدفوعة بالحاجة لتكوين دخل كافٍ لإعالة الأسرة لأنه كان يخطط للزواج من خطيبته مارثا بيرنايز. خلال 3 سنوات من إقامته في مستشفى عام في فيينا، عمل فرويد في عدة أقسام، بما في ذلك الطب الباطني وعلم الأعصاب، والطب النفسي. في الطب النفسي كان يعمل مع تيودور مينيرت Theodor Meynert, عالم تشريح الدماغ. درس فرويد خصائص الكوكايين، ولكن بدلاً من أن يكسبه العمل هيبة أكاديمية, سرعان ما شوه العمل مصداقيته لأن مخاطر المخدر أصبحت واضحة. كان لديه القليل من التدريب في الطب النفسي الأكاديمي، والذي لم يكن مهتمًا في ذلك الوقت بـدراسة تجارب المرضى الشخصية وبالفعل ربما يكون ذلك قد حد من تعرض فرويد لأنواع من المرضى والألغاز السريرية التي أثارت فضوله. بدلاً من ذلك، من خلال الدخول في ممارسة طب الأعصاب السريري، انضم فرويد إلى ثقافة طبية عامة كان فيها الاستماع إلى المريض أمرًا أساسيًا، وتلك هي التي وضعت فرويد في حالة احتكاك متكرر بنوع شائع من المرض شوهد في أفسام الأمراض العصبية في ذلك الوقت، الهستيريا.
الهستيريا
الهستيريا هي بلا شك أول اضطراب عقلي يُنسب إلى النساء، وُصِف بدقة في الألفية الثانية قبل الميلاد، على مدى 4000 عام من التاريخ، تم اعتبار هذا المرض من منظورين: علمي وشيطاني. تم علاجه بالأعشاب أو بالجنس أو الامتناع عن ممارسة الجنس، وعوقب وطهّر الشخص بالنار لارتباطه بالشعوذة او لاعتقاد ان الشيطان قد تقمص المريض. وأخيراً تمت دراسته سريريًا كمرض وعلاجه بعلاجات مبتكرة. ومع ذلك، حتى نهاية القرن التاسع عشر، لم يصل الابتكار العلمي إلى بعض الأماكن، حيث كانت العلاجات الوحيدة المعروفة هي تلك التي اقترحها جالينوس. خلال القرن العشرين افترضت العديد من الدراسات تراجع الهستيريا بين المرضى الغربيين (رجال ونساء) وتصاعد هذا الاضطراب في الدول غير الغربية. تم حذف مفهوم العصاب الهستيري من التصنيف الرسمي للاضطرابات النفسية 1980 DSM-III. يبدو أن تطور هذا الاضطراب كان عاملاً مرتبطًا بـتأثير الحضارة الغربية “westernization” الاجتماعي ، وأصبح فحص الظروف التي أصبحت فيها الأعراض شائعة لأول مرة في المجتمعات المختلفة أولوية للدراسات الحديثة لتحديد العامل المشجع في حدوث الاضطراب.
تم تصنيف الاسم التاريخي للحالة الآن إلى حد كبير على أنه اضطراب التحويل conversion disorder
https://dictionary.apa.org/conversion-disorder
ولكن مع انتشار الأعراض عبر التشخيصات الرسمية الأخرى أيضًا (على سبيل المثال، اضطراب الشخصية الهستيرية). على الرغم من أن المصطلح قديم تقنيًا، إلا أنه غالبًا ما يستخدم كمصطلح عادي لأي اضطراب نفسي يتسم بأعراض لا أساس عضوي لها ولا تتفق مع قوانين تشريح الجسم, مثل الشلل والعمى وفقدان الإحساس والهلوسة- ولكن قد يفقد الشخص القدرة على الكلام ولكنه يستطيع الغناء او إن المجال البصري لا ينسجم مع القوانين البصرية. وغالبًا ما يكون الاضطراب مصحوبًا بالإيحاء والانفجارات العاطفية والسلوك الهستيري. فسر سيغموند فرويد الأعراض الهستيرية على أنها دفاعات ضد الدوافع الجنسية المذنبة (على سبيل المثال، اليد المشلولة لا تستطيع ممارسة الاستمناء). اشتق الاسم في نهاية المطاف من الكلمة اليونانية husteros ، “الرحم”، بناءً على الاعتقاد المبكر والخاطئ بأن مثل هذه الاضطرابات كانت فريدة من نوعها بالنسبة للنساء ونشأت عن اضطرابات الرحم.
قدم سيغموند فرويد مساهمة تؤدي إلى النظرية النفسية للهستيريا وتأكيد “الهستيريا الذكورية”. كتب فرويد نفسه في عام 1897: “بعد فترة من الدعابة الجيدة، لدي الآن أزمة من التعاسة. المريض الرئيسي الذي أشعر بالقلق بشأنه اليوم هو نفسي. اتخذت هستيريتي الصغيرة، التي عززها العمل كثيرًا، خطوة إلى الأمام ” .
Current hysteria
https://scholar.google.com/scholar_lookup?title=Current+hysteria.+Disease+or+obsolete+originalposition?&author=G+Mattioli&author=F+Scalzone&publication_year=2002&
في عام 1889 نشر كتابه “دراسات عن الهستيريا” مع جوزيف بروير (1842-1925). المفاهيم الأساسية لنظريته في التحليل النفسي (تأثير التخيلات الجنسية في الطفولة والطرق المختلفة لتفكير العقل اللاواعي) لم تتم صياغتها بعد، لكنها ضمنية بالفعل في هذا النص. من بين الحالات المعروضة، نجد هستيريا الشابة كاثرينا، التي تعاني صعوبة في البلع globus hystericus لا اساس عضوي لها. لا يشير النص إلى عقدة أوديب الشهيرة، والتي ظهرت من خلال دراسة الهستيريا الذكرية، التي تم تطويرها بعد هذه الأطروحة
Hysteria and neurasthenia in pre-1914 British medical discourse and in histories of shell-shock
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/19127827/
قبل فرويد. كان يعتقد أن الهستيريا هي نتيجة لعدم الحمل والأمومة. قلب فرويد النموذج: الهستيريا هي اضطراب ناتج عن الافتقار إلى التطور الليبديوي-الطاقة الجنسية (تمهيدًا لمرحلة صراع أوديب) وفشل الحمل هو النتيجة وليس سبب عدم القدرة على الحمل. هذا يعني أن الشخص الهستيري غير قادر على أن يعيش علاقة ناضجة. علاوة على ذلك، هناك نقطة مهمة أخرى ضمن وجهة نظر تاريخية وهي أن فرويد يؤكد على مفهوم “المنفعة الثانوية”. وفقًا للتحليل النفسي، فإن الاضراب الهستيري هو تعبير عن استحالة تحقيق الدافع الجنسي بسبب ذكريات الصراع الأوديبة
Pierre Janet, Sigmund Freud and Charcot s psychological and psychiatric legacy
https://scholar.google.com/scholar_lookup?journal=Front+Neurol+Neurosci&title=Pierre+Janet,+Sigmund+Freud+and+Charcot%E2%80%99s+psy-chological+and+psychiatric+legacy&author=H+P%C3%A9rez-Rinc%C3%B3n&volume=29&publication_year=2011&pages=115-24&pmid=20938151&
وبالتالي فإن للهستيريا, كأي عصاب آخر, “فائدة أولية” وتسمح “بإفراز” الدافع – الطاقة الليبيدية المرتبطة بالرغبة الجنسية. كما أن لها “فائدة جانبية” تتمثل في السماح للمريض بالتلاعب بالمحيط لخدمة احتياجاته-المرأة قد تصاب بشلل لتجنب العمل المنزلي او ممارسة الجنس او تجنب الاستجابة للإغواء النجسي بحد ذاته. ومع ذلك، فهو مرض يصيب, كما اعتقد, فقط النساء: إنه رؤية للمرض مرتبطة بالطريقة (المحددة تاريخيًا) لتصور دور المرأة. ليس للمرأة قوة سوى “المناورة”، وتحاول التلاعب بالآخر بطرق خفية لتحقيق مآربها. وهي صيغة حداثوية تتلبس لباس العلم لمفهوم المرأة “الممسوسة”.
كتب فرويد في وقت لاحق عن لقاء الطبيب مع مرضى الهستيريا في ان الطبيب “يعتبرهم أناسًا يتعدون على قوانين علمه – مثل الزنادقة في عيون الأرثوذكس. ينسب إليهم كل شر ويتهمون بالمبالغة والخداع المتعمد والتمارض. ويعاقبون بالانسحاب منهم وإهمال علاجهم ”
(Freud 1910, ص. 12).
على العكس من ذلك, كان فرويد مفتونًا بحالات “الهستيريا”. عندما حصل على رتبة Dozent (مدرس جامعي) في عام 1885، كان قد حصل على اثرها على منحة سفر لمدة 6 أشهر سمحت له بذلك الدراسة مع أحد أطباء الأعصاب الرائدين في ذلك الوقت، جان مارتن شاركو Jean-Martin Charcot، قائد مدرسة Salpêtrière في باريس، التي كانت في عام 1885 تطور فهمًا جديدًا للهستيريا.
عندما وصل سيغموند فرويد إلى باريس عام 1885، وجد نفسه في بلد كان يحقق تطورات مهمة فيما سمى “علم النفس الجديد” pschologie nouvelle. كان ريبو Théodule Ribot أهم رواده، حيث كان من اتباع الوضعية بأن علم النفس يجب أن يوظف أساليب العلوم الطبيعية ويتخلص من الميتافيزيقيا والدين المتشابكين معه. جادل رينو في ان علم النفس يمكنه الاستعانة بنظريات ذات صلة لدراسة الحياة النفسية: يمكن للنظريات الوراثية أن تفسر القدرات والوظائف العقلية. وأن ملاحظات الاضطرابات النفسية يمكن أن توفر بيانات تجريبية. الظواهر التي كانت, في السابق, مجرد مشاهد استعراضية – النتائج المذهلة التي لوحظت مع التنويم المغناطيسي والمزمرية (نسبة الى رائد التنويم المغاطبس Franz Mesmer الذي كان طبيبا المانيا ورائد التنويم المغناطيسي 1734-1815) – أخضعت الأن الى نوع جديد من التمحيص، حتى أصبحت مادة الاستعراض والغموض موضوعا علميا للفحص والبحث.
تم إعادة تصنيف الهستيريا على أنها اضطراب عقلي التي يمكن أن تكون ملاحظتها وفهمها ذات قيمة. عندما قام شاركو، الذي صنع اسمه كطبيب وأعصاب متميز، بجذب الانتباه إلى الهستيريا، فقد أُعطي الاضطراب طابع الشرعية العلمية لدراسته وعلاجه من خلال التنويم المغناطيسي. ميز شاركو لأول مرة بين أنواع مختلفة من ظوهر التنويم المغناطيسي التي تفصل بين الشلل الديناميكي (يتكون من حالات الشلل الهستيري وما بعد الصدمة والشلل بالتنويم المغناطيسي) عن تلك الناتجة عن اجهاد في الجهاز العصبي. قدم شاركو تفسيرات جديدة ومثيرة للهستيريا، وشخصها على أنها مرض حقيقي ، مشيرًا إلى أنها يمكن أن ثؤثر ايضا على الرجال، و أنها يمكن أن تستخدم لفهم وعلاج الأمراض العقلية الاخرى.
تأثر فرويد بتفاني شاركو في الملاحظة الحادة ودُهش لرؤية شاركو قادرًا على علاج حالات الشلل الهستيري بتأثير التنويم المغناطيسي. ربط شاركو التنويم بالإيحاء بالهستيريا وبذلك
وضع كلاهما تحت مجهر الفحص السريري ، شاركو – في فرنسا على الأقل – ادخل هذه الأفكار إلى المجال الاجتماعي
وحقق لها القبول العلمي.
Hypnosis and Hysteria: Work of Jean-Martin Charcot
https://www.youtube.com/watch?v=0pyvr5KIoNA
خلال الأشهر التي قضاها في باريس، عمل فرويد على اجراء دراسات مجهرية لأدمغة الأطفال وجمع البيانات التي كان من المقرر أن تكون أساس المنشورات اللاحقة عن الشلل الدماغي والحبسة aphasia. ومع ذلك، غرس شاركو في فرويد
بذور اهتمامً شديد ودائمً في الهستيريا والعصاب عموما.
عاد فرويد إلى فيينا برغبة شديدة في متابعة هذه الأفكار ونشرها. اعتقد شاركو أن فهم الاضطرابات العصبية, وليس رسم خرائط تشريحية أخرى للدماغ , هو طريق المستقبل.
سوف يكمن مستقبل فرويد بالفعل بالعصاب، ولكن في ذلك الوقت كان الطريق غير ممهد لتحقيق الهدف. دفعت أفكار شاركو حول الهستيريا فرويد في اتجاه جديد، وتركته خارج المؤسسة الطبية في فيينا. أصبح فرويد مترجم شاركو إلى الألمانية، وهو شيء كان لديه الوقت للقيام به بمجرد عودته إلى فيينا، حيث لم يكن لديه سوى القليل من المرضى في عيادته الجديدة. ناضل فرويد ضد شكوك زملائه وجادل بأن دراسة التنويم المغناطيسي يمكن أن تكشف الكثير
حول علم النفس الطبيعي و سعى جاهدا الى نشر اعتقاد شاركو في أن الذكور يمكن هم ايضا أن يعانون من الهستيريا، لكن محاضراته حول هذه الموضوعات قوبلت بردود باردة، خاصة وأن سمعة شاركو نفسه تعرضت لبعض الشوائب. إيمان شاركو بأن المرضى فقط بالهتسيريا هم من يمكن أن ينّوموا لم تكن صحيحة, وتم تفنيد مراحل التنويم المغناطيسي التي وصفها. أهمل شاركو دور الإيحاء في التنويم المغناطيسي ، معتقدًا أن الهستيريين فقط هم من يمكن أن يخصعوا للتنويم المغناطيسي،
لكن مدرسة منافسة مقرها في نانسي-فرنسا بقيادة امبواز أوغست ليبو Ambroise Auguste Liébault وهيبوليت بيرنهايم Hippolyte Bernheim اثبتت انه يمكن أن يتم تنويم أي شخص. وقد شغل هذا الاقتراح دور ا مركزيا وحاسما في التنويم المغناطيسي -كما في مدرسة التنويم المغاطيسي الجديدة للطبيب النفسي الأمريكي ميلتون اريكسون
Live Ericksonian Hypnosis Induction – Michael Carroll
https://www.youtube.com/watch?v=5kYvu35BP98
حيث ان القدرة على النوم المغناطيسي (وهو ليس نوما بمفهوم الفسيولوجيا العصبية حصرا-تخطيط الدماغ), هي عنصر طبيعيًا في الحياة النفسية لكل البشر. كان فرويد قد
لاحظ الارتباط العاطفي القوي الذي يشكله المرضى بالمنوم المغناطيسي Transference-المزيد لاحقا، وهو أول تلميح لدور الإيحاء، ومع ذلك، خلق الأيحاء مشكلة: إذا كانت جميع الجوانب العقلية تتأثر بالأيحاءات، بدا من المستحيل العثور على أي طريقة علمية لبحث العمليات والنشاطات العقلية.
ولكن فرويد، بسبب تركيزه على الرومانسية والذاتية, وبسبب تدريبه العلمي، “اتخذ الذاتية نفسها موضوعا للبحث العلمي”.
Auchincloss EL, Glick R: The psychoanalytic model of the
mind, in Psychiatry. Edited by Michels R. New York
Lippincott-Raven, 1996, pp 1–29
https://www.amazon.com/Psychiatry-Robert-Michels/dp/0397506864
يتبع