الموقف من الحياة: دراسة في التشكيل الإبداعي للكاتب عبد الجبار الحمدي
الناقد: عمار عزت
لماذا نكتب الشعر؟
ولماذا نلجأ الى القصة؟
ومتى يتطلب منا البحث عن شكل أدبي أوسع فنلجأ للرواية؟
بل ما مبررات الإستعاضة عن لغتنا التواصلية بلغة الأدب؟
- يتميز الشعر بذاتيته فهو أشبه ما يكون برحلة الأنا الى الداخل للبحث عن الذات، فالشعر عزف منفرد وموقف ذاتي من الحياة ومن الآخر ( الحبيب، الصديق، القرية، المدينة، الوطن، الأشياء الجامدة والمتحركة وغيرها)، فالشاعر يمتلك حساسية مفرطة تجاه وجوده، حساسية تقوده الى العزلة والإنكفاء على الذات، فيصب همه شعرا، إذ تسمح لغة الشعر بخيالها الجامح أن تستوعب الجانب اللامرئي من الذات؛ وأقصد به الإنفعالات المختلفة والعواطف والمواقف الوجدانية، إذ يراكم الشعر صورا فوق صور حتى تشكل طبقات المعنى بصور بلاغية أكبر تعد معادلا موضوعيا وتجريدا سرياليا لإحساس الشاعر لحظة الكتابة، فالقاريء في الشعر غير معني بالمعنى وبالقصد المباشر للوحة الشعرية، بقدرة عنايته بالتواصل مع الإنعكاس النفسي الذي يترك بصمته داخل المتلقي، فلكل قصيدة مزاج نفسي ( mode ) محدد تُشكّل فيه القصيدة، وهذا المزاج ( mode ) هو أشبه ما يكون بالشبكة التي تمسك باللغة وبالصور والمعاني المتباعدة او المترامية الاطراف فتحيل دون ان ينفرط عقد القصيدة.
– في القصة وهي الفن الخالص كما يصفها (اوكورنو) نجد ان الإيجاز والكثافة والاختزال ووحدة الانطباع؛ وهي محددات أقرها لنا (ادغار ألن بو) هن التوصيف الأكثر دقة لوصف هذا النوع السردي دون استبعاد للسمات الاخرى للقصة ودون تعميم، فلكل قصة، كما نعرف، سمة فردية وخصوصية يمثلها أسلوب الكاتب وطريقته في معالجة الثيمة المركزية للقصة؛ والأهم موقفه الشخصي من العالم والوجود؛ بل من الانشغال بالحياة بكليتها.
يأخذ القاص لقطة واحدة من الحياة يكثفها في محتوى قصصي موجز لإيصال رسالة كبرى ودرسا اخلاقيا بليغا، فالقاص بالرغم من انكفائه وسلبيته ونكوصة يمازج في قصته بين الذات والموضوع أي بين (الفردي والاجتماعي)، ويصهرهما في بوتقة الابداع فتشكل طبقات المعنى، طبقة السطح ويلخصها سؤال: ماذا يقول القاص؟ هو بالتأكيد يحكي قصة متكونة من متوالية حديثة تربطها حبكة متماسكة؛ لكن السؤال الأهم، هو ماذا يريد القاص وماذا يقصد؟ إذ تتكشف من هذه الطبقة (طبقة السطح) طبقات المعاني العميقة المضمرة، وتبعا لهاتين الطبقتين فإن المتلقي يتحرك بمستويين مستوى القارئ العادي المعني بالمتعة والحكاية ومستوى القارئ النوعي الذي يسبر اغوار النص فيلتقط جواهره.
ونتيجة لأنوية الشعر وذاتيته، ونتيجة لمحدودية القصة من ان تحيط بمساحة أكبر من الحياة، والتوسع الى مديات لا تحدها حدود؛ تكتب الرواية. وفيها تكون رحلة المبدع بإتجاه الموضوع اي (الحياة)، فالروائي يتقنع بروايه وببعض شخصياته ليعبر عن موقف او مواقف من الواقع الذي يعيشه، ولأنه عاجز عن تغيير الواقع بشكل مباشر؛ فإنه يلجأ الى التخييل، فيقوض (عالما قائما) لا يرتقي الى ما يحلم به او يصبو إليه، ويشيد (عالما ممكنا) بديلا انطلاقا من رؤية كلية أطلق عليها كولدمان (رؤية العالم)، كما إن المبدع في الرواية يعرض ضمنا بحثا معرفيا وتاريخيا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا في آن واحد فضلا عن التجرب في الاشكال الفنية والأساليب.
مما تقدم يتضح إن مقاربة الأجناس والأنواع الأدبية (شعرا، وسردا: قصة ورواية) لا تتسم بالمجانية، وإنما ترتبط بشكل أو بآخر بالموقف من الحياة والوجود، فيلجأ الكاتب المتنوع الى هذا الجنس الأدبي أو ذلك تبعا لمواقفه المتغيرة، فهو يختار بشكل واع أو غير واع القالب الذي يصب فيه فلسفته ورؤاه وهمومه وتطلعاته ومواقفه الاجتماعية والفردية، ونستطيع، في هذه النقطة، أن نحدد ثلاثة مواقف للأديب وهي:
1-موقف ذاتي نفسي: الشاعر.
2-موقف جزئي من الحياة: القاص.
3-موقف كلي من الحياة والوجود: الروائي.
دون إطلاق أو تعميم، فقد تتداخل المواقف، أحيانا، بين الشاعر والقاص والروائي، فما يطرح يظل نسبيا لا مطلقا، نبتغي من تحديد (المهيمنات) في الجنس الأدبي وأنواعه.
فإذا عدنا الى المحتفى به (الكاتب عبد الجبار الحمدي)؛ وقد تأخرنا عنه كثيرا؛ فإنه قد جرّب الشعر والقصة والرواية معا، وتبعا لمواقف الكاتب ولجوئه الى هذا الجنس الأدبي دون غيره، نكون أمام ثلاث شخصيات ادمجت في شخصية واحدة، فقد ذكرنا إن تفضيل نوع أدبي على آخر يرتبط بالمواقف المتباينة للكاتب. وأما أننا أمام شخصية أدبية تتخذ أكثر من طريق وسبيل وإجراء في التعبير عن ذاتها ومواقفها أزاء عالمها الداخلي ( شعرا ) وأزاء العالم الخارجي ( قصة أو رواية ) مع الإشارة الى تفاوت إبداعي بين ما انتجه الحمدي ( شعرا وقصة و رواية ) وهو أمر طبيعي نجده عند كتاب كبار، فالروائي أحمد سعداوي، مثالا وليس حصرا، بعد رائعته (فرانكشتاين في بغداد ) لم يتمكن وخلال ثمان سنوات من تقديم عمل يضاهي عمله هذا الذي وصل الى المان بوكر العالمية، وترجم الى اربعين لغة، فروايته اللاحقة (باب الطباشير)، بالرغم من تقاناتها السردية هي عمل محبط ومرتبك يخلو من المتعة، وروايته الأخيرة (الشهر الثالث عشر) لم تحقق ذلك الأثر أو المكانة المرجوة في الرواية العراقية؛ وإن كان الانطباع عنها جيدا فيما قرأته من دراسات.
وقفة عند محطة إبداعية من محطات عبد الجبار الحمدي: رواية (حب في زمن الإرهاب)
– يعد العنوان عتبة مهمة فهي تمهد الطريق قبل الولوج الى عالم الرواية فضلا عن طبيعته الاشهارية، وغالبا ما يكون العنوان في الرواية نصا موازيا للمتن الروائي، تختزل فيه الدلالات والمقاصد السردية، ويمكن أن نعده في بعض الأعمال بنية سردية كلية، فهو نواة مكثفة تكثيفا مركزا تتراكم فوقها طبقات المعنى ويتشكل عليها المعمار الروائي، فكل ما في العمل يحيل الى العنوان ويتمركز حول ثيمته في رواية (حب في زمن الإرهاب)
– يقع العنوان في تناص مع رواية ماركيز (حب في زمن الكوليرا)، ومثلما إن ثنائية (حب-كوليرا) هي ثنائية مفارقة، فإن ثنائية (حب-إرهاب) مفارقة أيضا الى حد التضاد، فالحب يعني السلام والتعايش، فيما يعني الإرهاب الكراهية واللاتعايش، وبالفعل فإن الرواية بتفصيلاتها تلعب على هاتين الثيمتين حتى في بناء عالمها وشخوصه، ففي عائلة أبي حفص المتطرفة والتكفيرية، كانت هناك ابنته (أحلام) بطبيعتها الحالمة والمسالمة، فوجودها في الرواية أشبه بإرادة الحياة مقابل إرادة الموت، فهي الضد النوعي للكراهية، والحب الذي سينتصر.
– تكاد تكون ثيمة (الحب المستحيل)، التي قرأناها في مسرحية (روميو وجولييت) لشكسبير، هي مركز الرواية التي تدور حوله حلقات الأحداث، فهو حب بين فتاة سنية (أحلام)، من عائلة محافظة متطرفة في افكارها، تكون الفتاة ضحية لوجودها في هذا الوسط الذي يتنفس الكراهية تجاه الآخر، لشخص شيعي (حمدي)، إذ يتحول هذا الحب السري الى مأساة أخرى تضاف الى مأساة فإرتباطها سيصطدم بعقبات بل بكتلة جليدية صلدة، بلا مشاعر) لا تتفتت؛ أبوها وأخوتها.
– يبث الروائي أفكاره ومواقفه داخل الرواية عبر القصة وشخوصها بشكل ضمني، وأحيانا بشكل مباشر يقترب من المنحنى المقالي فتظهر شخصيته بالتوازي مع شخصيات الرواية، ويبالغ أحيانا فيستحوذ على السرد بأكمله، فالرواية بهذا المعنى تعبر عن وعي الكاتب بإجرائية (ميتا سردية)، لا سردية خالصة.
– يختار الكاتب نهاية سعيدة خلافا لنهاية (روميو وجولييت) ذات النهاية المأساوية، والغرض كما اتصور يعود الى رغبة الكاتب في تجاوز المسميات والهويات الفرعية فهو ينتقد مثله مثل الكثير من الروائيين العراقيين بعد 2003، ينتقد (عالما ديستوبيا) قائما في محاولة لتشييد عالم (يوتيوبيا) ممكنة وقف (رؤية كلية) قائمة على ردم الفجوات المجتمعية ورغبة أكيد في التعايش، واحلال للحب بديلا للكراهية والقتل والدماء، اللعنة التي عاشها المجتمع العراقي أبان الحرب الطائفية بعد سقوط الصنم (صدام حسين)
– تدل الرواية بتشكيلاتها السردية وبشخوصها، وبطرق معالجتها للثيمة المركزية للرواية، على امتلاك كاتبها لأدوات تعينه في إنجاز هذا النوع الأدبي الصعب، كما وجدته بارعا في السرد والوصف والتعامل مع الزمن وفي صياغته الحبكة وفي تنامي الصراع وفي الحل والخاتمة، وبعد فأنه قدم عملا يستحق الدراسة النقدية.
– ولكي نجيب على سؤال ما المبرر لترك اللغة العادية والاتجاه الى الأدب، المذكور في صدر الدراسة؛ فإن الأدب يسسهم بشكل او بآخر بإستكشاف ذواتنا أولاً، وتشييد عوالم بديلة تتحقق فيها أحلامنا وطموحاتنا، ننشر من خلالها قيماً جديدة، ربما أسهمت وتسهم في إحداث تغيير مرجو في مجتمعنا مثلما احدثت الكثير من الروايات التي لا يسع ذكرها أثرا في تحول مجتمعات أخرى من حالة الى حالة أفضل.
رواية (حب في زمن الإرهاب)، منشورات أحمد المالكي، الطبعة الأولى، بغداد، 2020.
عمار عزت
أكاديمي وناقد عراقي