حضارة الرافدين وجارتها الإيرانية: صراع الجبل والوادي ج2
علاء اللامي*
الاحتلال الأخميني للعراق الكلداني: نستكمل في هذا الجزء من المقالة عرضنا التحليلي لكرونولوجيا الحضارة الإيرانية وجدل العلاقات بينها وبين الحضارة الرافدانية في العراق القديم. ففي القرن السابع ق.م، اندلعت الحرب بين مملكة بابل الكلدانية ومملكة الآشوريين – الذين يعتبرهم أغلب الباحثين فرعاً من الأكديين، ولغتهم إحدى اللهجات الأكدية – ثم تحالف الفرس الأخمينيون مع الكلدانيين، وزالت الدولة الآشورية بسقوط نينوى سنة 612 ق.م. وبعد أقل من قرن – سبعة عقود تقريبا – هاجم الأخمينيون حلفاءهم الرافدانيين وأسقطوا دولتهم واحتلوا بابل سنة 539 ق.م.
وفي السياق، فلم يكن مُعِدُّ التحقيب الكرونولوجي الذي اقتبسنا منه بعض المعلومات – أمين شحاته – دقيقاً حين يقول “إن بابل استسلمت للفرس الأخمينيين دون قتال ورحبت بالملك قورش بصفته محرراً لها بسبب سياساته اللينة، فحرر اليهود من السبي البابلي”؛ فالذين رحبوا به هم رجال الدين في الكهنوت البابلي الذين أعاد إليهم قورش امتيازاتهم الاستقراطية التي ألغاها الملك الكلداني المتمرد على الكهنوت نابونئيد، إذ كان هذا الأخير قد أعلى من شأن إله القمر “سين” على حساب كبير آلهة بابل مردوخ فثارت ثائرة الكهنوت ضده فحرمهم من امتيازاتهم؛ كما رحب بالغزاة قسم من رجال الدين والأسرى اليهوذاويين “اليهود” وليس كلهم، بدليل أن قسماً كبيراً منهم ظل يعيش في الرافدين ولم يعد مع العائدين إلى مقاطعة يهوذا في فلسطين بقيادة عزرا ونحميا.
قورش يجتاح الوادي
يعتبر قورش الأول، المؤسس الفعلي للدولة الفارسية الأخمينية في أواسط القرن السادس ق.م. بدأ حياته حاكما صغيراً على ولاية “إنشان” جنوبا، ثم قاد انقلاباً على جده الملك الميدي وأسره، ودمَّر العاصمة الميدية إكباتان شمالاً، وأسس إمبراطورية جديدة بوسائل عنيفة، وستستمر هكذا حتى زوالها بمقتل ملكها داريوس الثالث 330 ق.م على يد أحد رجاله المقربين. ومثله انتهى جده الأعلى المؤسس قورش الأكبر سنة 530 ق.م مقتولاً أثناء حملة عسكرية ضد قبيلة ماساغيتي شرقي بحر قزوين.
أصبحت دولة قورش أول إمبراطورية إيرانية تتوسع خارج الهضبة وتنحدر نحو وادي الرافدين والسهول المجاورة ثم تخرج من آسيا وتصل الى نهر النيل. وفي عهد آخر ملوك الأخمينيين دارا الثالث (521 ق.م إلى 486 ق.م)، تطورت الدولة الأخمينية وشهدت ازدهارا اقتصاديا وحضاريا ملحوظا. فقد اختُرِعت في القرن السادس ق.م واحدة من أقدم العملات الذهبية في تاريخ الحضارات القديمة وهي “الدريك” الأخميني بنقاء ذهبي يبلغ 95.8 بالمائة، ولم تسبقها إلا العملة الإغريقية “الستاتر الذهبي” التي تعود إلى القرن الثامن ق.م. إضافة إلى توحيد الموازين والمقاييس وتنظيم القوانين وتشجيع التجارة العالمية وأنشاء وإدارة الطرق والموانئ والبنوك، وفي عهد دارا الثالث أيضا، تم الانتقال من ألواح الكتابة الرافدانية الطينية إلى الرقائق الجلدية والأقلام، كما بُني نظام ري تحت أرضي وارتقى مستوى الاقتصاد إلى مستوى رفيع.
ومما لا شك فيه أن الدولة الإيرانية الأخمينية، استفادت من إنجازات الحضارة الرافدينية المجاورة لها، فتمثلتها وطوَّرتها؛ استعملت الكتابة المسمارية بنسخة مطوَّرة، واعتمدت اللغة الآرامية السائدة في بلاد الرافدين والشام كلغة دبلوماسية وإدارية في العهد الفرثي. وقبلها استعمل قورش اللغة الأكدية في نقش أسطوانة صلصالية عُرِفت باسم “أسطوانة قورش” وهي محفوظة في المتحف البريطاني اليوم وتستحق وقفة صغيرة في الآتي:
بروباغندا قورش وحقوق الإنسان
إن من العسير حقا على الباحث والإنسان المحايد عموما أن يقتنع بقرار الأمم المتحدة الاحتفال في كانون الأول – ديسمبر 2021 بأسطوانة قورش وتمجيد صاحبها، بوصفه صاحب “أول ميثاق لحقوق الإنسان في العالم”؛ فماذا يقول نصها يا ترى؟ إنه بيان دعائي حربي يعلنه الغازي قورش على سكان بابل المحتلة، فيصف نفسه بالملك العظيم ويُشيد بأصله ونسبه، ويتهجم على عدوه المهزوم الملك البابلي نابونئيد ويصفه بالملك الظالم الذي عذَّب شعبه ويهجو أصله ونسبه، ثم يمارس قورش التضليل الديني فيخبر البابليين بأنه لم يأتِ من تلقاء نفسه بل بعثه كبير الآلهة البابلية مردوخ لينقذهم من ظلم ملكهم. ويُختتم النص بوصف عملية إصلاح قورش لسور بابل الذي حطمه جيشه، ويتعهد بأنه سيضمن التعددية الدينية ويعيد المهجرين إلى بلدانهم.
والحقيقة فالتعددية الدينية والقومية كانت سمة سائدة في بلاد الرافدين التي استوعبت العديد من الديانات والآلهة وهجرات الشعوب الأخرى بل وعاشت في ظل حكم أسر جزيرية من خارجها كالأموريين، وأكدتها شرائع البلاد الخمس – والتي سنذكرها بعد قليل – طَوال تاريخها. أي أن المجتمعات الرافدانية كانت تعددية أساسا بمقاييس ذلك العهد الغابر، أما قورش فقد جاء من بيئة جبلية منعزلة ومجتمع أحادي اللغة والأصل العرقي، ولهذا فهو كمن يبيع البابليين بضاعتهم نفسها أو كما يقال “يبيع الماء في حارة السقائين”! إن سبب احتفال الأمم المتحدة بأسطوانة قورش ليس هنا على الأرجح، بل في تعهده بإعادة الأسرى اليهوذاويين “اليهود” إلى بلادهم، فكرَّسوه وطيّبوه هم وأحفادهم من بعدهم كمنقذ لهم. وإلا هل نسيت الأمم المتحدة أن قورش ملكٌ معتدٍ وغازٍ، غدر بحلفائه الكلدانيين وأسقط دولتهم واحتل بلادهم ودمر عاصمتهم وجرَّ عليهم الولايات والمآسي؟ وإذا كانت “أسطوانة قورش” هي “أول ميثاق لحقوق الإنسان في العالم” كما قالوا، فينبغي القول إنه “أول ميثاق اقتبسه ملك غازٍ احتل بلدا جارا واستعمره في العالم”!
ومع ذلك، فإن من شروط الموضوعية في البحث عدم الشطب على شخصية وإنجازات قورش المهمة والتأسيسية الأخرى، وضرورة تسجيل حقيقة أن الدولة الأخمينية في عهده والعهود اللاحقة قد اقتبست وطورت بعض تشريعاتها وعقائدها وعلومها وأساليب إدارتها ومبادئ التسامح والتعددية الدينية والعرقية من الحضارة الرافدانية، ولكننا لم نسجل ولادة قمم أدبية شاهقة كتلك التي قدمتها الرافدانية وبلغت ذروتها في ملحمتي “كلكامش” و”الإينوما إيليش – حينما في الأعالي”.
استمر صعود الدولة الإمبراطورية الإيرانية في القرون اللاحقة، فبعد سقوط الدولة الأخمينية سنة 330 ق.م، بانتصار الإغريق عليها، نشأت دول إيرانية أخرى وبقي العراق القديم تحت سيطرتها.
والواقع، فإن فترة الاحتلال المقدوني في زمن الاسكندر والسلوقيين بعده للعراق كانت قصيرة ومضطربة. إذ دخل المقدوني بابل بعد أن هزم الفرس الأخمينيين في معركة أربيلو سنة 331 ق.م، واستسلمت له حاميتها الفارسية. وفي 10 حزيران 323 ق. م، مات الاسكندر. وفي سنة 311 ق.م، بدأ العهد السلوقي ثم سيطر الفرس الفرثيون على العراق وانتزعوا بابل من السلوقيين مرتين، الأخيرة كانت في سنة 140 ق.م. ثم انتزع الرومان العراق من السلوقيين ودخل الإمبراطور الروماني تراجان بابل سنة 115 م، وكانت بابل أطلالا شبه فارغة من السكان. واستمرت حالة الاضطراب وتبادل السيطرة بين الرومان والفرس الفرثيين ثم الفرس الساسانيين قرابة قرن من الزمان حتى استقر الوضع بسيطرة الفرس الساسانيين على العراق في عهد الملك أردشير سنة 236 م. واستمر الاحتلال الساساني حتى الفتح العربي الإسلامي الذي أزال دولتهم من الوجود بمقتل ملكها يزدجرد الثالث، وأصبحت أقاليم إيران تابعة للدولة الأموية ثم العباسية وعاصمتها بغداد حتى الغزو المغولي سنة 1258م. وبهذا اختتمت صفحة من صفحات الصراع المرير بين الجبل الإيراني والوادي الرافداني في العصور الغابرة.
الصعود الإيراني والتوقف الرافداني
بالعودة قليلا إلى الوراء التاريخي، نسجل أن بداية نهوض إيران تزامنت مع ذروة صعود الإمبراطورية الآشورية في بلاد الرافدين وبدء انحدارها. ثم جاء تحالف الرافدانيين الجنوبيين “الكلدان البابليين” مع الميديين “الفرس الأخمينيين” لينهي الدولة الآشورية سنة 612 ق.م، وبعدها الدولة الكلدانية.
في الفترة بين سنة 550 وسنة 334 ق م، “أصبحت إمبراطورية فارس قوة عالمية هيمنت لما يزيد على قرنين. وقبل “سطوع نجم الإمبراطورية الرومانية، كان لفارس قصب السبق في التأكيد على سطوة القانون، وإنشاء جيش مركزي قوي، وحكومة دولة فعالة ونظامية”. وما يقوله الصحافي الذي كتب هذه الفقرة صحيح في خطوطه العامة، وينطوي على إنصاف محمود للحضارة الإيرانية. إنما ينبغي أن نسجل أيضا لأغراض البحث العلمي، وكمعطى تأريخي، أن الحضارة الرافدانية المجاورة كانت قد سبقت الدولة الأخمينية بأكثر من ألف وخمسمائة عام الى إقامة الدولة الفعالة والجيوش النظامية وأشاعت التسامح الديني والعرقي؛ وشرعت أولى الشرائع والقوانين وأكدت سطوتها، فشريعة الملك الرافداني حمورابي، والذي حكم بين سنة 1792 وسنة 1750 ق.م، أشهر من نار على علم. أما الأقل شهرة منها فهي أربع شرائع قانونية رافدانية هي حسب التوالي التأريخي: وثيقة إصلاحات أوركاجينا، ويرجع تاريخها إلى عام 2355 ق.م، وقانون أورنمو ويقدر تاريخه بين 2100 و2050 ق. م، وقانون لبت عشتار، خامس ملوك سلالة أيسن بين 1934 و1924 ق.م، وأخيرا شريعة أشنونا “قانون الملك بلالاما” والتي سُنَّت في عام 1930 ق.م.
العيلاميون ميديون آريون بثقافة رافدانية
وفي هذا الإطار، يمكننا أن نخصَّ العيلاميين ودولتهم بوقفة خاصة هنا لأهمية العلاقة بينهم وبين بلاد الرافدين، فهي كما سنرى علاقة تفاعل، وأخذ وعطاء، وحرب وسلام، بين شعبين مختلفين عرقيا ولغة في بلدين متجاورين، لا يمكننا في عصرنا الحاضر أن نجعل أحدهما جزءا عضويا من الآخر وإلحاقه به، إلا في حدود التأثر والتأثير الحضاري المتبادل وجدلية “الاحتلال والتحرير” بين حضارة واسعة في بلد كبير كوادي الرافدين وجيب جغرافي صغير يقطنه شعب صغير يعيش ضمن نمط الغزو في جنوبه.
تبدأ قصة إقليم عيلام في حدود 3200 ق.م، حيث نشأ مجتمع بشري منظم في أقصى الجنوب الغربي من إيران الحالية “الجنوب الشرقي من العراق الحالي”، أي أن تاريخ بلاد عيلام عاصر أواخر عصر فجر السلالات السومرية. وقدَّم الباحثون المتخصصون بالأنثروبولوجيا عدة فرضيات حول أصل العيلاميين، فذهبت غالبيتهم إلى القول إنهم ميديون جاءوا من الهضبة الإيرانية.
أما لغتهم فلا علاقة لها بلغات شعوب بلاد الرافدين فهي مستقلة، ينسبها ول دورانت الى العائلة الهندوآرية، ولا يمكن مماثلتها بأية لغة معروفة. ولكن العيلامين استعاروا الكتابة المقطعية المسمارية وبعض مظاهر الديانة والإنجازات الحضارية من جنوب الرافدين وأدخلوا عليها بعض التغييرات.
وماتزال مشكلة أصول العيلاميين القدماء لمرحلة ما قبل المديين، موضوع خلاف واجتهادات بين المتخصصين؛ فالعالم الآثار المختص بالحضارة العيلامية والتر هينز يرى أنهم، بحسب النقوش المرسومة في مدينة سوس، ثلاثة أصناف، الجنس الأبيض، الجنس الداكن البشرة، والجنس البني البشرة الساكن في الجبال، يقول هينز عن الجنس الأبيض بأنه وبوضوح يمثل الفرس، مع إنهم يرتدون اللباس العيلامي، ويقول عن الجنس الداكن البشرة إن هؤلاء هم عيلاميو الأودية، وهم ذوو البشرة الداكنة ولكنهم ليسوا من الزنوج. وعن الجنس الثالث، أصحاب اللون البني، الذي يعيش في الجبال فينسب إلى هينز اعتقاده أنه “قد يكون” من الشعب الذي يعرف باللور، والذي لا يعتبر من العيلاميين الخلص. ولكن عالما آخر هو دنيال بوتس عارضه هينز وقال إن اللور قد يكونون أخلاف عيلاميي الجبال الخلص. ومن الواضح أن هذه الاجتهادات والافتراضات النظرية غير مدعَّمة بأدلة أركيولوجية مهمة سوى رسومات بدائية بألوان عمرها آلاف السنوات ولا يمكن المراهنة على دقتها كدقة المعلومات المستنبطة من الهياكل العظمية مثلا، فهي إذن مجرد تخمينات تلقى على العواهن. أما النقوش الكتابية التي عثر عليها في عيلام القديمة “فلم تُفَك شفرتها ولم يتمكن الخبراء من قراءتها حتى الآن”، فهي لا تقدم لنا أية معلومات مفيدة. ثم أن وجهات نظر هينز وبوتس وسواهما لا تفسر لنا الفرق الزمني الكبير بين وجود العيلاميين في الجنوب في تاريخ يتزامن مع وجود السومريين خلال الألف الثالث قبل الميلاد، وبين ظهور الميديين بعد هذا التاريخ بزمن طويل في موطنهم الأصلي شمالا.
أطلق السومريون على بلاد عيلام اسم “إينم”، وتعني هذه العلامة المسمارية الهضبة أو المكان المرتفع، ويمكن أن نستنج من ذلك إشارة قوية إلى موطن العيلاميين الأصلي في الهضبة الإيرانية، تُضْعِف بالتالي من الافتراضات النظرية التي ترجعهم إلى مناطق أخرى جنوبا. وعلى هذا، يغدو من العبث وانعدام الدقة اعتبار العيلاميين جزءا من شعوب بلاد الرافدين الجزيرية السامية القديمة، ولكن هذا لا يعني انعدام وجود تفاعل حضاري “سلمي وحربي” واسع وعميق بين شعوب المنطقة جعل العلاميين جزءا من المحيط الثقافي الرافداني الأكبر والأفعل. أما الحديث عن منطقة خوزستان “عربستان” بوصفها جزءا من العراق الحديث في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين فأمر مختلف تماما، إذ أن خوزستان “عربستان” التي سكنتها قبائل عربية بعد انتهاء عهد الإمبراطوريات القديمة، لا علاقة له بالموضوع، فهو ينتمي لحالة وكيانية جغراسياسية وتاريخية وإناسية مغايرة تماما.
الطريف، وربما المثير للسخرية، هو أن القائلين برافدانية عيلام يستنجدون ويستشهدون بحقيقة وجود قبائل عربية عراقية في هذا الإقليم اليوم لتأكيد رافدانيته، ولكنهم يرفضون الإقرار بهوية العراق العربية ويسخرون ممن يحتج بوجود القبائل العربية العراقية نفسها في العراق قبل وبعد الإسلام ليدلل على أن هوية العراق الانثروبولوجية والثقافية عربية، بل يريدونها أن تكون أمة عراقية من السومريين والأكديين والآشوريين الناطقين بالعربية على سن ورمح!
عيلام والأصول اللورية الكردية
ومثلما يعبث المناهضون لعروبة العراق من حملة مقولة “الأمة العراقية الناطقة بالعربية” بحقائق التاريخ ومعطيات الجغرافية والآثار يفعل مثلهم القائلون بتبعية جنوب العراق لعيلام اللورية الكردية! إذ يذهب هؤلاء إلى القول إن تلك الكتابة القديمة في “إيلام” كردية، وان الشعب “الإيلامي” هو شعب كردي أو سلف الكرد اللور الفيلية، ويكرر الكاتب كلمة كرد عشرات المرات في مقالة من صفحتين دون أن يسند وجهة نظره بأدنى سند علمي أركيولوجي أو غيره، بل لم يقدم مقتبسا واحدا بالتوثيق الدقيق لأي باحث معروف برصانته ذكر اسم الكرد في الموضوع العيلامي باستثناء الافتراض الهائم والمنسوب إلى والتر هينز دون ذكر المصدر التأليفي حول العلاقة المحتملة بين اللور والعيلاميين. خصوصا وإن أحدهم – محمد أمین زكی بهگ – كتب مقالة على مواقع التواصل يقول فيها إن “النقوش العيلامية القديمة – يسميها الإيلامية ربما لإبعاد شبهة العروبة – والتي عثر عليها في تلك المنطقة “لا تشبه الكتابة المسمارية في وادي الرافدين بل تتألف من خطوط ودوائر، ومازالت النصوص غير مقروءة، اذ لم يستطع الآثاريون فك شفرتها” فكيف إذن يتم توظيف هذه الكتابة التي لم تٌفك شفرتها لتأكيد الهوية الكردية لعيلام وناسها وكتابتها القديمة؟
إن الكلام عن وجود كتابة عيلامية مستقلة في البدايات الأولى، لا ينفي استخدام العيلاميين للكتابة المقطعية السومرية، وإجراء تعديلات عليها، فهناك الكثير من النقوش العيلامية ترينا كتابة مسمارية لا تختلف في شيء عن النماذج التي نراها في الكتابات المسمارية الرافدانية، وبالتالي فلا مشاحة أو مثلبة في أن تكون عيلام ومجتمعها جزءاً من الدائرة الحضارية الثقافية الرافدانية الأوسع، فالتأثر والتأثير أمران طبيعيان ومألوفان بين الحضارات القديمة؛ أما الزج باسم شعب آخر كالشعب الكردي والذي لم يرد اسمه في أي أثر أركيولوجي لعهود ما قبل الميلاد فيدخل في باب العنعنات السياسية القومية التي لا علاقة لها بالبحث العلمي، وهي – بالمناسبة – ليست حكرا على القوميين الكُرد، بل إننا نجد مثيلا لها لدى القوميين الإيرانيين المعاصرين، الذين ينظرون إلى العراق كجزء من إيران وكامتداد “أبدي” لإمبراطوريتي قورش ويزدجرد البائدتين!
خلاصات مفتوحة
إن الذين يجعلون بلاد عيلام جزءا لا يتجزأ من بلاد الرافدين في العصور القديمة ويستشهدون بكون إقليم عربستان “خوزستان” كان جزءا من العراق في العهد العباسي، ثم في العهد العثماني، لتأكيد أنه كان جزءاً من بلاد الرافدين القديمة قبل الإسلام يخلطون بين أكثر من نوع من أنواع الكيانية الجغراسياسية والحضارية – هذا على افتراض أنهم يعرفون فحوى هذه المقولة – وهم لا يقيمون اعتبارا لمكونات وهويات تلك الكيانات المتحولة والمتغيرة والسائرة إلى التَشَكُّل أو الاستبدال أو الزوال. فالتاريخ عندهم كتلة واحدة صماء، أو هو خط حديدي يبدأ من العصر الحجري ويستمر صعودا في خط مستقيم إلى يومنا هذا! ولذلك، فهم لا يستطيعون أن يدركوا أو يفهموا السر في أن العيلاميين قد انقرضوا كشعب وككيانية جغراسياسية بدائية، واندمجوا في الشعوب الإيرانية وكياناتها اللاحقة، مثلما اندمج السومريون والأكديون والآشوريون والكوتيون والكيشيون وذابوا في شعوب وأمم أخرى نشأت على أنقاض دولهم وإمبراطورياتهم البائدة وصارت لهم هوياتهم الجديدة المختلفة شكلاً ومحتوىً عن الهويات العرقية واللغوية القديمة. لقد انتهت السيرورة والصيرورة التاريخية القديمة وبعد مرور آلاف السنوات إلى إيجاد أمم وشعوب في عصرنا هي أقرب إلى المزيج الإناسي والإثني واللغوي مع غلبة واضحة وقائدة للعامل الإناسي الجديد الغالب – العربي في حالة العراق ومصر والشام، والآري الفارسي في حالة إيران، خلال عملية تَشَكُّلٍ وتطور وتَكَوُّنٍ وتراجع وتقدم وتفاعل مستمرة ولن تنتهي إلا بانتهاء التاريخ البشري؛ فتلك هي سُنَّة الحياة وآليات اشتغال البحث العلمي الرصين، الذي ينبغي أن يكون عاملا من عوامل ترسيخ الصداقة والسلام بين الشعوب، والاعتبار بتجارب الماضي ومقاربة حقائقه دون مساومات سياسوية وأيديولوجية سطحية.
*كاتب عراقي