كارل ماركس
مختارات من راس المال
كارل ماركس و فريدرك انجلز
كارل ماركس: رأس المال (نقد الاقتصاد السياسي)
الكتاب الأول: عملية إنتاج الرأسمال
القسم السابع: عملية تراكم رأس المال
الفصل الرابع والعشرون: ما يسمى بالتراكم الأولي
6- منشأ الرأسمالي الصناعي
ان منشأ الرأسمالي الصناعي(3) لم يمض في مسار تدريجي كالذي تميز به منشأ المزارع. ولا ريب في ان بعض صغار معلمي الطوائف الحرفية، إضافة إلى عدد اكبر من صغار الحرفيين المستقلين، بل حتى العمال المأجورين، قد تحولوا إلى رأسماليين صغار، ثم تحولوا، بتوسيع نطاق استغلال العمل المأجور تدريجياً، وتوسيع تراكم رأس المال بالمقابل، إلى رأسماليين san phrase (بدون تحفظات). في عهد طفولة الإنتاج الرأسمالي، كانت الأمور تجري في الغالب كما في عهد طفولة مدن القرون الوسطى، حيث كانت مسألة أي من الأقنان الهاربين ينبغي ان يكون رب عمل وأيهم يكون خادماً، تُبَت، عادةً، حسب تاريخ فرار القِن من سيده، أيهم اقدم وأيهم احدث عهداً بالفرار. بيد ان هذه الطريقة البطيئة بطء السلحفاة لم تكن تتناسب، بأية صورة، مع المتطلبات التجارية للسوق العالمية الجديدة التي خلقتها الاكتشافات العظمى في نهاية القرن الخامس عشر. ان العصور الوسطى خلفت شكلين متميزين من رأس المال، نضجا في اكثر التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية تبايناً، وكان يعتبران، قبل حلول حقبة الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، بمثابة رأسمال على العموم، وهما رأس المال الربوي، ورأس المال التجاري.
“في الوقت الحاضر، تذهب ثروة المجتمع كلها إلى يد الرأسمالي أولا… فيدفع إلى مالك الأرض ريعه، وإلى العامل أجره، وإلى جباة الضرائب والعشور ما يطلبون، ويحتفظ من الناتج السنوي الذي يخلقه العمل بقسم كبير، بل بالقسم الأكبر الذي يتنامى باستمرار. ويمكن القول الآن ان الرأسمالي هو أول من يملك كل الثروة الاجتماعية، رغم انه لا يوجد قانون يضمن له الحق في هذه الملكية… وهذا التحول في ميدان الملكية قد تحقق بفعل اخذ الفائدة المئوية عن رأس المال… وليس من الغريب في شيء ان جميع المشرعين في أوروبا سعوا لمنع ذلك بالقوانين المضادة للربا… ان سلطة الرأسماليين على مجمل ثروة البلاد تؤلف ثورة كاملة في حق الملكية، فبأي قانون، أو بأي سلسلة قوانين تحققت هذه الثورة؟”(4)
كان حرياً بالمؤلف ان يعرف ان الثورات لا تصنعها القوانين أبداً.
لقد كان النظام الإقطاعي في الريف، ونظام الطوائف الحرفية في المدن، يمنعان رأس المال النقدي، الذي نشأ عن طريق الربا والتجارة، من التحول إلى رأسمال صناعي(5). وتلاشت هذه الأغلال بانحلال زمر الخدم الأتباع للإقطاعي، وبانتزاع ملكية سكان الريف وطرد قسم منهم. لقد انبثقت المانيفاكتورات الجديدة في مرافئ التصدير البحرية أو في نقاط على البر الداخلي، بعيداً عن سيطرة المدن القديمة وأنظمة طوائفها الحرفية. من هنا منشأ الصراع الضاري الذي خاضته corporate towns (مدن الطوائف الحرفية) في إنكلترا ضد هذه المنابت الجديدة الصناعة.
ان اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية(6)، وتحويل إفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، ان ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. ان هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأولي. ثم جاءت في أعقابها، الحرب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية جاعلة الكرة الأرضية ساحتها. فقد اندلعت بانفصال هولندا عن أسبانيا، واتخذت أبعاداً هائلة في حرب إنكلترا ضد اليعاقبة(7)، وما تزال مستعرة في حروب “الأفيون” ضد الصين، وهلم جراً.
وتتوزع مختلف عناصر التراكم الأولي، في تسلسل زمني متعاقب إلى هذا الحد أو ذاك، بين مختلف البلدان، وبخاصة أسبانيا والبرتغال وهولندا وفرنسا وإنكلترا. وقد اندمجت في إنكلترا، نحو أواخر القرن السابع عشر، في مجموع منتظم يشمل معاً نظام المستعمرات، ونظام الاقتراض الحكومي، ونظام الضرائب الحديث، ونظام الحماية الجمركية. واعتمدت هذه الطرائق، في جانب منها، على العنف الوحشي، كالنظام الاستعماري مثلاً. ولكنها جميعاً تستخدم سلطة الدولة، أي العنف المنظم والمركز في المجتمع، بغية إنماء عملية تحويل الأسلوب الإقطاعي للإنتاج إلى أسلوب رأسمالي، وتقليص مراحله الانتقالية. ان العنف هو قابلة كل مجتمع قديم يحمل في أحشائه مجتمعاً جديداً. ان العنف هو، ذاته، قوة اقتصادية.
وبصدد النظام الاستعماري المسيحي، يقول و. هاوويت، وهو الذي اتخذ من المسيحية اختصاصاً له:
“ان الأعمال الوحشية والفظائع البشعة التي ارتكبتها ما يسمى بالعروق المسيحية، في مختلف أرجاء المعمورة، وضد جميع الشعوب التي استطاعت ان تخضعها لسلطانها، لا مثيل لها عند أي عرق آخر، مهما بلغ به العنف والجهل، ومهما بلغ من القسوة والوقاحة، في أي عصر من عصور التاريخ.”(8)
ان تاريخ الاقتصاد الاستعماري الهولندي، وهولندا هي نموذج البلد الرأسمالي في القرن السابع عشر، “يعرض للأنظار صورة لا مثيل لها من الخيانة والرشاوى والمذابح والسفالة”(9). ولا أدل على ذلك من أسلوبهم في سرقة البشر في جزيرة سيليب للحصول على عبيد لأجل جزيرة جاوا. وكان يجري تدريب لصوص البشر خصيصا لهذا الغرض. وكان هذا اللص، والمترجم والبائع، هم المشاركين الرئيسيين في هذه التجارة، وكان الأمراء المحليون هم الباعة الرئيسيين. وكان الفتيان المسروقون يرزحون في زنزانات سرية في سيليب، حتى يبلغون السن المناسبة لشحنهم في سفن نقل العبيد. وقد ورد في أحد التقارير الرسمية:
“ان مدينة ماكاسار وحدها، على سبيل المثال، ملأى بسجون سرية، وأحدها أفظع من الآخر، تغص بالمنكوبين، ضحايا الجشع والاستبداد، وهم مثقلون بالقيود، بعد ان انتزعوا من أهلهم عنوة”.
ومن اجل الاستيلاء على ملقة، عمد الهولنديون إلى رشوة حاكمها البرتغالي. وقد فتح لهم هذا أبواب المدينة عام 1641. فهرعوا إلى منزله في الحال وقتلوه غيلة، لكي “يتقشفوا” في دفع ثمن الخيانة البالغ 21.875 جنيهاً. وما ان تطأ أقدامهم أرضاً، حتى يحل بها الخراب ويقل سكانها. لقد كان (عدد) سكان بانيوفانغي، إحدى مقاطعات جاوا، يناهز 80 ألف نسمة عام 1750، اما عام 1811 فلم يبق منهم سوى 8 آلاف. ما الطف هذه التجارة!
لقد حصلت شركة الهند الشرقية الإنكليزية، كما هو معروف، إلى جانب السلطة السياسية لحكم الهند الشرقية، على الاحتكار المطلق لتجارة الشاي، إضافة إلى احتكار التجارة مع الصين عموماً، واحتكار نقل البضائع من أوروبا واليها. ولكن الملاحة قرب سواحل الهند وبين الجزر، وكذلك التجارة داخل الهند، كانتا احتكاراً مقصوراً على كبار موظفي الشركة. وكان احتكار الملح والأفيون والتامول وغير ذلك من السلع مصدر ثراء لا ينضب. وكان الموظفون ذاتهم يقررون الأسعار، وينهبون الهنود التعساء على هواهم. وكان الحاكم العام يشارك في هذه التجارة الخاصة. وكان المقربون إليه يحظون بالعقود وفق شروط تتيح لهم، خيراً من السيمائيين، ان يصنعوا الذهب من العدم. وكانت ثروات طائلة تنبت كالفطر في نهار واحد، بينما يمضي التراكم الأولي قدماً دون تسليف شلن واحد. وتزخر محاكمة “وارن هاستغس” بحالات من هذا النوع. إليكم مثالاً واحداً منها: كان عقد الأفيون قد رسا على شخص يدعى ساليفان لحظة سفره في مهمة رسمية إلى منطقة نائية في الهند تبعد كثيراً عن مناطق زراعة الأفيون. فباع ساليفان عقده إلى آخر يدعى “بين” بمبلغ 40 ألف جنيه إسترليني، فباعه “بين” بدوره لقاء 60 ألف جنيه في اليوم ذاته. اما آخر من اشترى العقد ونفذه فقد أعلن انه حقق، بعد كل هذا، مكسباً ضخماً. واستناداً إلى إحدى الوثائق التي رفعت إلى البرلمان، أرغمت الشركة وموظفوها، بين أعوام 1757 – 1766، الهنود على تقديم هدايا تبلغ قيمتها 6 ملايين جنيه. وقد دبر الإنكليز، في عامي 1769 و 1770، مجاعة مفتعلة عن طريق شراء محصول الرز كله، رافضين بيعه ثانية الا بأسعار خيالية(10).
وكانت معاملة السكان الأصليين، بالطبع، افظع ما يكون في المستعمرات الزراعية المكرسة لتجارة التصدير فقط، مثل الهند الغربية، وكذلك في البلدان الغنية والمكتظة بالسكان، مثل المكسيك والهند الشرقية، التي وقعت في براثن النهب. غير ان الطابع المسيحي للتراكم الأولي تجلى حتى في المستعمرات بالمعنى الدقيق للكلمة. ان بيوريتانيي نيوانكلند، أطهار البروتستانتية الرزينة هؤلاء، قرروا في Assembly (جمعيتهم التشريعية) عام 1703، تقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً عن سلخ فروة رأس كل هندي احمر، وعن كل أسير من الهنود الحمر، وفي عام 1720 ارتفعت مكافأة فروة الرأس المسلوخة إلى 100 جنيه؛ اما في عام 1744، وبعد ان اعتبرت إحدى القبائل في منطقة خليج ماساشوسيتس متمردة، وضعت الأسعار التالية: فروة رأس ذكر عمره 12 عاماً فما فوق تساوي 100 جنيه بالعملة الجديدة، أسير من الرجال 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل 55 جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل 50 جنيهاً! وبعد عدة عقود من السنين اخذ النظام الاستعماري ثأره من أحفاد أولئك pilgrim fathers (الأجداد الحجاج) الورعين، الذين باتوا بدورهم متمردين. فبرشوة من الإنكليز وبتأليب منهم فتك بهم الهنود الحمر بالفؤوس. وأعلن البرلمان البريطاني ان الكلاب الدموية وسلخ فروة الرأس “وسائل وضعها الرب والطبيعة بين يديه”.
لقد انضج النظام الاستعماري نمو التجارة والملاحة. وغدت “الشركات الاحتكارية”، على حد تعبير لوثر، رافعات جبارة لتركز رأس المال. وضمنت المستعمرات سوقاً للتصريف بالنسبة للمانيفاكتوارت الناشئة بسرعة، اما احتكار السوق هذا فقد ضمن مضاعفة التراكم. ان الكنوز المنتزعة من خارج أوروبا، بالسطو السافر، واستعباد السكان المحليين وقتلهم، تدفقت على البلد الأم وتحولت فيه إلى رأسمال. وقد بلغت هولندا التي كانت السباقة إلى تطوير النظام الاستعماري تطويراً كاملاً، ذروة عظمتها التجارية عام 1648.
“كانت هولندا تحتكر، لوحدها تقريباً، تجارة الهند الشرقية، والتبادل التجاري بين جنوب غربي أوروبا وشمالها الشرقي. وكانت مصائد أسماكها، وملاحتها، ومانيفاكتوراتها تفوق ما يملكه أي بلد آخر منها. ولربما كان إجمالي رأسمال هذه الجمهورية اكبر من رؤوس أموال بقية بلدان أوروبا مجتمعة”.
وينسى غوليخ، كاتب هذه الأسطر، ان يضيف بأن الجماهير الشعبية في هولندا كانت، في عام 1648 تعاني من العمل المفرط، والفقر، والقمع الوحشي، اكثر مما كانت تعانيه الجماهير الشعبية في بقية بلدان أوروبا مجتمعة.
ان الهيمنة الصناعية في يومنا هذا تجر معها الهيمنة التجارية. اما في عهد المانيفاكتورة، بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت الهيمنة التجارية، بعكس ذلك، هي التي تمنح التفوق الصناعي. ومن هنا جاء ذلك الدور الحاسم الذي لعبه النظام الاستعماري آنذاك. فقد كان هو “الإله الغريب” الذي صعد المحراب ووقف إلى جانب آلهة أوروبا القدامى، ورماهم جميعاً ذات نهار جميل برفسة واحدة إلى قارعة الطريق. وأعلن النظام الاستعماري ان كسب المغانم هو الهدف النهائي والوحيد للبشرية.
ان نظام الائتمان العمومي، أي ديون الدولة الذي نجد براعمه في جنوا والبندقية منذ القرون الوسطى، قد استحوذ على أوروبا بأسرها، في المرحلة المانيفاكتورية. وكان النظام الاستعماري، بتجارته البحرية وحروبه التجارية، بمثابة دفيئة لنظام الائتمان ذاك. وهكذا ضرب جذوره في هولندا في بادئ الأمر. ان دين الدولة، أي نزع الملكية في صالح الدولة، سواء كانت استبدادية، ام دستورية، ام جمهورية، هو ما يَسِمُ الحقبة الرأسمالية بميسمه. والجزء الوحيد مما يسمى بالثروة الوطنية الذي يُعتبر فعلاً ملكاً جماعياً للشعوب المعاصرة هو ديون دولها(11). لذلك فان المذهب الحديث القائل بأن شعباً من الشعوب يزداد ثراء بقدر ما يكون دينه اكبر هو مذهب منطقي تماماً. ويغدو الائتمان العمومي العقيدة التي يعتنقها رأس المال. وبنشوء مديونية الدولة، يغدو الإخلال بالثقة في دين الدولة لا التجديف على الروح القدس، خطيئة لا تغتفر.
ان الدين العمومي يصبح واحداً من أقوى الروافع الجبارة للتراكم الأولى. فهو يمنح النقود العاقر، كما لو بلمسة عصا سحرية، القدرة على الإنجاب، ويحولها بذلك إلى رأسمال، قاضياً على أية حاجة لتعرضها إلى المتاعب والأخطار الملازمة لتوظيفها في الصناعة، أو حتى في أعمال الربا. ان دائني الدولة، لا يعطون شيئاً في الواقع، فالمبالغ التي يفرضونها تتحول إلى سندات دين حكومية، يسيرة التداول، تظل تعمل بين أيديهم مثلما تعمل النقود الفعلية تماماً. ولكن، عدا عن خلق طبقة من الريعيين (renters) المتكاسلين، وعدا عن الثروة المرتجلة التي يجنيها الماليون الذين يلعبون دور الوسيط بين الحكومة والأمة، وكذلك عدا عن متعهدي جباية الضرائب، والتجار، والصناعيين الخاصين، الذي يذهب إليهم جزء كبير من كل قرض حكومي كرأسمال يهبط من السماء، عدا عن ذلك كله فان دين الدولة أدى إلى نشوء الشركات المساهمة، والمتاجرة بالأوراق المالية من كل نوع، والمضاربة بها، وباختصار نشوء المقامرة في البورصة والطغمة المصرفية المعاصرة.
ان البنوك الكبرى، التي توشحت بألقاب وطنية، لم تكن منذ ولادتها سوى شركات من المضاربين الخاصين الذين قدموا المساعدة للحكومات؛ وكان بمقدورهم ان يسلفوها نقوداً بفضل الامتيازات التي حظوا بها. لذا لم يكن ثمة معيار لقياس تراكم ديون الدولة أدق من الارتفاع المتعاقب لأسهم هذه البنوك، التي يرجع تاريخ ازدهارها إلى تأسيس بنك إنكلترا (عام 1694). لقد ابتدأ بنك إنكلترا عمله بإقراض الحكومة بفائدة مقدارها 8، وكان مخولاً من البرلمان، في الوقت نفسه، بسك العملة من هذا الرأسمال عينه الذي كان يقرضه ثانية إلى الجمهور بصيغة البنكنوت. وأجيز البنك ان يستخدم هذه البنكنوت لخصم الكمبيالات وتقديم السلف على البضائع، وشراء المعادن الثمينة. ولم يمض وقت طويل حتى غدت هذه النقود الائتمانية، التي أصدرها البنك بنفسه، العملة التي يقدم بها بنك إنكلترا القروض إلى الدولة، ويدفع بها، بالنيابة عن الدولة، الفائدة المئوية عن ديون الدولة. ولم يكن البنك يعطي بهذه اليد ليأخذ اكثر بكثير باليد الأخرى فحسب، بل ظل، حتى وهو يقبض، الدائن الأبدي للامة حتى استيفاء آخر شلن مسلف. وبالتدريج اصبح، بالضرورة، خازن الكنوز المعدنية في البلاد، ومركز الجاذبية لكل عمليات الائتمان التجاري. وعندما توقف سكان إنكلترا عن إحراق الساحرات، بدأوا يشنقون مزوري البنكنوت. اما أي انطباع ولده لدى أهل ذلك العهد الظهور المباغت لهذا النسل من طغمة المصرفيين، والماليين، والريعيين، والسماسرة، ومضاربي الأسهم وذئاب البورصة… الخ، فذلك ما تبينه مؤلفات ذلك العهد، مثل كتابات بولينغبروك(12).
ومع ديون الدولة، ظهر نظام الائتمان العالمي، الذي غالباً ما يعتبر مصدراً من مصادر التراكم الأولى الخفية عند هذا الشعب أو ذاك. هكذا نجد ان دناءات نظام النهب لمدينة البندقية شكلت ركيزة خفية من هذا النوع لنمو ثروة الرأسمال في هولندا، التي اقترضت من البندقية، الآخذة في الانهيار، مبالغ كبيرة من النقد. وكذلك كان أمر العلاقة بين هولندا وإنكلترا. ففي مطلع القرن الثامن عشر، تخلفت المانيفاكتوارات الهولندية عن مانيفاكتوارت إنكلترا كثيراً، وكفت هولندا عن ان تتبوأ مركز الأمة السائدة في التجارة والصناعة. وهكذا اصبح إقراض رساميل ضخمة، وبخاصة لمنافستها الجبارة إنكلترا، أحد اتجاهات الأعمال الرئيسية بالنسبة لها بين أعوام 1701 و 1776. وقد نشأت مثل هذه العلاقات اليوم بين إنكلترا والولايات المتحدة فان كثيرا من الرساميل العاملة اليوم في الولايات المتحدة، دون ان تحمل شهادة ميلاد، ليست الا دماء الأطفال التي تحولت، بالأمس فقط، إلى رأسمال في إنكلترا.
وبما ان ديون الدولة ترتكز على دخولها، التي ينبغي ان تغطي مدفوعات الفوائد المئوية السنوية وسواها من المدفوعات، فقد اصبح نظام الضرائب الحديث التكملة الضرورية لنظام قروض الدولة، ان القروض تتيح للحكومة ان تغطي النفقات الاستثنائية دون ان تجعل دافع الضرائب يشعر بكل عبثها فوراً، ولكنها تقضي في آخر المطاف بزيادة الضرائب. ومن جهة أخرى فان زيادة الضرائب بسبب تنامي الديون المستمر، ترغم الحكومة، دوماً، على اللجوء المتكرر إلى أخذ قروض أخرى فأخرى لتغطية النفقات الاستثنائية الجديدة. وبالتالي فان نظام المالية المعاصر، الذي يرتكز محوره على الضرائب المفروضة على اكثر وسائل المعيشة ضرورة ( مما يرفع أسعارها) يضم في أحشائه جنين تنامي الضرائب التلقائي. ان فرض الضرائب الفاحشة، ليس استثناء عابراً، بل هو بالأحرى القاعدة المبدئية. ففي هولندا، حيث ترسخ هذا النظام أولاً، قام الوطني الكبير “دي ويت” بتمجيده في مؤلفه “المبادئ” بوصفه افضل طريقة تجعل العامل المأجور مذعناً، مقتصداً، مثابراً، صبوراً على العمل المفرط. الا ان الأثر المدمر الذي يخلفه نظام المالية المعاصر على وضع العمال المأجورين لا يهمنا، هنا، قدر اهتمامنا بالنزع القسري، الناجم عنه، لملكية الفلاحين، والحرفيين، وباختصار جميع عناصر البرجوازية الصغيرة. وليس ثمة اثنان يختلفان بهذا الخصوص حتى بين الاقتصاديين البرجوازيين. ان فِعلَ نظام المالية في نزع الملكية يشتد اكثر بفضل نظام الحماية الجمركية، الذي يؤلف بدوره أحد أقسامه المكونة.
ان الدور الكبير الذي يلعبه الدين العمومي ونظام المالية المطابق له، في تحويل الثروة إلى رأسمال، ونزع ملكية الجماهير، قاد كثيراً من الكتاب، مثل كوبيت ودبلداي وآخرين، إلى ان يروا فيهما، بصورة خاطئة، السبب الأول لبؤس الشعوب المعاصرة.
لقد كان نظام الحماية الجمركية وسيلة مصطنعة لخلق الصناعيين، وانتزاع ملكية الشغيلة المستقلين، وتحويل وسائل الإنتاج والمعيشة الوطنية إلى رأسمال، واختزال فترة الانتقال من الأسلوب القديم للإنتاج إلى الأسلوب الحديث بصورة قسرية. لقد مزقت الدول الأوروبية بعضها البعض إرباً بسبب براءة هذا الاختراع، وما ان دخلت في خدمة فرسان الكسب، حتى لم تعد تكتفي، تحقيقاً لهذه الغاية، بسرقة شعوبها هي، بصورة غير مباشرة عن طريق رسوم الحماية الجمركية، وبصورة مباشرة عن طريق مكافآت التصدير.. الخ بل افتعلت بالقوة، جميع الصناعات في البلدان المجاورة التابعة لها، كما فعلت إنكلترا، مثلاً، بصناعة الصوف الايرلندية. ولقد جرت هذه العملية في القارة الأوروبية ببساطة اكبر، إقتداء بمثال كولبير. فقد تدفق جزء كبير من رأس المال الأولى هنا، إلى الصناعيين من خزينة الدولة مباشرة.
فهتف ميرابو قائلا: لماذا تذهبون بعيداً بحثاً عن سبب ازدهار مانيفاكتورات ساكسونيا قبل حرب السبع سنوات؟ يكفيكم ان تنظروا إلى المائة وثمانين مليوناً من دين الدولة”(13).
النظام الاستعماري، الديون العمومية، نير الضرائب، الحماية الجمركية، الحروب التجارية، وما شاكل ذلك. هذه هي النبتات التي أنتجتها مرحلة المانيفاكتورة الحقيقية، والتي نمت نمواً عملاقاً خلال عهد طفولة الصناعة الكبيرة. ويقترن ميلاد هذه الأخيرة بخطف الأطفال الواسع النطاق على طريقة هيرودس. وعلى غرار الأسطول الملكي، تجند المصانع عمالها بالإكراه. ومهما كانت لا مبالاة السير ف. م. ايدن إزاء أهوال انتزاع أراضى السكان الزراعيين ابتداء من الثلث الأخير للقرن الخامس عشر حتى أيامه في أواخر القرن الثامن عشر، ومهما كان رضاه وابتهاجه بهذه العملية “الضرورية” لإقامة الزراعة الرأسمالية وإقامة “التناسب الصحيح بين الأراضي المحروثة والمراعي”_ إلا ان حتى السير ايدن لا يسمو إلى مثل هذا الفهم للضرورة الاقتصادية القائلة بسرقة الأطفال واستعبادهم بغية تحويل الإنتاج المانيفاكتوري إلى إنتاج فابريكي، وإقامة التناسب الصحيح بين رأس المال وقوة العمل. يقول ايدن:
“لعل ما يستحق استرعاء انتباه الجمهور هو مسألة هل ان الصناعة التي تعمد، لكي تعمل بنجاح، إلى خطف الأطفال المساكين من الأكواخ ومأوى العمل، إلى تشغيلهم على دفعات متناوبة خلال القسم الأعظم من الليل فتسلبهم الراحة التي يحتاجونها اكثر من غيرهم، رغم انها لازمة للجميع، و إلى خلط أعداد كبيرة من الجنسين، ومن أعمار وميول مختلفة، في كومة واحدة مما يؤدي، بالضرورة، إلى استشراء التهتك والفسوق إقتداء بالنماذج السيئة، هل ان مثل هذه الصناعة تستطيع ان تزيد مبلغ السعادة الوطنية والفردية؟”(14)ويقول فيلدن “في ديربيشاير وتوتنغهامشاير، وبخاصة في لانكشاير، استخدمت الماكينات المخترعة حديثاً في فبارك كبيرة شيدت على ضفاف الجداول القادرة على تدوير العجلة المائية. واقتضت الحاجة، بغتة، آلافاً من الأيدي العاملة في هذه العاملة في هذه الأماكن القصية عن المدن، كانت لانكشاير، بوجه خاص، الضئيلة السكان والمجدبة نسبياً آنذاك، في حاجة ماسة إلى السكان اكثر من أي شيء آخر. ولما كانت الحاجة إلى أنامل الأطفال الصغيرة، البارعة، هي الأشد، فسرعان ما أصبحت عادة اخذ متمرنين (!) من مختلف مأوي العمل في ابرشيات لندن وبرمنغهام، وغيرهما. وسيقت إلى الشمال آلاف وآلاف من هذه المخلوقات اليافعة، سيئة الطالع، التي تتراوح أعمارها بين 7 إلى 13 أو 14 عاماً. وجرت العادة ان يتكفل “رب العمل” (أي سارق الأطفال) باكساء المتمرنين وإطعامهم وإيوائهم في “بيت المتمرنين”، قرب الفابريكة؛ وجرى تعيين مراقبين للإشراف على العمل، وكانت مصلحة هؤلاء تكمن في ان يرغموا الأطفال على العمل إلى أقصى حد، لان أجرهم كان يتوقف على كمية العمل التي يعتصرونها من الأطفال. كانت قسوة المعاملة عاقبة طبيعية. وفي الكثير من الدوائر الصناعية، وبوجه خاص، في لانكشاير، ثمة قساوات تقطع انياط القلب، تمارس إزاء هذه المخلوقات الوديعة، التي لا نصير لها، بعد ان وضعت في عهدة رب العمل الصناعي. لقد كانت تنهك بالعمل المفرط إلى شفا الموت… وكانت تجلد، وتقيد بالأغلال، وتسام اشد ألوان العذاب تفنناً… وكانت تساق إلى العمل بالسياط بينما هي تتضور جوعاً… وفي بعض الأحيان كانت تدفع حتى إلى الانتحار!.. ان الوديان الرومانتيكية الجميلة في ديربيشاير ونوتنغهامشاير ولانكشاير، المحجوبة عن أية مراقبة من جانب المجتمع، قد تحولت إلى قفر موحش تمارس فيه جرائم التعذيب، وكثير من جرائم القتل!.. كان الصناعيون يجنون أرباحاً لا حدود لها، فبدءوا يمارسون العمل الليلي، أي انهم يدفعون وجبة من العمال للعمل طول الليل محل وجبة العمال التي أنهكت من العمل طوال النهار. وكانت الوجبة النهارية تأوي إلى الأسرة التي تركتها الوجبة الليلية تواً، و vice versa (والعكس بالعكس). وثمة تقليد شائع في لانكشاير يقضي بألا تدع الأسرة تبرد”.(15)
وبتطور الإنتاج الرأسمالي خلال المرحلة المانيفاكتورية، فقد الرأي العام في أوروبا آخر نقطة من الحياة والضمير. وصارت الأمم تتفاخر، في وقاحة، بكل عمل شائن يخدمها كوسيلة للتراكم الرأسمالي. لنقرأ مثلاً، تاريخ التجارة الساذج، للرجل المستقيم أ. اندرسون. انه يصدح بالمديح لما يسميه انتصار البراعة السياسية الإنكليزية، لان إنكلترا، عند عقد صلح “أوترخت”، انتزعت من أسبانيا، بموجب معاهدة اسينتو، امتياز المتاجرة بالزنوج بين إفريقيا وأمريكا الأسبانية، بعد ان كانت هذه المتاجرة محصورة حتى ذلك الحين بين إفريقيا والهند الغربية الإنكليزية. ونالت إنكلترا بذلك الحق في تزويد أمريكا الأسبانية بــ 4800 زنجي سنوياً حتى عام 1743. وقد أضفى ذلك ستاراً رسمياً، في الوقت نفسه، لإخفاء تجارة التهريب البريطانية. وسمنت ليفربول من تجارة العبيد. وكانت تلك وسيلتها لتحقيق التراكم الأولى. وما يزال “أعيان” ليفربول، حتى يومنا هذا، بمثابة بنداروس يمدح تجارة العبيد التي (راجع مؤلف ايكن الصادر في 1795 الذي استشهدنا به من قبل) “تحول روح المبادرة التجارية إلى ولع وتنشئ البحارة الجسورين وتحمل أرباحاً عظيمة”. وقد استخدمت ليفربول في تجارة العبيد 15 سفينة عام 1730 و53 عام 1751، و74 عام 1760، و96 عام 1770، و132 عام 1792.
وبينما أدخلت صناعة القطن عبودية الأطفال في إنكلترا، فإنها أعطت الولايات المتحدة دافعاً يحفز تحويل الاقتصاد العبودي الذي كان يتسم من قبل بطابع أبوي، بهذا القدر أو ذاك، إلى نظام استغلالي تجاري. وعموماً، ان العبودية المموهة للعمال المأجورين في أوروبا كانت بحاجة إلى العبودية sans phrase (بدون تحفظات) في العالم الجديد، كقاعدة ارتكاز(16).
لقد Tantae molis erat (اقتضى الأمر مثل هذا المجهود) كي تولد “القوانين الطبيعية الأزلية” للأسلوب الرأسمالي للإنتاج، وتتحقق عملية فصل العمال عن شروط عملهم، وتتحول وسائل الإنتاج والمعيشة الاجتماعية إلى رأسمال في هذا القطب، وتتحول جماهير السكان في القطب المعاكس من عمال مأجورين، إلى “فقراء عاملين” أحرار؛ هذا النتاج العجيب الذي اصطنعه التاريخ الحديث (17). وإذا كانت النقود، حسب قول اوجيه (18)، “تجيء إلى الدنيا وعلى خدها لطخة دم بالولادة”، فان رأس المال يولد وهو ينزف دماً وقذارة، من جميع مسامه، من رأسه وحتى أخمص قدميه (19).
7- الميل التاريخي للتراكم الرأسمالي
إذن، ما هو فحوى التراكم الأولى لرأس المال، أي منشؤه التاريخي؟ فبما ان هذا التراكم ليس تحولاً مباشراً للعبيد الأرقاء والأقنان إلى عمال مأجورين، وليس بالتالي مجرد تبدل في الشكل، فانه لا يعني سوى انتزاع ملكية المنتخبين المباشرين، أي انحلال الملكية الخاصة القائمة على العمل الشخصي لمالكها.
ان الملكية الخاصة، بوصفها نقيض الملكية الاجتماعية الجماعية، لا توجد الا حيث تكون وسائل العمل والشروط الخارجية للعمل ملكاً لأفراد خاصين. بيد ان طابع الملكية الخاصة هذا يختلف تبعاً لكون هؤلاء الأفراد شغيلة أم غير شغيلة. ان التلاوين التي لا تحصى والتي نراها في الملكية الخاصة لأول وهلة، لا تعكس غير الأوضاع الوسيطة الواقعة بين هذين القطبين المتضادين.
ان ملكية الشغيل الخاصة لوسائل إنتاجه هي قاعدة الإنتاج الصغير، والإنتاج الصغير بدوره، هو الشرط الضروري لتطور الإنتاج الاجتماعي والشخصية الفردية الحرة للشغيل نفسه. وبالطبع فان أسلوب الإنتاج هذا كان قائماً في ظل العبودية والقنانة وغيرهما من أشكال التبعية الشخصية. ولكنه لا يزدهر، ولا يطلق العنان لكامل طاقاته، ولا يبلغ شكله الكلاسيكي الوافي، الا حيثما يكون الشغيل هو المالك الخاص الحر لشروط عمله الخاصة التي يستخدمها بنفسه، حيث يكون الفلاح مالكاً للأرض التي يزرعها، والحرفي للأدوات التي يستخدمها استخدام القنان الحاذق لأداته.
ويفترض أسلوب الإنتاج هذا، سلفاً، تجزؤ الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى. انه يستبعد تركز وسائل الإنتاج هذه، كما يستبعد التعاون وتقسيم العمل في نطاق عملية الإنتاج الواحدة، وسيطرة المجتمع على الطبيعة وتنظيمها اجتماعياً، والتطور الحر للقوى المنتجة الاجتماعية. انه لا يتلاءم الا مع الحدود البدائية الضيقة للإنتاج والمجتمع. والسعي لتخليده يعني كما يقول بيكور بصواب السعي إلى “تعميم المستوى المتوسط بمرسوم”. ولكنه يولد، عند مرحلة معينة من تطوره، الوسائل المادية لفنائه هو. ومنذ تلك اللحظة، تبدأ تضطرم في أحشاء المجتمع قوى جديدة ومشاعر جديدة تحس أنها مقيدة بأسلوب الإنتاج هذا. ويقتضي الأمر تدميره، فيدمر. ان تدميره، تحويل وسائل الإنتاج الفردية والمبعثرة إلى وسائل إنتاج اجتماعية مركزة اجتماعياً، وبالتالي تحويل الملكية القزمة للكثرة إلى ملكية عملاقة للقلة، وانتزاع الأرض ووسائل المعيشة وأدوات العمل من الجماهير الشعبية الواسعة، ان هذا الانتزاع المرعب، المؤلم، لملكية الجماهير الشعبية يؤلف المقدمة في تاريخ رأس المال. وينطوي هذا التاريخ على طائفة من الطرائق القسرية، التي لم نعرض منها سوى الطرائق الصانعة لحقبات كاملة، مثل طرائق التراكم الأولى لرأس المال. ان انتزاع ملكية المنتجين المباشرين قد تم بأكثر الأشكال الوحشية قسوة، وبدافع أحط الأهواء وأكثرها مقتاً ودناءة وسُعاراً. ان الملكية الخاصة المكتسبة بعمل مالكها، أي المرتكزة، ان جاز القول، على اندماج الشغيل الفردي المستقل، بأدوات ووسائل عمله، تُزاح من قبل الملكية الخاصة الرأسمالية، التي تقوم على استغلال قوة عمل الغير، الحرة شكلياً(20).
وما ان تكون عملية التحول هذه قد فسخت المجتمع القديم، بدرجة كافية، من حيث السعة والعمق، وما ان يتحول الشغيلة إلى بروليتاريين، ووسائل عملهم إلى رأسمال، وما ان يقف الأسلوب الرأسمالي للإنتاج على قدميه هو، حتى نجد شكلاً جديداً لمواصلة إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل ومواصلة تحويل الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى إلى وسائل إنتاج مُستمرة اجتماعياً، أي وسائل إنتاج جماعية، وبالتالي لمواصلة انتزاع ملكية المالكين الخاصين. فذلك الذي ينبغي انتزاع ملكيته الآن لم يعد الشغيل الذي يعمل لأجل نفسه بنفسه، بل الرأسمالي الذي يستغل كثيرين من العمال.
ان انتزاع الملكية هذا يتحقق بفعل القوانين الملازمة للإنتاج الرأسمالي نفسه عن طريق تمركز رؤوس الأموال. فالرأسمالي الواحد يقضي على الكثير من أقرانه. وإلى جانب هذا التمركز، أي انتزاع حفنة من الرأسماليين لملكية الكثيرين منهم، يتطور التطبيق التكنيكي الواعي للعلم، والاستثمار المنهجي للأرض، وتحول وسائل العمل إلى وسائل عمل غير قابلة للاستخدام الا بصورة مشتركة، والتوفير في وسائل الإنتاج كافة باستعمالها كوسائل إنتاج لعمل اجتماعي مركب، وإشراك الشعوب كلها في شبكة السوق العالمية، ويتطور كذلك الطابع العالمي للنظام الرأسمالي. وإلى جانب التناقص المستمر لعدد أساطين رأس المال، الذين يغتصبون ويحتكرون كل مزايا عملية التحول هذه، يتسع نطاق البؤس، والاضطهاد، والاسترقاق، والانحطاط، والاستغلال؛ ولكن ينمو في الوقت نفسه عصيان الطبقة العاملة، الطبقة التي يتزايد عددها باستمرار والتي تتعلم وتتحد وتتنظم بفعل آلية عملية الإنتاج الرأسمالي ذاتها. ان احتكار رأس المال يغدو قيداً لأسلوب الإنتاج الذي نما معه وبه. وان تمركز وسائل الإنتاج وجعل العمل اجتماعياً يبلغان ذلك الحد بحيث يأخذان بالتنافر مع إطارهما الرأسمالي. فينفجر هذا الإطار. وتدق ساعة نهاية الملكية الرأسمالية الخاصة. ويجري انتزاع ملكية منتزعي الملكية.
ان الأسلوب الرأسمالي للتملك الناجم عن الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، وبالتالي الملكية الرأسمالية الخاصة، هما أول نفي للملكية الخاصة الفردية القائمة على عمل الفرد بالذات. ولكن ا لانتاج الرأسمالي يولد، بحتمية قانون طبيعي عملية من عمليات الطبيعة، ما ينفيه هو نفسه. وهذا نفي النفي. انه لا يعيد الملكية الخاصة، بل الملكية الفردية على أساس إنجازات الحقبة الرأسمالية: أي على أساس التعاون والحيازة المشتركة للأرض ولوسائل الإنتاج التي أنتجها العمل نفسه.
ان تحول الملكية الخاصة المبعثرة، القائمة على عمل مالكيها إلى ملكية رأسمالية خاصة، هو بالطبع عملية أبطأ وأطول واصعب واشق، بما لا يقاس، من تحول الملكية الرأسمالية الخاصة، التي ترتكز واقعياً على عملية الإنتاج الاجتماعية، إلى ملكية اجتماعية. ففي الحالة الأولى كان الأمر يتعلق بقيام حفنة من الغاصبين بانتزاع ملكية الجماهير الشعبية، اما في الحالة الثانية فالمقصود قيام الجماهير الشعبية بانتزاع ملكية حفنة من الغاصبين(21).
ترجمة: فالح عبد الجبار وآخرون
(3) نستخدم تعبير “الصناعي” كصفة متميزة بالتضاد عن “الزراعي”. أما بمعناه كمقولة اقتصادية، فان المزارع هو رأسمالي صناعي شأنه شأن صاحب الفابريكة.
(4)”The Natural and Artificial Rights of Property Contrasted” London 1832, P. 98-99
ان مؤلف هذا الكتاب الغفل هو: ت. هودسكين.
(5) حتى في عام 1794، أرسل صغار المعلمين من صانعي الأقمشة الصوفية في ليدز، وفداً إلى البرلمان يحمل التماساً بتشريع قانون يحظر على أي تاجر ان يصبح صناعياً.
(6) الهند الشرقية: إندونيسيا.
(7) اليعاقبة: أعضاء أكبر جمعية سياسية ثورية حكمت أثناء الثورة الفرنسية. من أشهر زعمائهم وأكثرهم نفوذا كان روبسبير.
(8) William Howitt. “Colonization and Christianity. A Popular History of the Treatment of the Natives by the Europeans in all their Colonies”. London, 1838, p.9
وبشأن معاملة العبيد، ثمة معطيات وفيرة في مؤلف
Charles Comte.”Traite de Legislation”, Brussels, 1837.
وينبغي ان يدرس المرء هذا البحث دراسة تفصيلية ليرى إلام يحول البرجوازي نفسه وإلام يحول عماله، حيثما يستطيع بلا حرج، ان يحول العالم على صورته.
(9)Thomas Stamford Raffles late Lieute. Gov. of that island. “The History of Java” London, 1817.
(10) في عام 1866 قضى اكثر من مليون هندي نحبه جوعاً في مقاطعة اوريسا وحدها. ومع ذلك، كانت كل الجهود تبذل لإغناء خزينة الحكومة في الهند برفع أسعار بيع وسائل المعيشة إلى الشعب المتضور جوعاً.
(11) يشير وليم كوبيت إلى ان جميع المؤسسات العمومية في إنكلترا ويسمها بالمؤسسات “الملكية”، أما دين الحكومة فيسميه على سبيل التعويض الدين “الوطني” (National debt).
(12) “لو اجتاح التتر أوروبا اليوم، فسيتطلب الأمر كبير عناء، كي نفهمهم ما هو دور الرجل المالي عندنا” (Montesquieu. “Esprit des Lois”, ed. Londres, 1769, t. IV, p. 33).
(13) Mirabeau، المرجع المذكور، المجلد 6، ص 101.
(14) Eden، The State of the Poor ، الكتاب الثاني، الفصل الأول، ص 421.
(15) John Fielden، لعنة نظام الفبارك، ص 5 و 6. وبصدد البشاعات المقترفة في بداية عهد الفبارك، راجع Dr. Aikin، وكذلك Gisborne “Inquiry into the Duties of Men”, 1795, v. II.- عندما نقلت الآلة البخارية الفبارك من مساقط المياه الريفية النائية إلى المدن، وجد الرأسمال المولع “بالتقشف”، ان اليد العاملة الطفولية جاهزة في متناول يده، وان لا حاجة له إلى جلب عبيد من مأوى العمل عنوة. وحين عرض السير روبرت بيل (والد “وزير الأدب”) على البرلمان مسودة قانون لحماية الأطفال، عام 1815، أعلن فرنسيس هورنر (النجم المنير في “لجنة السبائك” وصديق ريكاردو الحميم) في مجلس العموم قائلا: “يعرف الجميع انه جرى مؤخراً عرض زمرة، ان جاز استخدام هذه الكلمة، من هؤلاء الأطفال للبيع سوية مع الممتلكات المنقولة لأحد المفلسين، وبيعت بالمزاد العلني كجزء من ممتلكاته. وقبل عامين (في 1813) أحيلت قضية بالغة الشناعة إلى “محكمة المقعد الملكي”، تدور عن عدد من هؤلاء الأولاد، الذين أعطتهم إحدى الابرشيات للعمل كمتمرنين عند صناعي من لندن، تنازل عن الأولاد لصناعي آخر، ثم وجدهم بعض الأخيار على شفا الموت جوعاً (absolute famine). واطلع على قضية افظع من هذه عندما كان يعمل في لجنة تحقيق برلمانية… فقبل سنوات قلائل، أبرمت أبرشية من أبرشيات لندن اتفاقاً مع صناعي من لانكشاير تعهد فيها بأخذ طفل معتوه مع كل عشرين طفلاً سليماً”.
(16) في عام 1790، كان هناك عشرة عبيد أرقاء، مقابل رجل حر واحد في الهند الغربية الإنكليزية، و14 عبداً رقيقاً مقابل حر واحد في الهند الغربية الفرنسية، و23 مقابل واحد في الهند الغربية الهولندية
(Henry Brougham. “An Inquiry into the Colonial Policy of the European Powers” Edinburgh, 1803, v. II. p. 74).
(17) نجد ان عبارة “Labouring poor” (“الفقراء العاملون”) ترد في القوانين الإنكليزية منذ ان اكتسبت طبقة العمال المأجورين مقاييس تلفت الانتباه. ويستخدم هذا التعبير تمييزاً له عن “idle poor” (“الفقراء المتعطلين”) والشحاذين ومن إليهم، ومن جهة، وتمييزاً له عن الطير الذي لم ينتف ريشه بعد، أي الشغيلة، الذين لا يزالون مالكين بعد، لوسائل العمل الخاصة بهم، من جهة أخرى. وانتقل تعبير “labouring poor” من دفاتر القانون إلى الاقتصاد السياسي، وقد أورثه كولبيير، وج. تشايلد، الخ.، إلى آدم سميث وايدن. بعد هذا يمكن للمرء ان يحكم لي bonne foi (حسن نية) ادموند بورك هذا “execrable political cantmonger”(“المنافق السياسي البغيض”)، الذي وصف تعبير “labouring poor” بأنه “execrable political cant” (“نفاق سياسي يغيض”). ان هذا المتملق الذليل، الذي قام بدور الرومانتيكي المناهض للثورة الفرنسية، لحساب الطغمة المالية الإنكليزية التي كانت تدفع له، مثلما قام بدور الليبرالي المناهض للطغمة الإنكليزية، لحساب المستعمرات الأمريكية الشمالية التي كانت تدفع له، أيام بدء الاضطرابات في أمريكا. اما في الواقع فقد كان برجوازياً مبتذلا تماماً. “ان قوانين التجارة هي قوانين الطبيعة وبالتالي فهي قوانين الرب.
(E. Bruke. “Thoughts and Details on Scarcity”, ed. London, 1800, p. 31, 32).
لا عجب اذن، وهو الوفي لقوانين الرب والطبيعة، ان يبيع نفسه دوماً في افضل الاسواق! ومن الممكن ان نجد صورة جيدة عن الادموند بورك هذا، ايام عهده الليبرالي، في كتابات تاكر. لقد كان تاكر كاهناً وعضواً في حزب المحافظين (التوري)، وفيما عدا ذلك كان رجلا جديراً بالاحترام، واقتصادياً بارعاً. وازاء اللامبدئية الشائنة التي تسود في زمننا هذا، وتؤمن ايماناً مبجلا بــ “قوانين التجارة”، فان واجبنا الملزم يقضي بان نسم بميسم العار، دون كلل، جميع الذين من طراز بورك، الذين لا يتميزون عن اخلافهم بشيء عدا الموهبة!
(18) Marie Augier. “Du Credit Public”.
(19) تقول مجلة “Quarterly Reviewer”، “ان رأس المال يتحاشى الضجة والمنازعات، فهو يتسم بالوجل، وهذا القول صحيح لكنه لا يعرض الحقيقة كلها. ان رأس المال يرعبه انعدام الربح، أو الربح الضئيل جداً مثلما قالوا فيما مضى ان الطبيعة تمقت الفراغ. وان ربحاً مناسباً يجعل رأس المال جريئاً، و10 في المئة تدفعه لأن يعمل في أي مجال، و20 في المئة تزيد اندفاعه وتوقه، و50 في المئة تجعله طائشاً متهوراً، و100 في المئة تجعله يدوس بالاقدام كل القوانين البشرية، وعند 300 في المئة لن يتورع عن ارتكاب أية جريمة، أو خوض أية مخاطرة، حتى لو عرضت مالكه إلى حبل المشنقة. واذا كانت الضجة والمنازعات تأتيه بالربح، راح يشجعها جميعاً بطيب خاطر. وقد قدم التهريب وتجارة العبيد البرهان على كل ما نقول هنا” T. J. Dunning، المرجع المذكور، ص 35و36).
(20) “لقد بلغنا وضعاً جديداً تماماً بالنسبة إلى المجتمع… فنحن نسعى إلى فصل كل نوع من الملكية عن كل نوع من العمل”
Sismondi. “Nouveaux Principes de IEconomie Politique”. t.II (Paris, 1827), p. 434
(21) “ان رقي الصناعة الذي ليست البرجوازية الا خادماً منفعلا له ومقسوراً على خدمته يستعيض عن انعزال العمال الناتج عن تزاحمهم، باتحاد ثوري بواسطة الجمعيات. وهكذا ينتزع تقدم الصناعة الكبرى من تحت اقدام البرجوازية نفس الاسس التي شادت عليها نظام انتاجها وتملكها. ان البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفاري قبرها، فسقوطها وانتصار البروليتاريا كلاهما امر محتوم لا مناص منه… وليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن امام البرجوازية وجهاً لوجه الا طبقة واحدة ثورية حقاً، هي البروليتاريا. فان جميع الطبقات الاخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، اما البروليتاريا فهي، على العكس من ذلك، اخص منتجات هذه الصناعة. ان الفئات المتوسطة، من صغار الصناعيين والباعة بالمفرق والحرفيين والفلاحين، تحارب البرجوازية من اجل الحفاظ على وجودها بوصفها فئات متوسطة. فهي ليست اذن ثورية، بل محافظة، واكثر من محافظة ايضاً، انها رجعية، فهي تطلب ان يرجع التاريخ القهقرى ويسير دولاب التطور إلى الوراء” (كارل ماركس وفريدريك انجلز. “بيان الحزب الشيوعي”، لندن، 1848).
ترجمة: الياس شاهين