«شموع» دمشقية لا منسية
أحاول أن أنسى هذه الحكاية ولا أفلح. إنها حكاية سيدة مصرية صبغت شعرها باللون الأحمر (وهو ما تفعله كثير من النساء، وأنا شخصياً لا أميل إلى ذلك) لكنني دهشت حين علمت أن الأستاذ مرتضى منصور رئيس «نادي الزمالك» المصري، أصدر قراراً بمنعها من الدخول إلى مقر النادي وحرمانها من العضوية بسبب شعرها الأحمر! حتى هنا والأمر يكاد يكون قانونياً: رئيس أحد النوادي لا يريد في ناديه نساء بشعر مصبوغ بالأحمر، أما ما لا يطاق فهو طلبه من زوج السيدة التي صبغت شعرها بالأحمر تطليقها! وهذا اعتداء على حياتها الخاصة (تنمر) وعنصرية وتدخل في الحياة الزوجية للسيدة ذات الشعر الأحمر! ثم ماذا لو كان زوجها أحب شعرها الأحمر؟ وأعترف أنني شعرت بالدهشة أمام هذه الحكاية، أنا التي لم يعد يدهشها شيء. في أي كوكب نعيش؟ وإذا افترضنا أن الشعر الأحمر ليس جميلاً، ما الذي تفعله نساء ولدن بشعر أحمر؟
رئيس النادي أساء استعمال سلطته على ما أظن، وبالذات حين طلب من زوج ذات الشعر الأحمر تطليقها! هذا جوهر الديكتاتورية، وأحمد الله لأن الأستاذ مرتضى منصور هو رئيس نادي الزمالك وليس رئيساً للجمهورية في بلد بائس ما!
قتل الأطفال لقهر الزوجة!
تتزايد حكايات قتل الأطفال في الأسرة كيداً للزوجة، وغالباً ما يقتل المجرم أسرته كلها ثم ينتحر! أما أن يتبنى رجل طفلة ثم يقتلها بعد أسبوعين من تبنيه لها فخبر مروع لم أستطع نسيانه رغم مرور الأعوام! كان عمر المسكينة سنة ونصف وكالأطفال كلهم تبكي وتصرخ أحياناً، واعتقد الرجل أنها مسكونة بالشيطان!! وهو متزوج لا من امرأة بل من رجل (وهو مباح في فرنسا وإنكلترا ودول أخرى) وقَتَل الطفلة المسكينة ضرباً! وقد أصيبت قبل ذلك بكسور عديدة وزعم والدها بالتبني أنها سقطت على السلم وأعذار كهذه. أما شريك عمره (زوجه!) فلم يتدخل في الحكاية. وأظهر التشريح أن الطفلة ماتت بكسور في الجمجمة والضلوع! وهذه الحكاية تعيد السؤال: هل يحق لرجلين (متزوجين) تبني طفلة/أو طفل أم أن الحضور النسائي ضروري في الأسرة، وإلا لما حدث ذلك، وحنان المرأة يحمي غالباً الأطفال حتى الذين يتم تبنيهم! ولم تلدهم أمهاتهم بالتبني..
الأفلام الضاحكة لا الطبية
منذ (تشريف) وباء (كورونا) إلى كوكبنا، صار الناس (في فرنسا على الأقل) يميلون إلى مشاهدة أفلام تروج عنهم ولا تدور أحداثها في المستشفيات. وهكذا حظي فيلم «لاغراند فادرويه» بنسبة كبيرة من المشاهدين لأنه (رغم قدمه) لا يدور في المستشفيات، بل وينجح في تسلية المشاهد كما يفعل دائماً النجم خفيف الظل لوي دو فينيس. ولكن التلفزيون الفرنسي يعرض هذه الأيام العديد من المسلسلات التي تدور في المستشفيات (التي يحب المشاهد نسيانها في زمن الوباء)، ومنها مسلسل «تشريح غراي»!
أفهم جيداً أن المخرجين يربحون من المسلسلات التي تدور في المستشفيات وأبطالها أطباء وممرضات، فذلك أولاً يوفر نفقات الثياب، فالكل تقريباً يرتدي الثوب الأبيض الطبي كما الممرضات، ويوفر أيضاً في نفقات (الديكور) حيث تدور الأحداث غالباً في غرفة مستشفى أو ممراته وممرضات لا تبدل أي منهن ثيابها.
نريد أن نبتسم!
ما لا يخطر ببال المخرج والمنتج لهذه المسلسلات أن الناس اليوم يفضلون مشاهدة أفلام قديمة مبهجة وضاحكة على تلك المسلسلات (الطبية) لينسون قليلاً أمام التلفزيون الوباء الذي يجتاح العالم، ويحتاجون إلى ما يلهيهم لكن بإبداع.. مثل سلسلة أفلام لوي دو فينيس (الشرطي) في مدينة سان تروبيه الساحلية عاصمة اصطياف الأثرياء العالميين، حيث يفترض أنه يعمل تحت امرة النجم (ميشيل غالابرو) كشرطي. أو أي أفلام تروج عن النفس وتعيدنا إلى دنيا أخرى من الضحك.. خارج دهاليز المستشفيات وخارج حروب أوكرانيا والموت الحقيقي لا السينمائي، مثل الموت بكورونا. وآمل أن تتنبه التلفزيونات العالمية كلها إلى لقاح البشر المذكور المذعور من إمكانية مرضه بوباء (كوفيد) ويريد أن ينسى ويضحك ويرى أي مسلسلات لا تدور في المستشفيات مثل (تشريح غراي!) الذي تبثه الآن إحدى قنوات التلفزيون الفرنسي!
الشموع ودمشق!
أيام كنت أعيش في مسقط قلبي ورأسي دمشق، كان ثمة مطعم يدعى (كاندلز)، أي «شموع»، بالقرب من طريق الصالحية ومبنى البرلمان. وكنت أحبه. الشموع على الموائد تغني عن الكهرباء وتخلق جواً رومانسياً، وكان عمري 18 سنة. ومرت الأيام وصرت في بيروت متزوجة من لبناني، وابني الطفل لبناني. وكنت ما أزال أحب المطاعم التي تكتفي بالشموع كضوء رومانسي، ثم جاءت الحرب الأهلية اللبنانية وانقطع التيار الكهربائي عن بيروت بعض الوقت، واضطررنا للجوء إلى الشموع، وصرت أكرهها إذ صارت رمزاً للظلام والعتمة، ثم إنها ليست عملية إذ يمكن أن تسبب حريقاً إذا سقطت على حاملتها.
الشموع وبيروت
وحين يسود الظلام في الحرب الأهلية اللبنانية بسبب انقطاع الكهرباء، كنت أتسامر وزوجي على ضوء شمعة على زجاجة نبيذ «ماتيوس» نضعها فوق (جهاز الشوفاج) مقابلنا ونحن نتسامر، ولا نضجر كثيراً ولكننا نضجر قليلاً لعزلنا عن القراءة والكتابة. ثم انتهت الحرب وأعدنا دهان بيتنا مكان السواد بالأبيض كما نفعل دائماً، ومرت الأيام. وفوجئت بأن المكان الذي كنا نضع عليه الزجاجة التي تعتليها شمعة قد بدأت تبدو رمادية وقد تساقط الدهان الأبيض عنها كذكرى عن الحرب الأهلية لا يمكن نسيانها. وقررنا ترك الجدار وآثار نار الشمعة عليه كتذكار حزين أو إنذار ضد التكرار. ولكنني أرى في الأفلام الأمريكية استعمالات رومانسية للشموع. وفي مسلسل (وسيطة ـ ميديوم) شاهدت البارحة مثلاً بطلة المسلسل تستحم في مغطس الماء (البانيو) المحاط بعشرات من الشموع. وهو ديكور أضحى شائعاً في الأفلام الأمريكية، لكنه يثير نفوري.
لسنا وحدنا ننفر من الشموع
كثيرة هي الشعوب التي عانت من انقطاع التيار الكهربائي واضطرت للاعتماد على ضوء الشمعة، وأعترف أنني حين وصلت إلى باريس هرباً من الحرب الأهلية في بيروت اشتريت علبة من الشموع، وأظن أن ذلك ما يفعله اليوم (بعد أعوام طويلة) أبناء حرب أوكرانيا.. والشمعة لم تعد رمزاً رومانسياً، بل باتت أمراً بائساً نصف معتم لأسباب معظمها حربي. أكرر، لم تعد الشموع رمزاً رومانسياً، بل حربي ورمز لانقطاع الكهرباء. لكنني بعد تلك الحروب كلها والأعوام كلها سأظل أتذكر مطعم كاندلز (شموع) الشامي العتيق الذي كان يمنحنا لحظات رومانسية شعرية، ولم أكن يومئذ قد بلغت العشرين من العمر، لكنني أتذكره.
ترى أما زال موجوداً؟
إذا ذهبت إلى دمشق بعد ذلك الفراق الطويل كله، سأذهب في ليلتي الأولى إلى مطعم «كاندلز» وأنا أرجح أنه لم يعد موجوداً!
إنها سلطة الذكريات يا دمشق الحبيبة، ويا لذكريات الأيام الهاربة!