من السرد التاريخي إلى السرد الروزنامي
يُحيل بول ريكور في طرحه لمقترح الحل الشعري على طروحات هوسرل وهيدغر اللذين عندهما يكون التطابق في الجوهر، وتأتي بعد ذلك تنويعات الخيال لتصهر الذكريات فيكون الماضي متجسداً في الحاضر المعيش. وعلى الرغم من افتراضية ريكور أن التأريخ مفصول عن التاريخ وافتراضية هايدن وايت أن التأريخ غير مفصول عن التاريخ، فإن الحل عندهما واحد بوصفه (الشعري) عند ريكور و(المجازي) عند وايت.
إن الحل الشعري الذي به يمكن تطويع زمانية التأريخ لتخييلية السرد ليس نظريا، بل لا بد من اشتغاله الإجرائي على القصص والروايات وفق مقتضيات بها يكون الحل في جملته ممكنا وعمليا. فما هذه المقتضيات؟ وكيف يمكن لعناصر السرد أن تؤدي دورها الوظيفي دون أن تمس فهم الزمان الفيزيقي للتأريخ بأي شرخ؟ وهل يتفق للروائي أن يكتب سردا لا تتعطل فيه تقويمية التأريخ وفي الوقت نفسه لا يتعطل متخيل التاريخ؟
تتوقف المسألة في ذلك على المسافة الخيالية التي يضعها الروائي بين (التأريخ والذاكرة). ووفق هذه المسافة تتحدد وظائفية الأطراف السردية (السارد/ المسرود/ المسرود له/ القارئ الضمني) وقبلهما الروائي وبعدهما القارئ.
فمن ناحية وظائفية السارد ـ ذاتيا أو موضوعيا ـ يُلقى الثقل الأكبر على عاتق المخيلة في تقدير هذه المسافة، فتكون للذات الكاتبة ذات ساردة، تتميز بطابعها الدرامي الذي يجعلها مهيمنة على البناء السردي، وفيه يتمثل سؤال الموثوقية في ما يحكيه من سرد قصصي ذاكراتي. والموثوقية تعني التصديق الذي يأتي عن الوثوق بوقائع التاريخ وهو ما لا يستطيعه الروائي لافتقاره إلى الأدلة المادية التي يصنعها السارد بفعل هيمنته على مسروداته وتشاركيته مع القارئ في فهم سلوك الشخصية، وتحليل مواقفها وتقديرها وتأويلها. هذا إذا كان السارد موضوعيا أما إذا حضر مشاركا في السرد شاهدا أو بطلا ممسرحا مؤديا دورا سلبيا، أو إيجابيا فإن وجهة نظره المصاحبة لا تسمح له صنع أدلته المادية من ذاكرة شخصياته، لكنه ذاكراتيا يكون دليلا ماديا وموضوعة فيه الثقة التي تمكنه من توصيل أفكاره للقارئ دون أن يشك في أدلة ذاكرته المادية، فلا يتصورها إيهاما أو متخيلات تنسب للتأريخ وهي ليست فيه وإنما يتصورها موضوعات وأحداثا مخزونة في الذاكرة والسارد هو الذي يخرجها إلى النور بالسرد. وليس هذا الإخراج سوى عملية روزنامية لأنها قبلا لم تكن مؤرخة ومن ثم هي ليست مستعادة.
وتظل الذاكرة هي الأداة الأساسية في السرد الروزنامي بينما الزمان هو الأداة الطبيعية في السرد التاريخي. وزمانية الذاكرة بوصفها مخزنا غير مؤرشف ليست كزمانية التاريخ بوصفه سجلا مؤرشفا، ومن ثم تكون مساحة الامتياح من الفعل الذاكراتي أغزر وأغنى من مساحة الامتياح من الفعل التاريخي.
وبهذه الأدلة تتقاطع تخييلية صناعة ما أسميه (السرد الروزنامي Calendared Narrative) مع تخييلية صناعة السرد التاريخي وبما يصنع أيضا نوعا جديدا من القراء لا يشكون بسراد موثوق بهم، وبما يتبعونه من استراتيجيات إيهام وباحتمالات مضللة بوصفها وقائع يحايث حصولها هؤلاء السراد فيعرضونها في شكل أدلة مادية أمام القراء، كاسبين ثقتهم متفاعلين معهم في المعاني المتحصلة من وراء قراءة العمل القصصي أو الروائي، وبإعادة مركزة الخيالية تتحول اللاطبيعية في القصة إلى عكسها، فتغدو تاريخا كونيا شاملا بإبعاده كلها. وبما يمنح الأدب الروائي أو القصصي استكشاف الطرق غير الطبيعية كأداة بها تلتحم الحياة، من خلال مستويات تراتبية منطقية ومعقولة. وتختلف طرائق السارد في توظيف الاستحالات كما تتنوع أدلته المادية في تمثيلها بمنطقية تحول المستحيل إلى ممكن. وقد عبّر هايدن وايت عن هذا التحويل التمثيلي للخيال التاريخي ليكون تخييلا واقعيا بمقولة (أن نتصور بأن..) إلى (أن نصدق أن..) ومن ثم تكون التخييلات المرئية والمادية مقبولة. فالتأريخي هو ما كان بالإمكان مسكه ومشاهدته بوجهيه الأمامي والخلفي، وبأبعاده الأفقية والعمودية وبذلك يختلف تمثيل الحل الشعري الريكوري عن تمثيل الحل المجازي الوايتي بوصف الأول ماديا معاينا وبكون الثاني مرئيا متخيلا.
وإذا كانت الحبكة التي يصنعها السارد في السرد التاريخي تحاكي الواقع، فإنها في السرد الروزنامي وهمية تحاكي أنماط الحبك المتداولة في السرد غير الطبيعي. ولا شك في أن الخيالية هي أساس السرد الذي هو أساس التاريخ، وهي موجودة في أقدم المدونات السردية كالأساطير والحكايات والملاحم كما عرف الخيالية أقدم مؤرخ في التاريخ البشري لكن الخيالية ليست أقدم من الذاكرة التي هي أقدم من التاريخ.
وإذ لا يسعى السرد الروزنامي إلى تقريب التاريخ من السرد، ولا إلى فصل التاريخ عن السرد فلأن الخيالية هي الوسيلة السردية المستعملة في التعبير عن الوقائع، سواء تلك التي جرت فعليا، أو التي لم تجر. وسردية هذا التعبير هي التي تجعل تلك الوقائع صالحة للحفظ والأرشفة شفويا أو كتابيا وبغض النظر عن السعة من الناحية الزمانية والرحابة من الناحية المكانية.
وهذا ما يجعل المسرودات التاريخية كثيرة بالقياس إلى المسرودات المؤرخنة، التي رزمت وقائعها زمانيا بكل ما مرت به أو خاضته من تجارب فتكون لها الشرعية في أن توصف أنها تأريخية وتكون وظيفتها متنوعة ما بين التمثيل والاستشهاد والاستعادة والإخبار والبرهنة والتدليل. علما أن استدعاء شخصية تاريخية والبناء عليها من جديد مما نجده في روايات التاريخ هو غيره اختراع شخصية ونسبتها إلى التاريخ، فالأولى طبيعية ومشروعة بصدقية استحضارها من بطون التاريخ بينما الثانية غير طبيعية سوى بالذاكرة المنتجة لها كونها هي التي تمنحها تأريخا يدوّن سرديا ويكون روزناميا. وليس هذا الاختراع من باب التداخل بين التاريخ والسرد لأنه في الأساس مولود من تدوين الذاكرة التي منها يتشكل التأريخ سرديا وليس من تدوين التاريخ للذاكرة والذي منه يتشكل السرد التاريخي.
وإذ يسعى السرد التاريخي إلى محاكاة التاريخ طبيعيا، فإن السرد الروزنامي يسعى إلى محاكاة الذاكرة لا طبيعيا. فتكون محصلة المحاكاة الأولى واقعية توضع في خانة السرد بينما توضع محصلة الثانية في خانة زمن التقاويم التي تحددها توقيتات التسجيل والتسلسل المستقيم والتوالي غير المتقطع في شكل حلقات، أو دوائر تتكرر بشكل دوري قصير مثل ساعات ويوم وأسبوع وشهر وفصل، أو يكون بشكل دوري طويل مثل سنة وعقد وقرن وألفية. وهو ما يتجسد واضحاً في عبور القصة القصيرة أو الرواية أجناسياً على المذكرات والسير الذاتية، ليس على مستوى المتون حسب، وأنما العنوانات أيضا. وما دام السرد التاريخي يشبه التاريخ فإن السرد الروزنامي يشبه التأريخ. ومن تبعات هذه التشابهية أن القارئ يشارك المؤلف اختراعه الروزنامي مثلما أن المؤلف يشارك المؤرخ عمله لا في التدوين أي تحويل الشفاهي إلى كتابي وإنما في وضع التقاويم وجمع الوثائق وحفظ المدونات وهو عمل زماني متحفي ذاكراتي.
ولهذا أشاد هيغل برجالات التاريخ أو أبطال العصور لأنهم (يعدون حكماء عصرهم ولا بد من النظر إلى أعمالهم وإلى كلماتهم على أنها خير ما عمل، وأفضل ما قيل في العصر.. إذ لا بد أن يكونوا هم الذين فهموا الأمور على نحو أفضل ولا بد من أن يكونوا هم الذين يتعلم منهم الآخرون).
وتظل الذاكرة هي الأداة الأساسية في السرد الروزنامي بينما الزمان هو الأداة الطبيعية في السرد التاريخي. وزمانية الذاكرة بوصفها مخزنا غير مؤرشف ليست كزمانية التاريخ بوصفه سجلا مؤرشفا، ومن ثم تكون مساحة الامتياح من الفعل الذاكراتي أغزر وأغنى من مساحة الامتياح من الفعل التاريخي. وهو ما يجعل الذاكرة فاعلا زمانيا من فواعل البناء القصصي القصير، ينبغي الاهتمام بها اهتماما خاصا لأنها هي التي تتيح للمحصلات في هذا المجال أن تكون مهمة وفريدة أيضا.