هل للانتخابات في لبنان أهمية؟
حُدّد موعد الانتخابات النيابية في لبنان في تاريخ ١٥ أيار ٢٠٢٢ للمرة الأولى منذ أن دفعت الاحتجاجات في جميع المناطق اللبنانية الحكومة إلى الاستقالة في شهر تشرين الأول ٢٠١٩. وسينتخب المقترعون ١٢٨ نائباً عن ١٥ دائرة متعددة الأعضاء. وسيشكل أعضاء مجلس النواب حكومة جديدة ومن المرجح أن ينتخبوا رئيسًا جديدًا للجمهوريّة عند انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في شهر تشرين الأول من السنة الجارية.
وفي الانتخابات النيابية السابقة التي انعقدت في العام ٢٠٠٩ والعام ٢٠١٨، فازت مجموعة صغيرة من الأحزاب المنتهية ولايتها بكل المقاعد تقريبًا رغم أدائها الرديء في الحكم الذي ولّد شعور عام بالاستياء وأدّى إلى تظاهرات احتجاجية. هل تشير التناقضات بين نتائج الانتخابات ونسبة المشاركة في التظاهرات وغيرها من صور التعبير السياسي إلى عدم وجود أي أهمية لسياسة الانتخابات؟ في لبنان، تترتب عن هذا السؤال آثار على المعارضة السياسية الناشئة وعلى المواطنين العاديين، إذ عليهم أن يختاروا ما إذا كانت المشاركة في الانتخابات مجدية في خضم تزايد الهشاشة الاجتماعية الاقتصادية.
وبالرّغم من الطابع الحر الذي تتسم به الانتخابات في لبنان، تتكاثر الحواجز أمام فوز مرشحي المعارضة بشكل هائل. ولا يكمن السبب في كيفية ازدراء أحزاب السلطة للمؤسسات الرسمية وحسب (من خلال شراء الأصوات وتخويف المقترعين على سبيل المثال)، إنما أيضًا في كيفية عملها ضمن هذه المؤسسات (من خلال سطوتها على موارد الدولة على سبيل المثال). وفي حين أن الاستراتيجيات الأولى تضر بنزاهة الانتخابات بشكل واضح، فإن الثانية تحمل تداعيات أكبر طالما أنها تسمح لتلك الأحزاب بتعزيز سلطتها من خلال المؤسسات الديمقراطية وليس بالرغم من وجودها. وبمعنى آخر، أصبح لبنان، جرّاء ممارسات أحزاب السلطة التي تشبه ممارسات الكارتلات في احتكار موارد الدولة، دولةً ديمقراطية إجرائية على الورق، إلا أنه في واقع الأمر دولة اوتوقراطية في الممارسة.
في ضوء ما ذكر، هل تستطيع حركات المعارضة أن تتحدى كارتل أحزاب السلطة في صناديق الاقتراع؟ لقد هُزمت أنظمة حزبية مماثلة في بلاد مختلفة، وقد اتسمت هذه الحالات بعوامل أساسية. فقد هُزمت الكارتلات الحزبية تاريخياً على مدى دورات انتخابية متعددة ومتزامنة مع إصلاحات مؤسساتية، ومن خلال الأحزاب الشديدة التنظيم والمقرّبة من الحركات العمالية. مع غياب هذه العوامل بشكل واضح في لبنان إن المعارضة الانتخابية ستخوض معركة شاقة للفوز بالانتخابات.
هل الانتخابات في لبنان “حرة وعادلة”؟
يعقد عدد وافر من الأنظمة الاوتوقراطية انتخابات منتظمة، ولكنّها بشكل عام مليئة بالانتهاكات الواسعة للمؤسسات الانتخابية، بما فيها تخويف المنتخبين، وقمع الحملات الانتخابية أو الاقتراع، والتلاعب بالأصوات. إن النخبة اللبنانية الحاكمة تشرع في بعض هذه الممارسات: وعلى سبيل المثال، تقوم بعض أحزاب السلطة بالتنمر على مرشّحي المعارضة والمصوتين لها على حد سواء، وبتخويفهم1. وفضلًا عن ذلك، تنتشر التقارير حول شراء الأصوات غير الشرعي من قبل تلك الأحزاب: وتشير الأدلة إلى أن أكثر من نصف المواطنين اللبنانيين البالغين سن الاقتراع قد حصلوا على شكل من أشكال الدفع المادي مقابل صوتهم2.
ومن جهة أخرى، إن الغش الانتخابي لم يُثبَت في الانتخابات الأخيرة كما لم يُزعم بحصوله على نطاق واسع. وقد وجد علماء الاجتماع أدلة متباينة حول إلى أثر شراء الأصوات على آراء المقترعين3. إضافةً إلى ذلك، ومقارنةً بالوضع في لبنان، يشهد عددٌ من الديمقراطيات الانتخابية حيث تنتشر ممارسة شراء الأصوات مستويات دوران للسلطة أعلى وعدم استقرار في نظام الأحزاب. وبالتالي، لا توفر هذه المداخلات غير القانونية تبريرًا مثاليًا للأفضلية الاستثنائية التي تتمتع بها أحزاب السلطة في لبنان.
ويمكن القول إن الانتهاكات التي تطال المؤسسات الانتخابية في لبنان تبقى أقل تأثيرًا على نتائج الانتخابات من ممارسات النخبة التي تحصل في الداخل والتي تسهلها هذه المؤسسات. ولا تشرع أحزاب السلطة في لبنان في شراء الأصوات وحسب، إنما تقوم أيضًا وعلى نطاق أكثر شمولية باحتكار موارد الدولة بغية الحفاظ على السلطة الانتخابية. وتتضمن هذه الموارد التمويل المخصص لتوفير الرفاه الاجتماعي والبنى التحتية الأساسية والتوظيف في القطاع العام4. وعندما شاركت كافة أحزاب السلطة في حكومات “الوحدة الوطنية” أو “الكارتلات الحزبية” المتعاقبة بهدف المشاركة في السيطرة على هذه الموارد وتوزيعها بناءً على الوفاء الانتخابي، اتكلت في الوقت عينه على هذه المؤسسات، المصمَمة أساسًا لتسهيل المساءلة الديمقراطية من أجل طمس هذه المساءلة بشكل فعلي
كيف تحكم الأنظمة القائمة على الكارتلات الحزبية وكيف تسقط
ونظرًا لأن الكارتلات الحزبية تمارس الحكم بشكل رديء عمدًا، فهي على الأرجح تزرع بذور دمارها. وفي الحالات الآنف ذكرها، تفقد الكارتلات الحزبية مع الوقت كمًا هائلًا من شعبيتها الانتخابية، وتؤدي عوامل ثلاث إلى سقوطها. أولًا، هُزمت هذه الكارتلات تدريجيًا على مدى دورات انتخابية متعاقبة، بالتزامن مع التظاهرات والضغط الذي يمارسه المجتمع المدني. ففي بوليفيا، خسرت كارتلات السلطة تدريجيًا في الانتخابات التي انعقدت في العام ١٩٩٧ والعام ٢٠٠٢ والعام ٢٠٠٥، والتي تُوّجت باستقالة رئيس الجمهورية في العام ٢٠٠٥ وبانتخاب ايفو مورالس بعد بضعة أشهر6 . وعلى النحو ذاته، فقدت الكارتلات الحزبية في كولومبيا شعبيتها تدريجيًا في الانتخابات التي انعقدت في تسعينيات القرن الماضي، وفي اندونيسيا في مطلع الألفية7 . وتشير هذه الحالات إلى أن المعارضة الانتخابية في لبنان، التي شاركت في الانتخابات النيابية للمرة الأولى في العام ٢٠١٨، قد تحتاج إلى دورات متعددة كي تكتسب زخمها.
ثانيًا، غالبًا ما نجحت المعارضة الانتخابية ضد الكارتلات الحزبية بعد إنفاذ حزمة إصلاحات وعلى رأسها اللامركزية. ففي بوليفيا وكولومبيا وفينزويلا، واجهت الكارتلات الحزبية الضغط الشعبي لمأسسة اللامركزية وأعطت الاستقلالية للحكومات المحلية على حساب الدولة المركزية التي تسيطر عليها الكارتلات 8 . إضافةً إلى ذلك، في الحالتين الاندونيسية والبوليفية، فقدت الكارتلات الحزبية سلطتها بعد فترة وجيزة من الإصلاحات التي ضمنت الانتخاب المباشر للرئيس (في اندونيسيا) وبعض الممثلين في الكونغرس (في بوليفيا)9 . وسويًا، أطلقت هذه الإصلاحات، التي أسستها الكارتلات بذاتها، حوادث غير مقصودة تكللت بهزيمتها. ورغم إشارة عدد من الخبراء إلى أنّ كل من النظام الانتخابي وهيكلية الحكم الذي يضفي عليه الطابع المركزي بكثافة يفيد الأحزاب الحاكمة، باءت الجهود الإصلاحية بالفشل الذريع10.
ثالثًا، نجحت أحزاب المعارضة القوية ذات الدعم الشعبي والمقرّبة من الحركات العمالية في تحدي الكارتلات الحزبية بشكل فعال. وفي اندونيسيا، وبصورة مثيرة للاهتمام، لم تتوفر هذه العوامل – وإذ تراجعت شعبية الكارتلات الحزبية، لم تبرز أطراف بديلة لتستبدلها في المواقع الحكومية الأساسية وظلّت أحزاب المعارضة منقسمة11 . وفي المقابل، في بوليفيا، استخدمت الحركة نحو الاشتراكية التي قادها ايفو مورالس الخطاب الشعبوي من أجل توحيد المجموعات المتضررة التي تنتمي إلى مجموعات إقليمية وإثنية متباينة. وفضلًا عن ذلك، لعبت حركة العمال البوليفية دورًا أساسيًا في التعبئة ضد الكارتلات بعدما انخرطت الأحزاب اليسارية التقليدية في الكارتلات الحزبية ونُزعت، تباعًا، شرعيتها عنها 12. وفي هذا السياق، يشبه لبنان النموذج الاندونيسي في هذه النقطة: فالأحزاب المعارضة 13الجديدة منقسمة وتفتقد الطابع المؤسسي، بينما تستمرّ الكارتلات الحزبية في السيطرة بشكلٍ كبير على الحركات العمالية
في الفترة المؤدية إلى انتخابات شهر أيار ٢٠٢٢، ازدادت المعارضة الانتخابية في لبنان تعقيدًا على المستوى التنظيمي وازداد تطوّرها أكثر من أي وقت مضى منذ انتهاء الحرب الأهلية. وقد أشعلت مجموعات جديدة منافسة انتخابية لا سابق لها في العديد من الدوائر الانتخابية، ما أنتج انقسامًا في الخطاب السياسي بين “النظام” الحاكم من جهة، “ومعارضيه” من جهة أخرى – بما فيه التنازع حول معنى وحدود هذين التصنيفين. ورغم ذلك، تبقى الحواجز الانتخابية التي تواجهها مجموعات المعارضة مرتفعة جدًا. وتشير المقاربة المقارنة إلى إمكانية هزم هذه التحالفات في صناديق الاقتراع إلا أن ظروف الاعتيادية لتحقيق هذا الهدف غير ناضجة حتى الآن في السياق اللبناني.
1 للاطلاع على الانتهاكات الانتخابية السابقة، مراجعة التقرير الصادر عن الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات بعنوان “بعثة مراقبة الانتخابات النيابية للعام ٢٠١٨” (٢٠١٨)
2 كورستانج، دانييل. “تجارة الأصوات في لبنان” انترناشيونال جورنال اف مدل ايست ستاديز، المجلد ٤٤ رقم ٣ (٢٠١٢)
3 هيكن، الن، ونواه ل. نايثان. “خدع الزبائنية: الطرق المسدودة والتوجهات الجديدة في دراسة السياسة غير القائمة على البرامج” المراجعة السنوية للعلوم السياسية ٢٣ (٢٠١٩):٢٧٧-٩٤
لييندرز، رينود، غنائم الهدنة: الفساد وبناء الدولة في لبنان بعد الحرب. ايثاكا، نيو يورك: مطبوعات جامعة كورنيل، ٢٠١٢، سلوخ باسل ف. “الطائف والدولة اللبنانية: الاقتصاد السياسي لقطاع عام شديد الطائفية.” القومية والسياسة الاثنية ٢٥، رقم ١ (٢ كانون الثاني ٢٠١٩): ٤٣-4٦٠.
5 سلايتر، دان، وايريكا سيمونز “التكيف عبر التكافل: عدم اليقين السياسي وتشارك السلطة االفادح في اندونيسيا وبوليفيا” دراسات سياسية مقارنة ٤٦ رقم ١١ (٢٠١٢):١٣٦٦-٩٣
7 مورغان، جانا. التمثيل المفلس وسقوط الأنظمة الحزبية. مطبوعات جامعة ولاية بنسيلفانيا، ٢٠١١.
8 المرجع نفسه.
9 سلايتر وسيمونز (٢٠١٢).
للاطلاع على مركزية الدولة في لبنان، مراجعة حرب، منى، وسامي عطا الله. “لبنان: لامركزية مقسمة وغير مكتملة”. في الحكومات المحلية والمنافع العامة: تقييم اللامركزية في العالم العربي. بيروت: مركز الدراسات السياسية 10٢٠١٥.
11 سلايتر، دان. “العصابات الحزبية، النموذج الاندونيسي: مشاركة السلطة الرئاسية وضرورة العارضة الديمقراطية” مجلة الدراسات في شرق آسيا ١٨ رقم ١ (٢٠١٨): ٢٣-٤٦.
12 سلايتر وسيمونز (٢٠١٢). بعد صعود مورالس إلى السلطة، ازدادت النزاعات في العلاقة بين حكومته والحركة العمالية.
للاطلاع على الحركات المعارضة ومواقفها السياسية المتباينة، مراجعة الكك، نديم، وسامي عطا الله “البدائل السياسية في لبنان” المبادرة السياسية (٢٠٢٢). للاطلاع على غياب الحركة العمالية في 13 التحركات الحديثة المناهضة للعصابات”، مراجعة بو خاطر، ليا. “هل تحدثتم عن العمال؟” المصدر العام – ذو بابليك سورس (٢٠٢٠).