دلالات العداء لليبرالية التنويرية والترويج للنيوليرالية الرجعية
علاء اللامي*
ثمة خلط كبير ومضر يرتكبه البعض – عن عمد أحيانا بقصد التضليل أو عن غير قصد أحيانا أخرى – بين مصطلح الليبرالية (Liberalism) التي تترجم أحيانا إلى عبارة “مذهب الحرية”، ومصطلح الليبرالية الجديدة (New Liberalism)، ومصطلح ثالث هو (Neoliberalism) والتي تستخدم غالبا بلفظها الإنكليزي النيوليبراليزم. سأحاول توضيح الفروق بين هذه المصطلحات مستعينا بما كتبه الصديق الباحث فؤاد قاسم الأمير في كتابه المهم (رأسمالية الليبرالية الجديدة “النيوليبراليزم”) والذي كنت قد نشرت عرضا سريعا له مع رابط تحميله قبل أشهر قليلة / الرابط 1.
ولنبدأ بـ (New Liberalism)؛ والتي تترجم “الليبرالية الجديدة” وتسمى نادرا “الليبرالية الاجتماعية” (social liberalism) التي تهدف كما يقول دعاتها “إلى التوفيق بين حقوق الفرد والجماعة، وتسمح للدولة بالتدخل، ووضع معايير أكثر إيجابية للتحقق من وجود فرص متساوية للأفراد لنيل الحرية والنجاح”. برزت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ونادى بها ونظَّر لها بعض الليبراليين الجدد ومنهم توماس هيل جرين وليونارد ترَلَوني هوبهاوس وجون هوبسون، الذين قالوا ما معناه إن “الليبرالية والحرية الشخصية شيء لا يمكن للفرد تحقيقه الا في ظروف اجتماعية واقتصادية ملائمة”. ولأن هذا المصطلح وبهذا المعنى الاجتماعي نادر الاستعمال في أيامنا بل وأشبه بالمهجور حاليا بعد فشل وتلاشي غالبية أحزاب الأممية الثانية الممثلة له، فسوف أهمله وأركز على التفريق الأساسي بين الليبرالية والنيوليبراليزم، التي يسمها الأمير “رأسمالية الليبرالية الجديدة النيوليبراليزم”. وفي التفاصيل نقول:
يقول التعريف الشائع لليبرالية باستعمالها القديم “مذهب الحرية” إنها “فلسفة سياسية واقتصادية واجتماعية تأسست على مبادئ وأفكار الحرية والمساواة الطالعة من عصر التنوير الأوروبي. وتشدد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية كمبدأ أول، في حين أن المبدأ الثاني وهو المساواة، يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية التي أهملت لاحقا من قبل الأنظمة البرجوازية الصاعدة التي اكتفت بحرية الأسواق.
تأريخيا، برزت الليبرالية كحركة سياسية خلال عصر التنوير، في القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر. بداية عصر التنوير كانت في الفترة بين وفاة لويس الرابع عشر في فرنسا في عام 1715 واندلاع الثورة الفرنسية -في عام 1789 التي أنهت نظام الحكم الأوتوقراطي القديم، أما نهاية هذا العصر ففي بداية القرن التاسع عشر. وكان لأفكار الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد تأثيرها الكبير والتأسيسي حيث أصبحت أطروحاته العقلانية المناهضة للخرافة والظلامية والاستبداد الأوتوقراطي والثيوقراطي موضوع دراسة وتطوير في الجامعات الأوروبية الأولى في باريس، وبولونيا، وبادوا، وأكسفورد. ومن أشهر الفلاسفة والمفكرين الذين يعتبرون من مؤسسي الليبرالية بنسختها الأوروبية في فترة صعود البرجوازية التقدمية جان جاك روسو وجان لوك وهوبز وديكارت وفولتير …إلخ. وبهذا المعنى والمضمون يمكن تصنيف العديد من الحركات والتيارات السياسية والفلسفية في القرن التاسع عشر والعشرين ضمن “الليبرالية” ويمكن أن تدخل ضمنها شخصيات تأسيسية من الحركة الاشتراكية الماركسية في طور الرواد. وهذا ما يؤكد المؤرخ البولندي إسحق دويتشر حين يقول إن الماركسية في مرحلة الرواد ماركس وإنجلز ولينين وبليخانوف وغيرهم، كان تمت إلى الليبرالية بصلة عضوية مهمة نجد آثارها في تراثهم الفكري والممارساتي قبل أن تستبدل الستالينية هذا الجوهر العقلاني الليبرالي بنسخة همجية من الاستبداد القروسطي.
أما “النيوليبرالية” فهي مجموعة سياسات اقتصادية تدعو إلى منع تدخل الدولة في الاقتصاد وتتبني فكرا أيديولوجيا مبنيا على الليبرالية الاقتصادية الذي يؤيد الرأسمالية المطلقة ويمنع تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع ويعتبر التخطيط الاشتراكي رجعية واستبدادا، وتسعى النيوليبرالية لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص ليكون السوق الفالت من أي شروط أو مبادئ هو صاحب القرار الأول والأخير ولتكون ثروات البلد أي بلد في العالم ملكا لحفنة من المليارديرات واللصوص الدوليين والذين لا يشكلون أكثر من واحد بالمليون من مجموع السكان.
اقترنت النيوليبرالية بما يشبه الزواج الكاثوليكي بسياسات المحافظين الجدد منذ عهد ريغان وتاتشر وكان أول تطبيق عملي للنيوليبرالية الاقتصادية في تشيلي في عهد الحاكم الانقلابي الجنرال بينوشيه (1973 – 1990) بعد أن تم القضاء على الحكم الاشتراكي الذي قاده الرئيس المنتخب سلفادور الليندي والذي قتل خلال ذلك الانقلاب الذي دعمته وخططت له المخابرات المركزية الأميركية، وقد بدأ بينوشيه برنامجه بإلغاء تأميم مناجم النحاس وإعادتها للشركات الخاصة الأميركية. كما طُبقت النيوليبرالية في روسيا يلتسين بعد حل الاتحاد السوفيتي “بنسخة سموها الصدمة الاقتصادية” وانتهت ببيع ثروات وإنجازات روسيا السوفيتية لشلة من المرابين والمليارديرات ومحدثي النعمة وألقت بالشعب الى مجاعة حقيقية لعدة سنوات. وطبقت أيضا في العراق منذ احتلاله سنة 2003 ومازالت مستمرة حتى اليوم وقد طحنت البلد وصناعاته وزراعته طحنا ونهب الحكام الفاسدون ثرواته وعائدات ثرواته بالمليارات بدعم وحماية من دولة الاحتلال.
إن التفريق بين هذه المصطلحات من حيث مضمونها مهم جدا في أيامنا هذه، وبفهمه يمكن لنا تفادي وكشف نزعات العداء اليميني الفاشي لليبرالية بإطلاق القول، أي لليبرالية الحاملة للمعاني والمضامين التقديمة سالفة الذكر، وهو عداء رجعي وظلامي بشكليه القومي العنصري والديني التكفيري المنادي بالحكم المطلق وشروره الأخرى، كما يتجلى اليوم في العداء المعلن الذي يجهر به أمثال المفكر الروسي ألكسندر دوغين المقرب من الرئيس الروسي بوتين، والرئيس الهنغاري فكتور أوربان ومختلف منظري العروش والممالك والجمهوريات الاستبدادية الوراثية والأنظمة الانقلابية العسكرية في العالم العربي وقادة الأحزاب والتيارات القومية واليمينية المتطرفة والنازية الجديدة في أوروبا. فالتقدميون من حملة الفكر الإنساني والتقدمي ينبغي أن يناهضوا النيوليبرالية التي اقترنت عمليا بسياسات المحافظين الجدد المعادية والمجوِّعة للشعوب والناهبة لثرواتها لا أن يعادوا مثل وقيم الليبرالية التنويرية وقيمها ومبادئها في المساواة والحرية والأخوة الإنسانية الأممية، بعد أن يتم تجذيرها ومنحها بُعدا طبقيا واجتماعيا مهما لتتحول إلى النقيض والبديل الحقيقي للنيوليبرالية الجشعة ويتمثل هذا البديل في الاقتصاد الاشتراكي القائم على أسس التخطيط والتنسيق على المستوى الأممي بين الشعوب الحرة والتسيير الذاتي والاستقلالية واحترام الثقافات المحلية بالاستفادة من تجارب وخبرات الشعوب في هذا الميدان وخصوصا تجارب الاتحاد السوفيتي بكل عجرها وبجرها ونقاط قوتها وضعفها والتجربة الصينية بكل علامات الاستفهام والتحفظات التي تحيط بها وتجارب شعوب أميركا اللاتينية الواعدة.
أختم بهذا الاستدراك الضروري : صحيح أن دعاة الليبرالية يتبنون عادة مجموعة واسعة من الآراء تبعاً لفهمهم لهذين المبدأين “الحرية والمساواة”، ويدعمون بصفة عامة مبادئ حرية التعبير، وحرية الصحافة، والحرية الدينية، والسوق الحر، والحقوق المدنية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها والمجتمعات المفتوحة، والحكومات العلمانية، ولكن هذه المبادئ تحولت في عصرنا الحاضر – عصر الإمبرياليات الاستعمارية النووية – على أيدي الحكومات الغربية ونخبها الثقافية إلى قشور ومبررات للعدوان والهيمنة على الشعوب الأخرى في الجنوب، كما بولغ في بعضها حتى تحولت الى فرض قسري لنمط الحياة الغربية الاستهلاكي وقيمها الجديدة الغرائزية على الشعوب الأخرى، ومن هنا درجتُ في كتاباتي على وصفها بالليبرالية “القشرية”، ووصفت دعاتها بالليبراليين القشريين بهدف التمييز بين المبادئ والمثل الليبرالية التنويرية الأصيلة ومنحها بُعدا طبقيا اجتماعيا وبين القشور الليبرالية والمبالغات الغريزية والفردانية المتطرفة المعادية لثقافات الشعوب وخصوصياتها المحلية وما هو إيجابي منها تحديدا.
1-رابط مقالتي عن كتاب الأستاذ فؤاد الأمير وفيها رابطان لتحميله: #تحميل_كتب_علاء