هل يُطيح الغاز الروسي بالتضامن الأوروبي؟
منذ اليوم الأول للأزمة الأوكرانية سارعت أوروبا إلى اتخاذ العديد من العقوبات بحق روسيا، ويبدو أن لا أحد كان يتوقع أن تدفع موسكو بملف الغاز ليدخل على خط الصراع وبقوة. فكان ردها أن على أوروبا أن تدفع قيمة الغاز المُصدّر إليها بعملتها الوطنية الروبل، وقد برروا هذا القرار بأنه جاء نتيجة لخطوات غير ودية من أوروبا وبشكل غير مسبوق في المجالين الاقتصادي والمالي، ليتبعه بعد فترة قرار بقطع الإمدادات عن بولندا وبلغاريا لرفضهما الدفع بالروبل.
وإذا ما علمنا أن 90% من احتياجات بلغاريا يعتمد على الغاز الروسي و55% من احتياجات بولندا من هذه المادة هي من المصدر نفسه، يتبين وبوضوح حجم الاضطراب الذي يمكن أن يحققه قطع الغاز عن هذه البلدان، فهل موسكو جادة في تنفيذ قرارها على الجميع؟
يبدو أن روسيا تستعرض عضلاتها في هذا الملف، وهي تعتمد في هذا الاستعراض على أنه لا يمكن إحلال أي غاز آخر محل الغاز الذي تُصدّره إلى أوروبا، لا اليوم ولا بعد سنوات، وفقا لتقديرات خبراء الطاقة، فجميع صادرات أمريكا وأستراليا وقطر لا يمكنها أن تحل محل الغاز الروسي، لأن معظم صادرات هذه الدول مرتبطة بعقود لزبائن في منطقة حوض المحيط الباسفيكي مُقدّما ولسنوات طويلة، فعلى سبيل المثال أبلغت قطر الاتحاد الأوروبي، أنها تستطيع تصدير فقط 10% من صادراتها البالغة 55 مليون طن في العام إلى الاتحاد، هذا يدل دلالة واضحة على أنه ليست هنالك أية مصادر طاقة أخرى بديلة. أيضا هنالك ورقة رابحة أخرى بيد موسكو، وهي أنها قادرة على بيع كل صادراتها من الغاز إلى منطقة حوض المحيط الباسفيكي، كالهند والصين اللتين هما بحاجة إلى الغاز السائل والغاز العادي والطاقة بوجه عام. وهناك تجار نفط غربيون سيشترون الغاز والنفط الروسي بصورة سرية، كما أن ارتفاع الأسعار ستكون موسكو فيه هي الرابح الأكبر، لأنه حتى لو صدّرت كميات أقل من النفط والغاز هي تقبض ضعف السعر أو أكثر، كل هذا يعطي انطباعاً بأن موسكو قد تكون جادة في قطع الغاز عن أوروبا في حالة عدم الدفع بالروبل، لكن عند النظر إلى ما يدخل الخزينة الروسية من بيع الغاز، ربما يكبح القرار الروسي بقطع الإمدادات، فهناك منظمة أوروبية غير حكومية قالت، إن الاتحاد الأوروبي دفع إلى روسيا 41 مليار يورو، مقابل الوقود الأحفوري المصدّر إليها منذ غزو أوكرانيا قبل شهرين. السؤال الآن ما هي خيارات دول الاتحاد الأوروبي في التعامل مم التهديدات الروسية في قطع إمدادات الطاقة؟ من الواضح أن أوروبا في حيرة تامة من أمرها، وهي حتى اليوم غير قادرة على تحقيق إجماع في التعامل مع هذا الملف، ويبدو الحذر واضحا في الخطاب الألماني حول هذه المسألة بالقول يجب أن تكون خطواتنا ذكية، حتى لا نتسبب في كوارث اقتصادية. أيضا فرنسا حذرة وتقول سنواصل الدفع باليورو، من دون أن تشير إلى فرض حظر شامل على إمدادات الطاقة من روسيا. صحيح أن المانيا خفّضت اعتمادها على الطاقة من روسيا بنسبة 10%، لكنها تجد صعوبة في تعويض الغاز الروسي على المدى القريب، وتجد نفسها اليوم في أزمة عميقة، وهناك انقسام داخلي بسبب هذا الملف.. وهناك مطالبات داخلية بتسوية الأمر مع الروس. وهي تحاول البحث عن بدائل، لكن الغاز الروسي الذي يشكل نسبة 35% من استهلاكها، يجعل من الصعب العثور على بديل. كل هذا يحصل وسط ارتفاع متواصل في مستويات التضخم في الدول الأوروبية، بسبب ارتفاع أسعار الغاز والنفط، واختلال ميزان العرض والطلب، إلى الحد أن رئيسة الخزانة الأمريكية حذّرت من مغبة فرض عقوبات شاملة على روسيا، لأنه ستكون هناك انعكاسات كارثية على الاقتصاد العالمي، حسب تعبيرها.
رئيسة الخزانة الأمريكية حذّرت من مغبة فرض عقوبات شاملة على روسيا، لأنه ستكون هناك انعكاسات كارثية على الاقتصاد العالمي
لقد سمعنا على مدى أكثر من شهرين من أوروبا تصريحات عالية النبرة، لكن الحقيقة أن سقف المواقف الأوروبية لا يتماشى مع واقع أزمة الطاقة في أوروبا. فقد رفضت الدفع بالروبل في بداية الأمر، واليوم ذهبت بعض الدول الأوروبية للدفع بالعملة الروسية، فالنمسا والمجر وسلوفاكيا قالت أنها ستدفع بالروبل، وحسب بلومبيرغ، هناك عشر دول أوروبية فتحت حسابات في موسكو بالروبل، وأربع منها دفعت بهذه العملة، حتى ألمانيا قالت إنها ترفض الدفع بالعملة الروسية، لكنها الآن ستفتح حساب لها في غاز بروم، ومن ثم يتم تحويله من اليورو إلى الروبل. إن عدم وجود بديل جاهز يعوّض أوروبا عن الغاز الروسي، يعطي موسكو القدرة على تمرير قرارها بالدفع بعملتها الوطنية، مقابل الطاقة التي تُصدّرها إلى دول أوروبا، كما أن الموضوع مرتبط أيضا بالوقت والجهوزية. وهناك عامل مهم يلعب دورا كبيرا في الضد من الأوروبيين وهو، عدم وجود بُنى تحتية، وهذه لا يمكن أن تكون جاهزة على أحسن تقدير قبل عامين، هنا ليس من خيار أمام الاوروبيين سوى التقشف في الطاقة، لكن هذا الخيار أثمانه باهظة أيضا. سيكون هنالك تأثير كبير على العجلة الاقتصادية والنمو الاقتصادي. فالطاقة التي تستوردها أوروبا من روسيا تذهب الى قطاعات مهمة مثل المواصلات والصناعة، ما يعني أن هذه القطاعات ستتأثر وسيحصل تراجع في النمو الاقتصادي، وعادة الحدث الاقتصادي دائما ما تتكون منه عدة أحداث أما تُضخّمه أو تُقلّصه. يبدو أن موسكو سوف تستمر في مطالبتها المستوردين الأوروبيين بالدفع بالروبل، وهذا الموقف يعود إلى سببين، أن قرار دفع الصادرات الروسية بالروبل هو قرار رئاسي جاء شخصيا من بوتين، وليس من الحكومة، لذلك لن يتراجع بوتين عن قرار اتخذه بنفسه، كي يؤكد للغرب جديته في كل القرارات التي يُصدرها. أما السبب الثاني فإن سلاح الطاقة بعد الحرب الاقتصادية التي شنها الغرب ضد روسيا، كما العقوبات التي تم فرضها على موسكو، خلال الفترة القصيرة الماضية منذ الغزو وحتى اليوم، هي أكثر عشرات المرات من تلك التي فُرضت على دول أخرى في عقد من الزمن. لذلك لا يمكن للجانب الروسي التراجع، وهذا هو السلاح الأقوى بيد روسيا الآن، وإذا لم تستخدمه الان فمتى ستستخدمه إذن؟ لذلك بوتين يفهم جيدا الموقف الأوروبي، الذي يعتمد بشكل كبير على مصادر الطاقة الروسية، وفي المقام الأول على الغاز الروسي. لقد اختلفت أوروبا في ما بينها مؤخرا عند طرح مقترح فرض حظر شامل على واردات النفط الروسية بحلول نهاية العام الحالي. واعتبر رئيس الوزراء المجري هذه الخطوة خطا أحمر لا يمكن الموافقة عليها، فاضطر الاتحاد الأوروبي إلى تمديد واردات النفط إلى المجر ودول أوروبية أخرى إلى نهاية عام 2024. فإذا كانت دول الاتحاد الاوروبي لا تستطيع الاتفاق على وقف واردات النفط الروسي، فكيف سيكون الأمر لو تم وضع قطاع الغاز الروسي في الحظر، وهو الاكثر إيلاما، وليس هنالك من بديل له؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية