ما عقدة النقص البريطانية تجاه روسيا ؟
في الشهر الماضي صرّح وزير الدفاع البريطاني جيمس هيبي بأن ضرب أوكرانيا لخطوط النقل والإمداد الروسية، وإمدادات الوقود أمر مشروع تماما. كما أعطى الحق لكييف باستخدام الأسلحة البريطانية لفعل ذلك. مباشرة جاء الرد الروسي على لسان المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروف، التي قالت إن حكومتها قد تعطي الضوء الأخضر لضرب أعضاء في حلف الناتو، الذين يزوّدون أوكرانيا بالأسلحة، مؤكدة أن بريطانيا واحدة من تلك البلدان.
كما صرح وزير الدفاع الروسي بالقول، إن روسيا حذّرت بريطانيا من أنها إذا استمرت في تشجيع أوكرانيا على ضرب أهداف في روسيا، فسيكون هناك رد مناسب عاجل. فما دوافع الموقف البريطاني؟ وما عقدة النقص التي تشعر بها لندن تجاه موسكو؟
لعل من أكثر المواقف تميزا ضد روسيا من بين كل دول أوروبا والعالم، كان وما زال هو الموقف البريطاني في الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية الآن. فقد دفعت لندن بأوراق كثيرة للضغط على موسكو، وكانت العقوبات الاقتصادية أول ما بدأت بها بريطانيا في المجالات كافة. كما تحولت لندن إلى الناطق الرسمي باسم الجيش الأوكراني منذ بداية الحرب وحتى اليوم، فتارة يصدر عنها موقف عسكري عما يجري في أرض المعركة، مُحصيا حجم الخسائر الروسية وعدد القتلى، وتارة موقف استخباراتي يصور الوضع النفسي لبوتين بأنه منهار، ويقول إن القادة العسكريين يحجبون الموقف العملياتي عنه كي لا يغضب من حجم الخسائر، وغيرها من الفبركات الإعلامية التي تدخل في نطاق الحرب النفسية. وإذا عدنا إلى ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير العام الجاري، يتبين وبوضوح أن المانيا وفرنسا كانتا قد حذرتا الرئيس الأوكراني زيلينسكي من استفزاز روسيا. ففي شهر إبريل عام 2021 كان الرئيس الأوكراني في باريس وتحدث مع ماكرون وجها لوجه، ومع المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل عبر الفيديو، وقالا له بصراحة تامة، إن هنالك عملية توريط لأوكرانيا وللأوروبيين في نزاع عسكري مع روسيا. لكن بريطانيا قالت له لن تستطيع روسيا غزو أوكرانيا لأن الولايات المتحدة لن تسمح بذلك، ما يعني أن النية كانت مبيته من لندن لدفع أوكرانيا وموسكو للدخول في حالة حرب. وهنا لا بد من القول بأنه ليست الجغرافيا وحدها هي التي تؤثر في العلاقات الدولية، بل التاريخ له قول أيضا في هذا الموضوع، وكان التاريخ حادا جدا بين بريطانيا وروسيا. ففي أوائل القرن التاسع عشر وقعت حرب طاحنة بين البلدين استمرت من عام 1807 إلى عام 1812. كما حصلت خلافات كبيرة بينهما أثناء ترتيب التقاسمات بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية. أما أعتى المواجهات فهي تلك التي وقعت بين الأجهزة الاستخباراتية والأمنية لكلا الطرفين خلال الحرب الباردة، وشملت ساحتي البلدين وداخل أوروبا كذلك، ويبدو أن التوغلات الاستخباراتية الروسية في الساحة البريطانية هي الأكثر إيلاما للندن، إلى حد أنها شكلت عقد نقص تجاه روسيا. ففي الحرب الباردة استطاعت المخابرات في عهد الاتحاد السوفييتي اختراق الأوساط السياسية العليا في بريطانيا. أما بعد الحرب الباردة فجعلت المخابرات الروسية من بريطانيا ساحة لها لتصفية الحسابات مع المعارضين لها، كان آخرها تسميم العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال في جنوب شرق لندن في الرابع من مارس عام 2018. تلك العملية التي على أثرها قامت الحكومة البريطانية بطرد 23 دبلوماسيا روسيا.
ليست الجغرافيا وحدها هي التي تؤثر في العلاقات الدولية، بل التاريخ له قول أيضا في هذا الموضوع، وكان التاريخ حادا جدا بين بريطانيا وروسيا
ويبدو أن حجم الأذى الكبير الذي تتعرض له لندن في هذا الحقل هو الذي دفعها إلى اعتبار روسيا تمثل تهديدا كبيرا لها، حدث ذلك في المراجعة الحكومية للاستراتيجية الدفاعية عام 2021. وكان من نتائج هذه المراجعة أن رفعت الحكومة البريطانية مخزون الرؤوس الحربية النووية من 180 إلى 260، وهي سابقة لم تحدث منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ما دفع السفير الروسي في لندن لوصف العلاقات بين روسيا وبريطانيا بأنها ميتة عمليا. ولعل أبرز ما يشير إلى النجاح الروسي في الصراع الاستخباراتي مع بريطانيا، ما قاله الرئيس السابق للمخابرات البريطانية في محاضرة علنية، فقد أوضح جون سورز أنه في بدايات الثورة السورية ضد النظام في درعا عام 2011، شرعت المخابرات البريطانية في إنشاء كيان عسكري على الاراضي السورية، الهدف منه، تعزيز الثورة السورية وصولا إلى إسقاط النظام السوري. وقد استمرت المخابرات البريطانية في العمل في هذا الاتجاه من عام 2011 إلى عام 2014، لكن المشروع فشل لأن الروس كانوا قد وضعوا خطة استباقية ضد الخطة البريطانية، بالتدخل العسكري في سوريا، لغرض إفشال المشروع البريطاني ونجحوا في ذلك، ويضيف سورز بالقول إن بوتين نجح في الدخول إلى عقولنا ودرس مشروعنا، بينما لم نستطع نحن الدخول إلى عقله، ولم نتوقع تدخل روسيا في سوريا، وبذلك فشلنا نحن والمخابرات المركزية الأمريكية في ذلك البلد. لقد آلت بريطانيا على نفسها أن تكون على الموقف الأمريكي في محطات كثيرة وفي أزمات عالمية عديدة، لكن موقفها المتناغم تماما مع أمريكا في القضية الأوكرانية، جاء مدفوعا بعقدة النقص التي تعانيها من روسيا أيضا. فاللهجة الشديدة والتحريض المستمر على الحرب، والدعم العسكري الكبير لكييف، والسماح بعبور المرتزقة والمتطوعين من بريطانيا إلى أوكرانيا، كلها تؤكد أن هنالك ثأرا تجد لندن الفرصة مؤاتية لأخذه من موسكو. كما أن هنالك معلومات تقول إن قوات بريطانية موجودة على الأراضي الأوكرانية تقوم بتدريب قوات من الجيش الأوكراني. وعندما بدأ الحديث في الإعلام يتواتر عن موضوع إمكانية استخدام موسكو للأسلحة الكيماوية، كانت بريطانيا سبّاقة في اتخاذ موقف قبل أن يحدث أي شيء على أرض الواقع. فانبرى وزير الدفاع البريطاني بإطلاق تحذير غير مسبوق لموسكو في حال أثبتت التحقيقات ذلك، حيث قال “جميع الخيارات مطروحة على الطاولة في حال تم التحقق من استخدام روسيا لأسلحة كيماوية”. تبعته وزيرة الخارجية بتغريدة قالت فيها “إن المملكة المتحدة تعمل للتحقق من تلك التقارير”.
ربما يغيب عن أذهان الكثيرين أن أول وأهم الصادرات البريطانية إلى الخارج، خاصة إلى حلفائها في أوروبا وغيرها من الدول الصديقة، هو المعلومة الاستخباراتية. وكان هذا الموضوع أحد الملفات الرئيسية التي أقلقت الاتحاد الأوروبي، حين همّت المملكة المتحدة بمغادرته. وقد جرى التفاوض عليها طويلا لأن الأوروبيين كانوا يخافون من أن تقطع لندن عنهم تصدير المعلومة، أو على أقل تقدير تقيّد تصدير بعض المعلومات، فإذا كان الروس قادرين على اللعب في ساحة المملكة المتحدة، وقتل المعارضين لنظام بوتين بحرية في أراضيها، وإفشال خطط المخابرات البريطانية في الخارج، كما حصل في سوريا، يقينا سيكون مفهوما جيدا لماذا لندن شحذت كل سكاكينها ضد روسيا في الحرب الأوكرانية.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية