أوربا بعد أوكرانيا
ضرغام الدباغ
في السؤال : هل خلقت الأزمة الأوكرانية معطيات جديدة في أنماط التفكير والسلوك في أوربا .. ستكون الإجابة : نعم بالتأكيد، وفي السؤال هل مثلت الأزمة الأوكراني قنبلة انفجرت فوق طاولة أوربا الفسيفسائية، وبعثرتها، بدرجة يصعب لم شعثها كما كانت أول مرة .. الإجابة نعم بالتأكيد ..!
بداية لا توجد أوربا موحدة وفق المفهوم الرياضي /السياسي للكلمة. لأنه لا توجد أمة أوربية أصلاً، سواء كأعراق أو ككينات سياسية وثقافية، فهناك من الدول لم تنظم بعد إلى الاتحاد الأوربي، وهناك دول ضمن الاتحاد ولكنها بنظرية “إكمال العدد”. وبالإمكان شكليا وبروتكولياً ضبط الإيقاع، وكذلك دبلوماسيا إلى حد ما، نعم هناك هموم مشتركة، وهناك أمكانية لقيام أو تطوير المصالح المشتركة، وتطوير ما هو قائم، ولكن في الواقع العملي هناك تفاوت بديهي في المصالح، وهناك من لا يود أن يجد اتحادا أوربيا متيناً قوياً، وهناك مجموعة من الأفكار والآراء والمواقف وليتبلور في النهاية قائد اقتصادي (ألمانيا)، وقائد سياسي (فرنسا) وعلى أساس هذا التفاهم الألماني / الفرنسي القوي اقتصاديا بوجود القاطرة الألمانية، والقوي سياسيا بوجود فرنسا الدولة العظمى، يقاوم الاتحاد الأوربي عوامل ضعفه واحتمالات انهياره.
بريطانيا غادرت الاتحاد الأوربي، بعد أن مثلت الدور الموالي لأميركا، ولا يزال هنا في الاتحاد الأوربي ” متعاونون ” يعكسون المصالح الأمريكية في الاتحاد الأوربي، والسؤال الأكبر والأخطر، هو لماذا لا تريد الولايات المتحدة للاتحاد الأوربي أن ينهض ككيان له وزنه السياسي / الاقتصادي في الحياة السياسية الدولية. لأن يكون لهذا الكيان رؤيته للعلاقات الدولية الحالية والمستقبلية، وهي رؤية تخلف كثيراً أو قليلاً من الرؤى الأمريكية للالتزامات السياسية والعسكرية والاقتصادية لما يسمى بالعالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وتخشى الولايات المتحدة أن يكون للرؤية الأوربية تأثيرات تتعارض مع رؤيتها للعلاقات مع الصين وروسيا، فالولايات المتحدة تحبذ أن تتواصل أجواء التوتر وسباق التسلح، والمناورات على حافات الأزمات الملتهبة .. والإبقاء على المواجهة مع هذا المعسكر الافتراضي (الصيني ــ الروسي) وهذا ما سيتيح لها مواصلة قيادة العالم الغربي وفرض إيقاع المواجهة على شتى الأصعدة وهو سيضمن لها بالتالي دور المايسترو لقيادة التحالف الغربي.
وبالطبع يدرك الأوربيون تماماً، أن مرامي الولايات المتحدة ليست إنقاذ أوكرانيا، فالاتحاد السوفيتي هو من جعل من أوكرانيا دولة لأول مرة في تاريخها، ومنحها أراض شاسعة من الأراضي الوطنية الروسية، وبعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي منحها حق الاستقلال، كل هذا وأوكرانيا لم تكن تخشى على أمنها، حتى وضعتها أميركا بتخطيط وتصميم في هذا المأزق لأن تكون ساحة مواجهة مع روسيا، على أمل أن:
- تستنزف سمعة روسيا، وتحاصرها سياسياً وتشهر بوجهها العقوبات.
- تثير مخاوف دول صغيرة. وتحثها على الالتحاق بالناتو لتضع نفسها تحت قيادتها فعلياً.
- إرهاق روسيا دولة وجيشاً واقتصاداً في معركة طويلة ساحتها الرئيسية أوكرانيا، مع احتمال أن تتسع المعركة وهو أمر مرغوب به أميركيا وتتمناه .
- أن تدعو بلدان أوربا الغربية لمزيد من الإنفاق على التسلح، وبالفعل دفعت الدول الرئيسية كفرنسا وألمانيا مئات المليارات للتسلح، والتسلح إنفاق لا طائل منه. وبالفعل نشبت الأزمات الاقتصادية وارتفاع الأسعار في بلدان كانت مرفهة كألمانيا مثلاً.
ولكن أوربا، مع تصميمها بالطبع على رفض أي توسع روسي غرباً، فمع توغلها شرق أوربا سيجعل من روسيا شريكا أوربيا بحجم عدد السكان والموارد والقوة العسكرية، يؤهلها للعب دور القائد، وبتحالفه مع الصين تتضاعف قدراته … ولكل قدرة استحقاقها في الميدان … وهنا تبدأ الحاسبات بالعمل …!
الأوربيون أذكياء، وخبراء بالسياسة على مسرح العلاقات الدولية وما خلف الكواليس، وها هم يناورون بذكاء، ويمارسون لعبة توزيع الأدوار بطريقة لماحة ذكية، فهذه الدولة ترفض العقوبات على روسيا، وأخرى تعتذر لحاجتها الماسة لتوريدات الطاقة (غاز ونفط)، وأخرى توع أن الرأس العام المحلي ضاغط على الحكومة، وآخر يعتذر بسبب مشكلات اقتصادية لا قبل له بها …. وكلام كثير جداً ..! ودول وافقت على الدفع بالروبل …!
لا شك أن الأوربيون في مأزق، وأميركا تلعب دور البلطجي، وقد ضاقوا ذرعاً بأميركا وبدورها القيادي الاستعلائي، ولكن بالمقابل فإن الخطر القادم من الشرق مثير للقلق أيضاً ..المرحلة المقبلة سترجح إحدى الكفتين، والأوربيين يتركون المسالك مفتوحة لكل الاحتمالات … بالطبع لا يرغبون بتحدي علني لأميركا ولكنهم سوف لن يدعوها تسوقهم كالخراف لحروب وتجعل أوربا ساحة مواجهة مع روسيا. الناس هنا (في أوربا) يريدون السلام، والجيل الذي عاش الحرب العالمية الثانية ما يزالون يذكرون أهوالها. والسياسيين يعتقدون أنه يمكن التوصل لحلول سلمية، والدبلوماسية بوسعها أن تجد الحلول لكل معضلة، والحرب ليست من بين الحلول، ففي ظل الأسلحة الحديثة ، الحروب الشاملة انتحار، والانتصار وهم ..!
من أجل هذه المعطيات وأخرى ربما كامنة، هناك سياسة أوربية جديدة ..وتبلور لشخصية أوربية بمستحقات مرحلة ما بعد كورونا … وأوكرانيا …!