ج2/ النواب في مواجهة صدام وموقفه من الاحتلال الأميركي
علاء اللامي*
*للمزيد من تسليط الضوء، على مظفر في سنواته الأخيرة، وبهدف التفسير لا التبرير كما قلت. أقتبس هذه الفقرات من كلام أدلى به الروائي السوري إبراهيم الجبين صديق مظفر المقرب والذي عاش معه في دمشق لعدة سنوات في ثمانينات القرن الماضي. وقد أدلى بهذا الحديث من ألمانيا حيث يقيم الآن بعد وفاة مظفر بيوم أو يومين؛ مع تسجيل تحفظي على الوسيلة الإعلامية التي أدلى لها الجبين بهذا الحديث لأنها ممولة أميركيا وشبه رسمية أولا، وثانيا على روايته – وقد تصفحتها سريعا قبل قليل – فوجدتها رواية ملتبسة وتثير الكثير من الأسئلة والتحفظات، أما ما قيل عن “دور بطولة” لمظفر فيها فهو قول غير صحيح فقد ورد فيها ذكر مظفر في فقرة أو فقرتين، عرَضا، وضمن حشد من أحداث وأسماء أصدقاء ومعارف المؤلف. ولكننا نظفر مما كتبه المؤلف بمعلومات منصِفة قد لا تكون شائعة عن مظفر، فهو يقول عنه “كان مظفر خجولا وقليل والكلام، ولا يشرب الخمر كثيرا كما يشاع عنه، ولا يحب الكلام الفاحش كما توحي قصائده، ولم أره يوما يشتم أحدا أو يذكره بعيب فيه. كان طيفاً يشبه قصائده الرقيقة، شفافاً كما البنفسج ورهيفاً كما في “ترافة وليل” وغائبا في البعيد كما في “المساورة أمام الباب الثاني/ ص198” ويصف لنا المؤلف في مشهد قصير تعرض مظفر إلى نوبة مرضية خطرة، لا نعرف ما نوعها، ويطلب منه نقله إلى المشفى دون أن يكمل لنا ما حدث.
*في تصريحه الصحفي الأخير يذهب الجبين إلى أن مظفر توفي عمليا – وقد يقصد شعريا وسياسيا – سنة 2005، أو بعبارته الحرفية “هو ميت منذ 2005″، وقد بينت أنه ربما يكون قد كفَّ عن العطاء الشعري المتصل قبل هذا التاريخ بعدة سنوات بسبب حالته الصحية. وهذه الفكرة يؤكدها الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد في رثائه لمظفر اليوم، والذي قال فيه “في السبعينيات من القرن الماضي، جاء النواب إلى عدن، وكانت أصداء قصيدته قد سبقته، وقد زرته في مستشفى الجمهورية بخور مكسر، حيث كان يخضع للعلاج. والتقيته لاحقاً وبقيت متابعاً لأخباره وتحركاته وتنقلاته في بعض بلدان ما كانت تسمّى بـ«جبهة الصمود» وغيرها من البلدان العربية. ويبدو أن مظفر النواب ظل عقوداً طويلة نزيل المشافي، لكنه لم يتنازل عن كبريائه، ولا عن مواقفه المبدئية حتى اللحظة الأخيرة من حياته/ جريدة الأخبار – عدد 25 أيار الجاري”
والمرجح أن تكون آخر قصيدة ألقاها مظفر هي “أخذ بيدك رسن روحك”، وهي باللهجة العراقية، وألقاها في أمسية بدمشق سنة 2004، أي بعد عام تقريبا على الاحتلال الأميركي للعراق، وهاجم فيها الاحتلال وحرض العراقيين على المقاومة والتحدي، ومنها قوله “يا مريكا حربنا وياج كسر خشوم .. يا أمريكا الظلم ما يدوم”، وهذه القصيدة تخرس كل الألسن التي حاولت تشويه أفكار مظفر وموقفه من الاحتلال الأميركي، واتهمته بمداهنته والسكوت عليه إما جهلا أو خبثا وسوء طوية أو الاثنين معا!/ الرابط 1.
*وثمة نص آخر بالفصحى عنوانه “كهرمان وثلاث أمنيات”، منسوب أيضا لمظفر وانتشر قبل سنوات على الانترنيت وأعيد تفعيله قبل أيام، وهو في اعتقادي نص ركيك وملتبس وليس من شعر مظفر في شيء، فلا المفردات ولا الإيقاع ولا الموسيقى ولا الأفكار والصور لها علاقة بشعر مظفر ومناخاته وروحه الحقيقية، ولا يمت إليه بصلة. فهل من لغة النواب أن يقول مثلا (صهيل الفتيات الشقر يستنهض حجم الزمن المتعب)، أو المقطع الذي يقول (يا سيدي حســن.. في جبتك الخوف أمان...كهرمان… يا كهرمان…الوطن المتساوي الأضلاع…رجسٌ لن يقبله منذ الآن الأمريكان)؟ إضافة إلى أنني لم أجده هذا النص في أي تسجيل صوتي أو فيديوي للمظفر، بل نشر كنص في مواقع وصفحات غير معروفة وملتبسة. وعموما، فقد شكك كثيرون بنسبة هذا النص إلى مظفر، ومنهم إبراهيم جبين نفسه، والذي دعَّم رأيه بكون مظفر كان يعاني سنة 2006 التي زعم البعض إنه كتبها فيها (من مرض الباركنسون “الشلل الرعاشي” الذي كان قد استحكم بجسده، بسبب أعراضه الشديدة المؤثرة على الذهن والجسد في آن معاً) كما قال في لقائه سالف الذكر.
ولاحقاً، حسم أحد الأصدقاء هذا الموضوع ونشر فيديو يتحدث فيه الراحل مظفر في سنواته الأخيرة نافياً فيه عائدية قصيدة “كهرمان” له ويصفها بأنها نص “لا يصل حتى إلى مستوى النثر، النثر السيء” كما ينفي إنه حصل على مساعدات مالية وبيت وراتب من الحكومة العراقية/ الرابط 3.
كما انتشرت مقطوعة ركيكة من الشعر العمودي منسوبة لمظفر تحتوي على شتائم سوقية لصدام حسين وأمه وأبيه، وتنال من عِرضه، وهي مدسوسة قطعا ومفتراة عليه ولا علاقة لها بالنواب وشعره ولا بأخلاقياته التي ترفض الإساءة إلى الآباء الأمهات حصرا، ومعروف أن مظفر في حديثه عن لقائه بصدام حسين والذي تطرقت إليه في موضع آخر من هذه المقالة كان فروسيا وشهما ولم ينل من جلاده الحاكم آنذاك وأطرى لباقته ومرونته.
*ويضيف جبين إنه عندما التقى مظفر آخر مرة “كان يشكو من صدمة مستمرة في حياته، وهي السبب في رحيله اليوم، وفقا للجبين، فإن وفاة والدته كان لها الأثر الأكبر في وفاته اليوم”. ويضيف أن “اللحظة التي تبلَّغ فيها بوفاة والدته كانت لحظة صادمة، لم يكن يتوقع أن تموت هذه المرأة“. يروي الجبين اللحظات الأولى التي عاشها النواب عند سماع نبأ وفاتها، وكيف أثرت بعد ذلك عليه، بحيث أصبح إنسانا مختلفا، وبلغة التفاصيل يقول؛ اتصل مظفر هاتفيا ليطمئن على والدته في بغداد في أحد أيام عام 2005.. أخبروه أن لا أحد في المنزل.. فسألهم أين ذهبوا، أجابوه أنهم في طريقهم من المقبرة لأنهم كانوا يدفنون والدته”!
فأصيب مظفر حينها بصدمة “وهذه الصدمة حسب وصفه وتعبيره اختارت أضعف ركن من أركان جسمه، وهو جهازه العصبي حيث أصيب بمرض الشلل الرعاشي وظل عليلا مذاك”. ومَن يعرف خصوصية علاقة الإنسان العراقي بأمه، سيفهم ويصدق تماماً بكل ما قاله إبراهيم الجبين هنا!
*إنَّ البعض ينسى أو يتناسى أو يجهل أن الراحل مظفر النواب خرج من الأضواء الإعلامية والشعر الثوري في المهرجانات الخطابية الثورية ومن الشأن العام بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت قبل أكثر من ثلاثة عقود وانسحب الى داخله ولكنه ظل حاضرا وبقوة شعريا، أعني بشعره المنجز الذي يعرفه ويحفظه الناس. ولكنه لم يقدم شعرا جديدا، ولم يشارك في أي مناسبة أو حدث سياسي وكان لحالته النفسية بعد هزيمة المقاومة، والصحية بعد إجراء عمليات جراحية له أثرها الكبير عليه، ثم جاءت أصابته بالشلل الرعاشي ثم بالزهايمر حيث عاش لسنوات بذاكرة معتلة.
إن البعض يتناسى أو يجهل كل هذه الأمور ويريد من النواب مواقف وبيانات في مناسبات عديدة. لا أحاول ان أبرر صمت النواب بل أن أفسر الحالة فحسب، ويبقى من حق محبي النواب ان يعتبوا عليه لصمته الطويل إذا كانوا لا يعرفون ظروفه، وكنت شخصيا ممن عبروا عن استغرابهم لصمته وقلت ذلك له كما أسلفت في لقائي الوحيد به مثلما قلته للراحل هادي العلوي، ولكن ليس من حق أحد أن يشوه وينتقص ويفتري على النواب لأنه بهذه الأفعال يتحول الى واحد من نباشي قبور الشهداء ورموز الشعب على طريقة الصهاينة وذيولهم كما فعلوا مع استشهاد شيرين أبو عاقلة تماما وقبلها مع سعدي يوسف، والهدف من وراء ذلك ضرب أي إجماع شعبي على شخصية أو فكرة ثورية ومقاومة تتصدى للخراب والاستباحة الشاملة لأوطاننا ومجتمعاتنا من قبل الغرب والحكومات التابعة له!
*ملحق: أدرج هنا تعليقي القصير على منشور الإعلامي سلام مسافر الذي نشره بعد تشييع الراحل مظفر، وضمَّنه فيديو الحوار الذي أُجريَ مع مظفر وتحدث فيه عن لقائه مع صدام حسين حين كان نائباً للرئيس العراقي سنة 1969، والفيديو متوفر على الانترنيت، ولا ينطوي نشره بحد ذاته – كما أعتقد – على أية إساءة لمظفر ولكن توظيفه ووضعه في سياق معين قد ينطوي على شيء منها، لذلك حاولتُ في تعليقي على صفحة الناشر أن أساعد على تفادي سوء الفهم والتفسير و “المسايقة”. وقد أثار تعليقي ردود أفعال هستيرية وعصبية من بعض المعلقين الموالين للنظام السابق على تلك الصفحة، كتبتُ:
*”هذا حوار بين الجلاد وهو في بداية طريقه الى الانفراد بالحكم وهو يحاول إرغام سجين وأسير على التعاون مع مخابراته وتوظيفه في النظام، وحين يواجهه الأسير بالرفض بصلابة، يحاول أن يبدي بعض الطيبة المفتعلة والتي لا يعرفها قتلة الأبرياء والعزل، فيجبره على استلام قطعة سلاح كهدية شخصية منه، ويقول له بالحرف “إذا لم تأخذ هديتي فلن تخرج من هنا”! وهذا تهديد صريح بالقتل، فيضطر الأسير إلى قبول الهدية. اللافت أن الراحل النواب ظل شهما وفروسيا فلم ينكر لباقة ومرونة جلاده، مع انه اعترف بأن صداماً كان في بداية طريقه الى التحول إلى مخلوق دموي مرعب، ومعروف أنه ترك وراءه، حين انهار نظامه، عشرات المقابر الجماعية للعراقيين”!
وبعد كل هذا وذاك، لم أرد في نصي المرتعش أسىً هذا، أن أعطي الانطباع بنوع من العصمة والكمال الخرافي لمظفر النواب، أو لأي من رفاقه الذين ذكرتهم، فهو يبقى بشرا وعرضة للشواش والبلبلة والارتباك في الرؤية والتعبير أحيانا، تحت ضغط تداعيات الأحداث الدموية والمأساوية التي مر بها العراق المحتل، وخاصة أثناء المذبحة الرهيبة التي تعرض لها العراقيون المدنيون بتفجيرات وعمليات العصابات التكفيرية كالقاعدة ثم داعش والتي زج بها الاحتلال الأميركي وسهَّل لها البدء والمشاركة في الاقتتال الطائفي الذي كان يحصد أرواح العشرات بل والمئات من العراقيين يوميا، وربما يكون الراحل قد عبر عن رأي ملتبس أو غير متوازن هنا أو هناك، ولكنه من حيث المبدأ، وكما أثبتنا بالصوت والصورة، كان ضد الاحتلال الأميركي وحلفائه المحليين الخونة، ومحرضاً ضده وداعياً إلى مقاومته وكسر أنفه… ويبقى مظفر شاعراً وفناناً ثورياً وإنساناً عراقياً عربياً عظيماً ينطبق عليه تماما الوصف الذي قاله هو عن الإنسان العراقي ذاتَ بيتٍ من الشعر قال فيه ( رقيقٌ كالماءِ، حادٌ كالشَّفرةِ)!
1-رابط فيديو يتحدث فيه مظفر عن هادي العلوي بعد رحيله عن أول لقاء له به:
2-رابط فيديو يلقي فيه مظفر قصيدته الشعبية “أخذ بيدك رسن روحك” ضد الاحتلال الأميركي وتحريض العراقيين على مقاومته/ تجد نص القصيدة مكتوبا في التعليق الأول:
3- رابط فيديو ينفي فيه الراحل النواب عائدية نص “كهرمان” له كما ينفي أنه حصل على بيت ومساعدات مالية وراتب تقاعدي من الحكومة العراقية: