«بيتُنا» وانهيار الطّوطم العائلي
منذ 2013 اختارت الكاتبة المغربية «ربيعة ريحان» منعرج الرواية الذي رأت فيه مآلاً أدبياً جديراً بأن يمنحها فضاءات أوسع للتعبير عن الرهانات الأدبية التي تشغلها في الكتابة، بعد أن قضت سنوات طويلة في ممارسة القصة القصيرة التي كانت فاتحتها المجموعة «ظلال وخلجان» سنة (1994)، التي قدم لها الروائي الكبير حنا مينه معلناً عن ميلاد قاصة مغاربية كاملة. أصدرت بعدها مجموعتها الثانية «مشارف التيـه» (1996)، ثم توالت المجموعات القصصية، أصدرت «شرخ الكـلام» (1999)، و»مطر المساء» (1999)، و»كلام ناقص» (2010) و»بعض من جنون» (2002)، و»أجنحة للحكي» (2006). لم يكن انتقالها نحو الرواية تجربة غريبة، ولكنه جاء بعد خبرة سردية طويلة سمحت لها بالتفوق منذ تجربتها الروائية الأولى.
كما في روايتيها السابقيتين «طريق الغرام» (2013) التي ترسم مأساة المرأة عندما تصاب فوزية بالخيبة من أقرب ما يحيط بها، وتكتشف مأساتها ومأساة زوجها سمير الشاذ جنسياً، فيكون الطلاق لتنفتح الرواية على المأساة النسوية في مجتمع ذكوري بلا قيم، إلا قيمة الغطرسة، ثم رواية «الخالة أم هاني» (2020)، التي تسرد الروائية من خلال شيماء سيرة خالتها الطويلة تتعانق فيها قصة أم هاني بسردية مدينتها آسفي، الواقعة على الأطلسي جنوبي المغرب، ذات الأصول البدوية والموريسكية أيضاً.
تدهشنا ربيعة ريحان في روايتها الأخيرة بيتنا الكبير(2022) بعوالمها الشعبية الساحرة والقاسية في الآن نفسه، التي تشكل العمود الفقري للبنية السردية لهذه الرواية، بين ذكورة مهزومة داخلياً، أو في الخارج أمام قوى السلطة حيث تتضاءل الجرأة ويتحول القوي أمامها إلى كلب مهزوم، بينما كان شرساً قبل زمن قصير، ولا تجد سلطانها إلا في البيت. ولو أن الجد كبّور من نوع آخر، سعيد بعنفوان ذكورته التي حاول أن يجردها من الغطرسة دون أن يتخلص من جبروت السلطة ذاتها، لا يملك حيال الأنوثة الساحرة إلا الانحناء. أنوثة تبدو صامتة في خلوة المكان المعزول، لكنها تخزن عنف المجتمع في داخلها وتنتقم بوسائلها الخاصة التي تملكها وتقودها نحو سلطان الرفض. ربيعة لم تجعل من ثقافتها وسيلة للحكم والتنظير، ولكنها سحبت وراءها القارئ لاكتشاف عالم أكثر تعقيداً مما نظن. ومن خلال الدوائر الذاتية الصغيرة، الفردية والعائلية والمجتمعية والسلطوية (المخزن) التي تمر كالظل في الرواية، تنشأ عوالم الرواية لدى ربيعة ريحان. وهنا لا تخرج عن السياق الذي اختارته روائياً، الذهاب نحو تفاصيل الأشياء التي تمر أمامنا عادية وهي ليست كذلك. الرواية مساحة لتقليب المدافن الأكثر توغلاً في التربة وتنطيق صمتها، وهو ما تفعله الحفيدة فريدة مع حياة جدها كبّور. تقف أمامها من خلال القصة، في مواجهة تفاصيله الخفية، في كبريائه وجنونه وإنسانيته بالقياس لما عرفته عن الأجداد وصورهم المتعددة. جد عصامي، لكن ذلك لا يمس لا من قيمته ولا من نبله، ولا حتى من وطنيته. تظل القيمة مخزنة فيه حتى وهو يواجه موتاً حتمياً، في بيته الذي شيده كما شاءه وزرع فيه أنفاس الحياة والحب. فهو من بنى عالمه وهو من جذبه نحوه ليعيد تشكيله خارج الأنماط السابقة التي عاش في كنفها بعد أن زهد في كل شيء واختار عن وعي وتبصر طريقه وعالمه. صحيح أنه هرب خوفاً من الأمن بعد الاعتداء في السوق على جابي الضرائب، دفاعاً عن رجل ضعيف، إذ لم يتحمل الظلم، لكن ذلك لم يكن إلا مطية فتحت أمامه إمكانية الهرب بعيداً.
يتزوج الجد كبور أربع نساء، جميلات وساحرات، يعرف كيف يرضيهن: سلطانة، سحابة، حليمة، ومحمودة. يختار ألبستهن ويتحكم في أذواقهن. هذا العدد من الزوجات والبيت الكبير الذي يشبه «الرونش» الأمريكي، يسمحان له بجعل العائلة تتمدد أفقياً من خلال الأولاد والأحفاد، يظل يراقبهم بعين لا تنام ليمنحهم الحب والسكينة وكل ما خزنه في الحياة من تجارب، وأن يفهم الموج المتلاطم في المجتمعات المحكومة بالحسابات الضيقة والأطماع والخيانات والاستعمارات، ويمنحهم الوسيط الحي بلا صراخ، لكن بثبات ويقين، من قيم ما تزال قادرة على الاستمرار والدفاع عما تبقى من حياة في مجتمعات تموت كل يوم قليلاً.
الجد كبر، فمن يحفظ هذه الجربة من التلف الحتمي؟ كل القصة ستمر عبر حفيدته فريدة بنت ابنه أحمد الحالمة، التي تستوعب قصته بكل تناقضاتها دون الحكم عليها بالسلب أو الإيجاب. ترويها بكل تفاصيلها بعدما فشلت في تحويل قصة جدها إلى سيناريو واختراق عالم السينما الذي ظل يسحرها دون أن تجد طريقها نحوه. تروي قصته في شكل حكاية طويلة لملمت أطرافها، عمودها الفقري جدها، من لحظة هروبه من مدينته والبدء في تكوين البيت الكبير بكل قصصه ومغامراته، حتى تفكك البيت نفسه وانتهاء زمن كبور ليحل محله زمن آخر، بقيم بديلة لا علاقة لها بما ظل يحمله. يباع البيت الذي ظل رمزية استثنائية للسلطة والحب والتوسع والأمان، بعد وفاة كبور، ويتم تقاسم أمواله عائلياً ببرودة، مع أن «بيتنا» يخزن في أعماقه تاريخاً بكامله تاريخ الطوطم، وتاريخ المكان، وأن بيعه يمحو هذه القيمة كلياً. كل شيء بدأ بلحظة صراع في سوق شعبية قادت كبور من بادية آسفي (مدينة الكاتبة) نحوها. يدخل إلى السوق كعادته مستمتعاً ومتفحصاً الموجودات، يضطر إلى التدخل لفك عراك بين جابي السوق الظالم وبائع فقير، ينتقم له بتعنيف الجابي، ويهرب بعيداً خوفاً من الشرطة نحو خلوة وادي تنفيست. من هناك ينشئ سرديته العظيمة التي يسندها البيت الكبير بنسائه وحقوله ومراعيه وحدائقه ومزارعه، مستلذاً بالحياة حتى امتلأ البيت بالأبناء والأحفاد. لا يستطيع القارئ ألا يتذكر جنة الجبلاوي الجبار في «أولاد حارتنا» بكل الثقل الدلالي الذي تحمله الشخصية والبيت. هذه القوة الحياتية الطاغية لم تمنعه من الانتساب إلى وطنه والدفاع عنه ضد المغتصبين. بعد الاستقلال، يبدأ البيت في التراجع بكل حضوره وقيمه، فينتشر الأولاد في أمكنة مختلفة داخل المدن، لكن ذلك لم يمنعه من أن يظل قريباً من أبنائه وأحفاده، وإيصال قيمه إليهم بكل الوسائط المتاحة. فهو بين قطبين، حياة الإقطاع حيث لا إرادة إلا إرادته، والحفاظ على قيم الطيبة والنبل والخير التي اجتمعت فيه. لكن هذا العالم الساحر يمسه الموت البطيء بسبب كبر السن، وهجر كل أفراد العائلة، ودخول البلاد في زمن آخر لا علاقة له بزمن كبور. خمس سنوات في حضن جدها قبل موته، كانت كافية لاستعادة حياته.
تكاد ربيعة تتماهى في صورة هذه الحفيدة العارفة لسحر الحكاية وأسرارها. وكأن فريدة هي شهرزاد من نوع آخر. أمام ظل وتاريخ وروح شهريار جردته الشيخوخة والموت من كل مخالبه وآثار الدم على كفيه. شهريار عرف ماذا تعني له المرأة في كل مساره الحياتي الذي لم يكن سهلاً. شخصيات الرواية، كما تقول الروائية (جريدة الدستور) «منجذبة إلى الواقع، ومستندة إلى أحداث تاريخية وسياسية، حصلت بالفعل، ويعرفها كثيرون، مما يجعلها تبدو كأنها سيرة، سيرة الجد «كبور» والحفيدة «فريدة» معاً»، وربما سيرة الزمن الذي عاشاه دون إعادة تصنيعه بما يتوافق أيديولوجياً، على الرغم من أن الرواية كتبت في عز الجائحة بأسئلتها الوجودية القاسية. ولعل هذا ما منح الرواية مصداقية كبيرة في الحكي ومنطق بنائه.