ضحايا القمع من اليسار في العهد الجمهوري القاسمي
علاء اللامي*
لماذا التستر على الأرقام والوقائع المذهلة لضحايا القمع الحكومي بعد ثورة 14 تموز 1958؟ حين نعلم أن (269) عراقياً من شيوعيين ويساريين وديموقراطيين ووطنيين قد قتلوا بعد ثورة 14 تموز الجمهورية 1958- هذا غير القتلى والسجناء من الملكيين والقوميين الذين اعتبروا من أعداء الثورة حقا أو باطلاً- وأن المجالس العرفية العسكرية الجمهورية أصدرت أحكاما بالموت على (106) آخرين، واعتقلت أكثر من 22 ألف مواطن، فهل ينبغي أن نمرَّ على هذه المعلومات مرور الكرام؟ لماذا، ولمصلحة مَن تطمس هذه الأرقام والوقائع المهمة من تاريخ العراق؟ أليس هؤلاء الضحايا مواطنين عراقيين أولا، قبل أن يكونوا شهداء لهذا الحزب أو ذاك؟
نعم، إنها معلومات صادمة ومذهلة تلك التي وردت في صفحة من كتاب عن حياة المناضل الراحل حسين أحمد الرضي “سلام عادل”، زعيم الحزب الشيوعي العراقي آنذاك، بعنوان “سيرة مناضل / الجزء الثاني” وهو من تأليف زوجته السيدة ثمينة ناجي يوسف والسيد نزار خالد. لقد قرأت قبل أيام هذه المعلومات في منشور لأحد الأصدقاء، ورغم أنه ذكر مصدر معلوماته ورقم الصفحة، ولكنني طلبت منه صورة صفحة الكتاب التي اقتبس عنها فزودني بها مشكورا، وها أنا أنشرها مع هذه المعلومات ولكني سأبدأ ببعض التساؤلات؟
كلُّ الذي يعرفه غالبية العراقيين، بمن فيهم المثقفون والمهتمون بالشأن السياسي والتاريخي، هو أن عبد الكريم قاسم شنَّ حملة قمع ضد الشيوعيين بعد خطابه الشهير في كنيسة مار يوسف في 29 تموز 1959، في ردة فعل على أحداث كركوك المأساوية قبلها ببضعة أيام واتهمت بالمسؤولية عنها منظمة الحزب الشيوعي وأنصارها في تلك المدينة. ولستُ في معرض تبرئة الحزب أو قاسم وحكومته في تلك الفترة من الأخطاء والتجاوزات، وقد خصصت لها دراسة مطولة في عدة أجزاء نشرت قبل سنوات قليلة حول بعض تلك الأحداث ومنها أحداث كركوك والموصل، ولكن موضوعنا هنا هو سكوت الجميع – بمن فيهم قيادات الحزب الضحية – عن هذه المآسي الإنسانية وعمليات القمع الدموي في بدايات العهد الجمهوري وطمسها، وعدم إعادة الاعتبار رسميا لضحاياها، ولغيرهم من ضحايا أحداث التاريخ العراقي، فعلى حدِّ علمي لم يرد ذكر هذه الأرقام والوقائع في أي كتاب أو وثيقة سياسية أو تاريخية حزبية أو محايدة.
تأتي صدقية هذه المعلومات من كونها وردت في خطاب رسمي لزعيم الحزب في مؤتمر عام للحزب الشيوعي السوفيتي الثاني والعشرين، وليس من مصلحة الحزب المستهدف أو زعيمه أن يقدم معلومات خاطئة أو مبالغ فيها وهو الذي ينظر إليه كمنتصر ومسيطر على الوضع السياسي في العراق. ومما يزيد في صدقيتها أن محاولات عملية موصى بها من القيادة السوفيتية جرت لعزل سلام عادل وتقييد حركته وقيادته للحزب حتى انقلاب 8 شباط 1963 القومي البعثي، وقد قُتل هو شخصيا تحت التعذيب وبشكل وحشي وسادي بعد اعتقاله يوم 19 شباط 1963ومعه المئات وربما الآلاف من أعضاء وأصدقاء حزبه على أيدي الانقلابيين وحرسهم القومي الفاشي.
ترى، لماذا يتم طمس وتغييب هذه المعلومات المهمة حول مرحلة مفصلية وحاسمة من تاريخ العراق الحديث وتاريخ دولته إذا استثنينا كتاب السيدة يوسف؟ هل من مصلحة قيادة الحكم الجمهوري وعبد الكريم قاسم ورفاقه تحديدا هذا السكوت على هذه التجاوزات القمعية والإجرامية كعمليات الاغتيال والسجن والتشريد التي طالت المئات من العراقيين، سواء كانوا مسؤولين مباشرة عنها أو لم يكونوا؟ وحتى لو كان في السكوت مصلحة سياسية لهذا الطرف أو ذاك، فماذا عن الانحياز للحقيقة ولعذابات ومآسي أولئك الذين قتلوا او عذبوا في سنوات الحكم الجمهوري الأولى؟ هل يؤثر كشف هذه الحقائق على موقف التقدميين المؤيد للثورة التموزية وإنجازاتها وتضحيات من قاموا بها؟
إنَّ هذا المثال يؤكد بقوة ويقين أن تاريخنا السياسي العراقي المعاصر بحاجة إلى أكثر من عملية إعادة نظر وتدقيق وفحص جذري ومراجعة موضوعية ومحايدة لا تنحاز لغير الحقيقة وتعتمد منهجية الشك المنهجي بكل ما قيل وكتب حتى الآن لكيلا تترك هذه المهمة للأقلام المشبوهة والمعادية للثورة وللعراق الجمهوري المستقل والمتحرر من التبعية البريطانية والغربية عموما! هل سيبادر أولئك الذين يلتزمون الصمت المشبوه ويعتمدون سياسة النعامة فيرفضون أن يقولوا الحقيقة ويقاربوا الوقائع ويكشفوا ملفات ماضينا المأساوية بدءا من أول مجزرة في تاريخ العراق الحديث ومرورا بمجازر العهد الملكي فالجمهوري وصولا إلى مجزرة بشتآشان ومجازر التصفيات الطائفية بعد الاحتلال الأميركي وحتى اليوم؟
أدناه فقرات مما ورد في صورة الصفحة أعلاه وأعاد نشرها الصديق حمودي عبد الجبار في منشوره: “في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي الذي عقد في تشرين الأول عام 1961: وفي خطابه أمام المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، تحدث حسين أحمد الرضي ((سلام عادل)) عما كان يتعرض له حزبه، قائلا: “أحصي حتى الآن (269) شهيداً من الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين المخلصين. وقد اغتيلوا على أيدي العناصر الرجعية والإقطاعية وعصابات الإجرام التي تعمل بمعرفة الحكومة، وبأشراف بعض أجهزتها البوليسية، أو نتيجة إطلاق النار على المظاهرات السلمية من جانب قوات القمع الحكومية. كما أصدرت المجالس العرفية العسكرية أحكاما بالموت على (106) من المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين أبدل قسم منها الى السجن المؤبد، أو السجن عدة سنوات.
وقد نفذ حكم الإعدام بأربعة من الجنود الذين ساهموا بقمع مؤامرة الموصل. وطبقا لإحصاء أولي لم يشمل جميع الأحكام، أصدرت المجالس العرفية أحكاما بالسجن تجاوزت ( 4 آلاف سنة ) بينها أحكام بالسجن المؤبد. وبلغ عدد المعتقلين عام 1960 وحده، استنادا الى مصدر رسمي (22) ألف شخص. وتعرضت المنظمات والنقابات العمالية وجمعيات الفلاحين والمواطنين عموما إلى (7510) حوادث اعتداء، وقد اقترنت هذه الاعتداءات بتوقيف وإبعاد الآلاف من ضحاياها، وباستثناء من قتل نتيجة هذه الاعتداءات أصيب (1527) شخصا بجراح. وهجرت (2424) أسرة عائلة من محلات سكناها، وأحرق أو نهب الكثير من دور وأكواخ الفلاحين. كما جرى ولا يزال يجري انتهاك فظ للحركة الديمقراطية فيعتقل البارزون والقادة النقابيون ورجال حركة السلم والكتاب والصحفيون، وبعض قادة الأحزاب الوطنية، وأصحاب المطابع وتضطهد الحياة الحزبية، وتداس كرامة المواطنين، وتخرق القوانين، ويسود البلاد حكم عسكري فردي منذ 14 تموز 1958 حتى الآن”.
*المصدر: “سلام عادل – سيرة مناضل/الجزء الثاني تأليف: ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد – ص 118 ـ 119”.
أختم بالقول؛ مثلما سبق وأن دعوت في السنوات الماضية إلى إعادة دراسة وتفحص أحداث تاريخنا العراقي الحديث باتجاه إعادة الاعتبار إلى ضحاياه وفي مقدمتهم الملك الشهيد فيصل الثاني وأفراد عائلته الذين قتلوا صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، ولضحايا أحداث كركوك سنة 1959، وأحداث الموصل في آذار من السنة ذاتها وضحايا الاقتتال الداخلي في معسكر الثورة نفسها، وما عرف بانقلاب الشواف خلال الصراع السياسي على الحكم فإن الدعوة ماسة ومبررة الآن إلى أن تقوم الدولة العراقية – بعد أن تستعيد استقلالها وسيادتها وإنهاء نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الرجعي الفاسد – بواجب إعادة الاعتبار إلى ضحايا القمع الحكومي في بداية العهد الجمهوري الذين ورد ذكرهم في هذا الكتاب والقيام بكل ما يترتب على ذلك من إجراءات الإنصاف وتقديم الاحترام للضحايا والتعويضات لذويهم وكشف الحقائق بكل شفافية بعد تحقيقات معمقة حول تلك الأحداث المأساوية المؤسفة.
إن الشعوب التي تجهل ماضيها أو تطمسه وتهمل تضحيات أبنائها ونهاياتهم المأساوية لن تُفلِحَ في بناء حاضرها ومستقبلها! وهذا ما يقوله التاريخ.
*رابط لمشاهدة صور الوثيقة على صفحة الكاتب: