حكايا آل سحّاب: الموسيقى والغناء في فلسطين خلال مئة عام
لعل ما يحسب للمؤرخين والباحثين الفلسطينيين في العقود الأخيرة، هو انخراط قسم كبير منهم في مشاريع لجمع ذاكرة المدن الفلسطينية وحياتها اليومية. فالذاكرة تعد أحيانا بمثابة أداة من أدوات المقاومة، ومشروعا لا يقل أهمية عن المشاريع السياسية او العسكرية، ولذلك لا يمكن الحديث عن وجود مجتمعات وحياة دون تفاصيل صغيرة وسير وحكايا. كما أن ما يسجل لهؤلاء الباحثين أنهم تمكنوا خلال سنوات عملهم من تحقيق خبرة وتراكم معرفي مهم وجديد، يتناول تفاصيل مختلفة عن ذاكرة المجتمع الفلسطيني. ومن بين الكتب التي ترسم لنا صورة مهمة عن فلسطين وأهلها، الكتاب الذي شارك في إعداده الأخوة سحاب (إلياس وسليم وفكتور) بعنوان «الموسيقى والغناء في فلسطين قبل الـ1948 وبعدها». إذ يحاول الأخوة السحابيين في هذا الكتاب رواية سيرة المطربين الفلسطينيين والأغنية الفلسطينية في المئة سنة الأخيرة. وفي تقسيمهم للكتاب، حاول كل من إلياس وسليم سحاب تقسيم الحديث عن هذا العالم في مكانين: الأول يتتبع تفاصيلها في الريف الفلسطيني، والآخر يتطرق لتطورها في الحواضر الفلسطينية منذ بدايات القرن العشرين.
في الريف الفلسطيني، نعثر على شخصية الحداء أو الفنان الشعبي، الذي يطلقون عليه في لبنان اسم الزجال أو القوال. وإذا كان الزجالون في لبنان قد أخذوا منذ مدة يظهرون على شكل فرق منتظمة، قوام كل منها أربعة زجالين، يتبادل كل اثنين منهم المبارزات الشعرية أمام الجمهور، ففي فلسطين يطل الحدائون على الجمهور كل بمفرده. ويشترط في الحداء أن يكون ذا صوت رنان جهوري، قادرا على إيصال أغانيه إلى جمهور يحتشد في ساحات القرية أو بيادرها، ويجب أن يكون خاليا من العيوب الجسيمة والعاهات حتى لا يكون هدفا سهلا لمناظره، كما عليه أن يتمتع بمكانة خاصة في عشيرته، وهو في الغالب يعتبر لسان الجمهور وواعظه وباعث الحماسة فيه، وقد مثل دور المونولوجست والمهرج، فهو يروي النكات لجمهوره أثناء إلقاء الرواية، أو على هامشها.
وهناك إلى جانب الحداء نعثر على النواحة وهي امرأة تحترف البكاء وإلقاء أغاني النواح بلحن حزين وكذلك الرقص الانفعالي في حلقات الردح (مناسبة الوفاة) وهناك النساء اللواتي يعتمدن الزغاريد في الأعراس لتحية العريس، أو لتحية زعماء القرية من خلال وصفه بأنه لا يخشى الباشا أو الوالي أو حتى المندوب السامي البريطاني، وهو ما نراه في هذا المقطع (يا بي فلال ويا برج عالي ما هزوك.. ويا ضرب الطوب والمدفع ما هزوك.. وسبع باشاوات والوالي ما هزوك) وهناك في الريف أيضا أغاني الموالد الشعبية، ومن اللقطات الجميلة التي يلتفت لها الباحثون في هذا الكتاب ما يدعونها بـ»أغاني البنائين» عندما تضرب الضربة الأولى في حفر أسس البيت في المناطق الريفية يندفع الجميع إلى العمل والغناء (صلى الله عالزين الهادي ..ومعانا مدوا الإيادي) ثم يغني أصحاب البيت وهم يساعدون المعلم الذي يستعينون به في العقد النهائي للبيت (اعطوا المعلم عقاده/يا نار قلبون/ وقاده اعطوا المعلم ما طلب /اعطوه عكا مع حلب) وهناك أيضا أغاني خاصة بالصيادين في غزة، وعبرها ينشّطون أجسامهم في دفع القارب إلى عمق البحر ( واجى طولك على طولي بلا قيس وحق مين خلق الدنيا بلا قيس قلبي ما هو غيرك حدا) ، ولا ينسى الكتاب أغاني أو طقطوقات الباعة مثل بائع البوظة الذي ينادي على زبائنه ( دندرما بوظة بحليب/شغل يافا وتل أبيب) ومن أشهر أغاني بائعي التفاح «دوبو اجا دوبو راح /بياع التفاح/دوبو اجا على حارتنا/بياع التفاح /عينه على بنت جارتنا /بياع التفاح) وعن القهوجي تقول إحدى الأغاني (شفته بباب الدكان بايده الشيشة والفنجان/هذا فلان يا يما ما ريته بلاد الشام/ شفته بباب العلية بإيده البكرج والصينية /شفته على البلاكين بايده البكرج والفناجين هذا فلان يا يما ما ريته فلسطين).
الأغنية الحضرية
وبالانتقال إلى المدينة الفلسطينية في فترة ما قبل 48 يرى الإخوة سحاب أنه بالإمكان تقسيم تاريخ الموسيقى المحترفة في فلسطين إلى حقبتين واضحتين: ما قبل إنشاء إذاعتي القدس والشرق الأدنى، وما بعده. ففي بدايات القرن العشرين كان قطبا مدرسة القرن التاسع عشر في الغناء عبده الحامولي ومحمد عثمان، قد رحلا بعدما خلفا مع أبو خليل القباني ثروة من الأدوار والموشحات والقصائد، التي أخذت تتبارى في أدائها مجموعة من المطربين مثل الشيخ سوف المينلاوي وسيد الصفتي وأمين حسنين وزكي مراد وسلامة حجازي، ومن أشهر الموسيقيين العرب الذين مروا بفلسطين في ذلك الوقت، عازف الكمان توفيق الصباغ الحلبي الأصل وحاييم (يهودي حلبي) عازف الكمان وقد ساهما في تأسيس فرق موسيقية لحفظ الموسيقى العربية الكلاسيكية، ونعثر في فلسطين خلال هذه الفترة أيضا على أسماء مغنيات مثل خيزران البارعة في العزف على القانون وثريا قدورة وفروسو زهران وأمينة المعماري وجوليا السلطي، وحسن وحسين القرعان (يافا) وحمادة العفيفي من عائلات القدس، وواصف جوهرية الذي تعلم الموشحات على يد الموسيقي الحلبي عمر البطش.
وخلال الثلاثينيات والأربعينيات نشأت في فلسطين بؤر موسيقى جديدة مع الإرساليات التبشيرية، وبالأخص الإيطالية، وأهمها مدرسة تيرا سانتا، التي كما يذكر أحد تلامذتها، الفنان الفلسطيني رياض البندك، في مذكراته أنها كان تدرس تلاميذها الموسيقى الأوروبية ونظرياتها وفنون التدوين الموسيقي فيها، ما ساهم في تخريج وظهور أسماء فلسطينية مهمة لاحقا، مثل يوسف البتروني وفرح دخيل، لكن التطور الأهم في هذه الفترة تمثل في افتتاح وظهور الإذاعات في دول المشرق العربي، ما ساهم في تطور حركة الموسيقى العربية المعاصرة، إذ لم يمض عامان على إنشاء إذاعة القاهرة سنة 1934 حتى كانت الحكومة البريطانية في فلسطين قد أنشأت الإذاعة الفلسطينية، وكان أول رئيس للقسم العربي فيها الشاعر إبراهيم طوقان، ومما يرويه البندك في مذكراته أيضا، أن الضباط البريطانيين قاموا باستدعاء المطربة المصرية الكبيرة فتحية أحمد لتقديم وصلات غنائية على الهواء في إذاعة الشرق الأدنى في يافا، وكيف أن المدير البريطاني للإذاعة أراد استغلال شهرتها الفنية يومذاك لاجتذاب المستمعين إلى سماع نشرة الأخبار الرئيسية التي كانت تذاع في الواحدة والنصف ظهرا، ولما رفضت الغناء طلب إذاعة نشرة الأخبار قبل حفلاتها مباشرة من أجل اجتذاب الجمهور.
فترة الشتات والأغنية الفدائية
وبعد عام 1948 انتقل قسم كبير من المطربين والموسيقيين الفلسطينيين إلى دول المشرق العربي ليساهموا في الحركة الموسيقية في تلك البلدان، وقد انتقل إلى إذاعة بيروت كل من رياض البندك وحليم الرومي وإلى إذاعة بغداد روحي خماش، ومما يلاحظه فكتور سحاب في سياق تطور الأغنية الفلسطينية لاحقا أنه بعد نكسة 1967 أخذنا نعيش مرحلة جديدة في الغناء الفلسطيني، إذ انتشرت الأغنية الوطنية التي تحض، من خلال أشعار ابراهيم طوقان، على العمل الفدائي والنضال والجهاد في سبيل التحرير والعودة، حتى قيل إن وراء كل عملية فدائية أغنية فلسطينية، ومن أشهر الأغنيات الثورية التي ظهرت في تلك الحقبة: «كلاشينكوف» و»أنا صامد» وقد جاءت الحرب الأهلية في لبنان ومفاوضات أوسلو لتعزز من الأغنية الوطنية الفلسطينية في عملية الحشد للقضية، لكن الجديد في السنوات الأخيرة سيأتي هذه المرة من خلال موجة من أغاني الراب، التي أخذ يشارك فيها فنانون من كل أنحاء العالم، بدءا بفلسطين. ففي فرنسا ظهرت أغاني راب لمغنين فرنسيين مثل (كان يمكن أن أصدق) و(راجمو الحجارة) وفي الولايات المتحدة (موسيقى البندقية) لطالب كويلي، وغنى آخر ساخرا (انتظر فلسطين منذ خمسين عاما. الانتفاضة تطلب مكالمة العالم، لكن الهاتف مشغول) لتغدو الأغنية الفلسطينية، أو تلك التي تتحدث عنها بمثابة فعل بقاء في الأرض، يعرقل المشروع الاستيطاني، فللأغاني أيضا دور في الحفاظ على الذاكرة والحياة، وفي هذا الكتاب وسيرته عن حياة الموسيقيين الفلسطينيين ما يشكل لبنة مهمة في صناعة هذا التاريخ الغني والأصيل.
كاتب سوري