الكل يعرف التردي الذي وصل إليه حال العراق، فالمواطن يعاني على كل الأصعدة ، يعاني من سوء الخدمات، وتغول القوى المسلحة من ميليشيات وعشائر وعصابات جريمة منظمة، حتى باتت ظاهرة يتعايش معها العراقي، يضاف إلى ذلك الاستقرار السياسي الهش الذي يمكن أن ينهار في أي لحظة، وانسداد الأفق السياسي الذي انعكس على شكل أزمات حياتية يعيشها الشباب العراقي بشكل خاص، نتيجة شحة فرص العمل، وانعدام تنمية قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة في البلد، وتهتك البنى التحتية، وتحول العراق إلى دولة فاشلة بكل معاني الكلمة، ويعرف الجميع أن الاعتماد الأساس في هذا البلد على ريع النفط الذي يباع ويوزع على شكل مرتبات وهبات وسرقات تتقاسمها أحزاب وميليشيات وشخصيات العملية السياسية.
هذا الحال المزري، والتردي المستمر يعرفه المواطن العراقي حق المعرفة، لكن المضحك المبكي يتجلى عندما يخرج علينا رئيس مجلس الوزراء الموقر معلقا، أن العراق حقق المرتبة الأولى في النمو الاقتصادي في المنطقة، متجاوزا دولا مثل دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، ويرفع بوجه المشككين تقريرا لصندوق النقد الدولي وردت فيه هذه المعلومة، مع العلم إننا نقرأ في بداية التقرير المشار له الملاحظة التالية: «هذه المطبوعة هي نتاج عمل موظفي البنك الدولي مع إسهامات خارجية. ولا تشكل النتائج والتفسيرات والاستنتاجات الواردة فيها بالضرورة وجهات نظر البنك الدولي أو مجلس مديريه التنفيذيين، أو الحكومات التي يمثلونها. ولا يضمن البنك الدولي دقة البيانات الواردة في هذه المطبوعة».
وقد أكد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في احتفالية إطلاق الاستراتيجية الوطنية لتنمية الطفولة المبكرة في العراق يوم الخميس 26 أيار/مايو 2022: «أن العراق بات واحدا من أهم الدول في الشرق الأوسط في جانب النمو الاقتصادي». وأردف هذا التصريح الناري بقوله: «إن العراق نجح في تجاوز الكثير من التحديات، وفق القدرات والإمكانيات المتاحة لديه»، مشددا على «أهمية التعاون بين مؤسسات الدولة، والكتل السياسية وجميع أطراف المجتمع العراقي من أجل مواجهة التحديات كافة التي تواجه البلاد». وهنا أحب أن ألفت عناية دولة الرئيس إلى آخر تقارير منظمة الشفافية العالمية التي تحدد مستويات الفساد في مختلف دول العالم، إذ كان مكان العراق محجوزا في ذيل قائمة دول العالم مسجلا معدلات فساد وفشل حكومي لم يتجاوزه فيها إلا بعض الدول التي تعاني من الحروب والدمار كجنوب السودان واليمن وليبيا والصومال، إذ حل العراق وفق هذه الوثيقة الدولية الصادرة عام 2021 في المركز 157 من ضمن 180 دولة في العالم . وقد نشرت جريدة «الصباح العراقية» الرسمية الخبر مستبشرة بقولها؛ «أخيراً، أسفرت جهود العراق عن مغادرته قائمة الدول العشر الأكثر فساداً في مؤشر أصدرته منظمة الشفافية الدولية لعام 2021. وتقدم العراق درجتين على مؤشر مدركات الفساد، لتصبح 23 درجة من 100 في الترتيب 157 من أصل 180 دولة، ما يعني خروجه من تصنيف البلدان العشرة الأعلى فساداً بالعالم». قرة الأعين، خرجنا من تصنيف الدول العشر الاكثر فسادا في العالم.

العراق دولة فاشلة تعتمد على ريع النفط الذي يباع ويوزع على شكل مرتبات وهبات وسرقات تتقاسمها أحزاب وميليشيات وشخصيات العملية السياسية

ويبدو الامر مضحكا، أو مبكيا حقا عندما نستمع لرئيس وزراء دولة فاشلة كالعراق يقول: «إن الاستثمار يعني تشخيص التحديات، وتحويلها لاحقا إلى فرص نجاح، حتى لا نكون ضحايا الظروف والعوامل الصعبة، بل يجب أن نكون صناع أمل وحياة لأبنائنا وأحفادنا والأجيال المقبلة»، ثم يؤكد وبكل أريحية بقوله: «إن هذه الحكومة جاءت في ظروف صعبة ومعقدة لديها مهام محددة، وقامت بتأديتها وهي تأسيس انتخابات نزيهة وعادلة، ومع هذا أمسكنا بزمام المبادرة من أجل خلق ظروف اقتصادية وأمنية أفضل». وهنا لا بد لنا من الاستماع إلى رأي ذوي الاختصاص، في الفقاعة التي حصلت والتي روج لها مستشارو رئيس الوزراء على إنها نصر مبين، إذ شرح أستاذ الاقتصاد العراقي الدكتور عماد عبد اللطيف سالم الأمر ببساطة فقال: «أي شيء تنتجه وتبيعه ويزداد إنتاجه، أو ترتفع أسعار بيعه، سيرفع تلقائيّاً ذلك الذي يُسمّى في الاقتصاد بـ(معدل نمو الناتج)، أو (معدل النمو الاقتصادي)، غير أن الناتج في العراق هو النفط، لا شيء عدا النفط. أسعاره ارتفعت إلى ما فوق الـ100 دولار للبرميل، فارتفعّ في اقتصادنا المتهالك معدل النمو. ما هو الإنجاز في ذلك؟». ثم يعلق الخبير الاقتصادي ساخرا على ما حصل فيقول: «نحن حتى لم نرفع معدلات إنتاج النفط بما يكفي لنستفيد من هذه (الهبة الريعية) أو من بركات الحرب الروسية الأوكرانية»، ثم يكمل شارحا «حتى هذا النفط، نحن لا نتحكم به، لا إنتاجاً ولا تسعيرا، ولا عَرضا ولا طلَبا، الآخرون جعلوا سعره يرتفع، وليس نحنُ، ومع ذلك، ها نحن نهلل لأن (معدل النمو) قد يرتفع بسببه في ربوع العراق العظيم». ثم نسمع إشارة السيد الكاظمي للخطط الاستراتيجية في قطاع تنمية الطفولة والشباب التي قال عنها: «إن الحكومة العراقية، ورغم المشاكل والظروف كافة التي تواجه البلاد طوال العامين الماضيين، لم تغفل عن هذه الشريحة العمرية المهمة، لإيماننا التام بأن العراق سيعود وينهض من جديد على يد أبنائه»، ثم أضاف؛ «أن الفريق المختص في مكتب رئيس الوزراء صاغ الخطط اللازمة التي من شأنها أن تهيئ الظروف الملائمة، وتدعم وتعزز التنمية الشاملة للطفولة منذ الولادة». وكلام رئيس الوزراء لا يمكن أن يرد عليه إلا بمعلومات مدعومة بتقرير دولي، إذ كشف تقييم صدر عن وزارة التخطيط العراقية مؤخرا، بدعم من اليونيسيف والبنك الدولي ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، جاء فيه: «أن الأطفال واليافعين في العراق يواجهون أعلى زيادة في معدلات الفقر، حيث أن واحدا من بين كل خمسة أطفال ويافعين يقع في عداد الفقراء، قبل تفشي جائحة كورونا، لكن هذا الرقم قد تضاعف إلى أكثر من 2 من بين كل 5، أو ما يمثل حوالي 40% من العدد الكلي للأطفال بعد الجائحة وتأثيراتها الكارثية على الاقتصاد والمجتمع». وأضاف التقرير «أصبح انقطاع التعليم، وارتفاع معدلات سوء التغذية، والعنف، واقعا يواجهه أطفال الفقراء في العراق حاليا، فهناك طفل من بين كل اثنين أي 48.8% أكثر عرضة للمعاناة من الحرمان من الالتحاق بالمدارس، والحصول على مصادر المياه الصالحة للشرب. كما أن الأطفال واليافعين، الذين يشكلون أكثر من نصف السكان في العراق، هم الذين يرجح أن يتحملوا ثمن الفقر المتزايد، وانقطاع الخدمات، والضغوط الأسرية المتزايدة. فالحرمان والعمالة والتعنيف والاتجار بالبشر، ومخاطر الإدمان والتسرب المدرسي، والتشرد، والجفاف، والألغام، كلها أخطار محدقة بالطفولة في العراق».
وهنا لا بد من القول: عزيزي دولة رئيس الوزراء، ألم تسمع بالتصنيف العالمي للدول التي توفر أفضل نوعية للعيش الذي تعده شركة ميرسر الأمريكية؟ هذا المؤشر تترقب الحكومات والشركات الدولية نتائجه السنوية لتستخدمها في إدارة وتطوير شؤونها؟ ألم تعرف أن بغداد حجزت مكانها في قعر التصنيف العالمي كأسوأ مدينة للعيش في العالم، وعلى مدى سنوات كانت عاصمة العراق تحتل آخر مرتبة في التصنيف العالمي الذي يضم 230 مدينة نتيجة «التدهور الأمني، والنزاعات المسلحة، وسوء الخدمات وتدني مستوى المعيشة»؟ إذا كنت لم تسمع فتلك مصيبة، أما اذا سمعت بهذا التصنيف وصرحت تصريحاتك الأخيرة فالمصيبة أعظم.