وأخيرا… زيارة دولية لبحث الاختفاء القسري في العراق
ما أن يُعقد مؤتمر دولي لبحث انتهاكات حقوق الإنسان إلا وكان العراق على قائمة الدول التي يتعرض فيها المواطن لكافة أنواع الانتهاكات، بدرجات مختلفة. فمن استهداف الصحافيين إلى نقص الخدمات الأساسية والحرمان من حق الحياة. ومن الجوع إلى الفساد وتخريب البيئة. ومن الاعتقال والتعذيب إلى الاختطاف والاختفاء القسري. وها نحن على مشارف اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، لترتفع الأصوات دوليا، من جديد، مطالبة بالتقصي عن مصير المختفين، في أرجاء العالم ومن بينها العراق الذي، حسب «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» يوجد فيه واحد من أكبر أعداد الأشخاص المفقودين في العالم.
وتقدّر «اللجنة الدولية للمفقودين» أن العدد قد يتراوح بين 250 ألف ومليون شخص. ويؤكد مركز جنيف الدولي للعدالة أن العدد يقارب المليون. وتوثّق منظمة «هيومن رايتس ووتش» منذ عام 2016، عمليات الإخفاء القسري المستمرة على أيدي قوات الأمن العراقية، لتخلص في تقريرها الجديد لهذا العام بأن السلطات، في بغداد وإقليم كردستان، لم تفعل ما يكفي لمعاقبة الضباط والعناصر المتورطين في حالات الإختفاء، وفي كل حالة راجعتها المنظمة، لم ينجح أقارب ضحايا الإختفاء القسري في الحصول على معلومات من السلطات حول مكان المفقودين.
ليس تقرير المنظمة فريدا من نوعه. فاستمرار المضايقات التي يتعرض لها المدافعون عن حقوق الإنسان، وأقارب الضحايا، والشهود، والمحامون الذين يعنون بقضايا الاختفاء القسري؛ واستغلال الدول أنشطة مكافحة الإرهاب كذريعة لانتهاك التزاماتها؛ واستمرار مرتكبي أعمال الاختفاء القسري في الإفلات من العقاب على نطاق واسع، جزءا من ظاهرة عالمية، فبعدما كانت هذه الظاهرة في وقت مضى نتاج دكتاتوريات عسكرية أساساً، فإنه يستُخدم، حاليا، كاستراتيجية لبث الرعب داخل المجتمع، حسب منظمة الأمم المتحدة التي تبين أيضا الشعور بانعدام الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا يقتصر على أقارب المختفي، بل يصيب أيضا مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل.
وتتجلى خصوصية الوضع العراقي في جانبين هما أولا: ازدياد عدد الضحايا بشكل مستمر وعلى اختلاف الحقب الزمنية وثانيا: تجزئة القضية حسب الأجندة السياسية لتلك الحقبة. ففي حزيران/ يونيو 2020، أصدرت بعثة الأمم المتحدة بالعراق ( يونامي) تقريرا موثقا عن المفقودين بالعراق. كانت صورة الغلاف: لقطة ثابتة من مقطع فیدیو للمفوضیة العراقیة العلیا لحقوق الإنسان يظهر فيها أطفال من محافظة الأنبار یحملون صورا ووثائق ثبوتیة لأقارب مفقودین. وتكاد الصورة تتكرر في معظم التقارير الدولية، السابقة واللاحقة، مع تغيير بسيط. كأن يُستبدل الاطفال بمجموعة من النساء، يلتحفن السواد، وهن يرفعن صور أقارب مفقودين، أو تغيير عنوان التقرير لتتراوح العناوين بين مفقودين ومغيّبين ومختفين قسرا. ويبقى الوضع المأساوي، كما هو بلا تغيير، على مر السنين.
يتعرض المواطن في العراق لكافة أنواع الانتهاكات، بدرجات مختلفة. فمن استهداف الصحافيين إلى نقص الخدمات الأساسية والحرمان من حق الحياة. ومن الجوع إلى الفساد وتخريب البيئة. ومن الاعتقال والتعذيب إلى الاختطاف والاختفاء القسري
وتواصل العوائل، أو النساء في معظم الاحيان، لأن المغيبين هم غالبا من الرجال، ملء استمارات بيانات بالمفقود: عمره، شكله، تاريخ الاختفاء، مكان الاختفاء، تاريخ آخر مشاهدة، وظروف الاختفاء. ثم ينتظرن وضع حد لانتظارهن الذي، كما تشير شهادات العديد من النساءـ يمتد لسنوات، يبقين فيه معلقات بين الحياة والموت، بلا شهادة وفاة أو ما يمنح الأمل بالحياة.
وتصبح المأساة مضاعفة إذا كان الرجل هو معيل الأسرة. واذا إفترضنا أن عدد المفقودين هو نصف مليون، وليس مليونا، وبما أن معدل أفراد الاسرة العراقية هو (5.7) حسب نتائج المسح لعام 2021 الذي نفذه الجهاز المركزي للاحصاء بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، فهذا يعني أن اختفاء النصف مليون رجل يمتد سيؤثر على حياة ما يقارب الثلاثة ملايين شخص أُسريا وعاطفيا واقتصاديا.
يتبدى رد الفعل الحكومي ـ السياسي على المأساة الموثقة دوليا ومن قبل منظمات المجتمع المدني، بشكل يراوح ما بين الاقرار والانكار، وفقا لأجندة النظام السياسية وطائفية الأحزاب والميليشيات. فبينما يركز النظام على المُغيّبين والمفقودين في حقبة ما قبل الاحتلال عام 2003، ولا يذكر ضحايا سنوات الاحتلال، ينبري آخرون لتوثيق ضحايا داعش، وبينما تتبنى أحزاب ضحايا جريمة داعش في سبايكر منكّرة وجود ضحايا في المحافظات الغربية، يُهمل ضحايا الميليشيات والقوات الأمنية المحتمية بالإفلات من العقاب. وكان مصطفى الكاظمي، قد أعلن منذ توليه منصبه في مايو/أيار 2020، أن حكومته ستعمل على إنشاء آلية جديدة لتحديد مكان ضحايا الاختفاء القسري، متعهدا بالعمل بجدية لمتابعة ملف المفقودين في البلاد، إلا أن الوعود بقيت، كما هي، مجرد ألفاظ تلاشت مع سابقاتها. مما دفع اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري بالأمم المتحدة، وهي هيئة تتألّف من عدد من الخبراء المستقلين، وترصد أعمال الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري من جانب الدول الأطراف، إلى مطالبة الحكومة العراقية، وبضغط مستمر، على مدى سنوات، من منظمات حقوقية محلية ودولية، للسماح لها بزيارة العراق وتنظيم لقاءات مع أهل الضحايا ومنظمات المجتمع المدني والتجمعات والجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلة. وحصلت اللجنة على الموافقة، أخيرا، وستتم الزيارة في تشرين الثاني / نوفمبر 2022.
قد لا تكون هذه الزيارة الدواء السحري لمحنة الاختفاء القسري، إلا أنها خطوة إيجابية وبالاتجاه الصحيح، إذا ما نشطت منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والأوساط الأكاديمية من تقديم طلباتها للاجتماع باللجنة أثناء زيارتها وتوفير بيانات الضحايا. وبإمكان اللجنة، في حال تلقت معلومات تستند إلى أدلة صحيحة بأن ممارسة الاختفاء القسري جارية على نطاق واسع وبصورة منهجية، أن تعرض المسألة على الجمعية العامة. حيث ينص عمل اللجنة على أن الاختفاء القسري جريمة، إذا ما تمَّت ممارسته بطريقة «واسعة النطاق» أو «ممنهجة» فإنها قد ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.