الأساطير الحديثة وتأثيرها في المجتمع المعاصر
«لمن تلجأ عندما تقوم ابنتك المراهقة بشراء مواد إباحية أو غير أخلاقية تباع في كل مدينة وقرية ومحل لبيع الأسطوانات في البلاد وتجلبها إلى المنزل». كانت هذه الجملة الشاكية في رسالة عاجلة أرسلت إلى وزير العدل الأمريكي روبرت كندي، شقيق الرئيس الأمريكي جون كندي عام 1964 بسبب أغنية روك اند رول كانت قد انتشرت بين الشباب والمراهقين بشكل واسع.
ولم تكن هذه الرسالة الوحيدة حول هذا الأمر، بل كان هناك عدد هائل من الرسائل أرسل إلى وزارة العدل. وقد بدأت هذه الحادثة الغريبة عندما أخذت محلات الأسطوانات الأمريكية تبيع أغنية جديدة تدعى «لوي لوي» Louie Louie عام 1957 التي سرعان ما حازت نجاحا كبيرا. لكن اعتقادا غريبا انتشر بسرعة بين الناس مفاده، أن هذه الأغنية تحوي كلمات إباحية. وربما أثار هذه الاعتقاد حماس بعض المعجبين بالأغنية، إلا أنه أثار في الوقت نفسه حفيظة عدد كبير من العوائل الأمريكية التي احتجت بشدة لدى الحكومة الأمريكية ضد هذه الأغنية. وبالفعل، بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI تحقيقه بكل جدية حول صحة هذا الاعتقاد عام 1963، واستجوب موظفوه ملحن الأغنية وكل من كانت له علاقة بإنتاجها دون جدوى، حيث لم تكن هناك أي تلميحات إباحية. وقام مكتب التحقيقات كذلك بإرسال أسطوانة الأغنية إلى مختبر خاص تابع له، حيث استمع المهندسون المختصون إلى الأغنية بسرعات مختلفة علهم يعثرون على ما أثار حالة الذعر بين العوائل الأمريكية. وبعد كل هذا البحث والتحقيق أكد مكتب التحقيقات الفيدرالي في نيسان/ إبريل عام 1965 عدم وجود أي دليل يدعم فكرة العلاقة بين الأغنية والإباحية، وأن الإشاعة لا علاقة لها بالواقع.
تمثل هذه الحادثة نموذجا متطرفا لظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وجدت على مدى التاريخ، وفي جميع المجتمعات مهما بلغت درجة تقدمها العلمي، لكنها زادت في السنوات الأخيرة بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. ويسمي العلماء هذه الظاهرة «أسطورة المدينة» Urban Legend، وفي الواقع أن تسمية «الأسطورة الحديثة» تبدو مناسبة أكثر. وأهم صفات هذه الظاهرة ظهور قصة غير حقيقية ومجهولة المصدر تلعب على مشاعر الخوف لدى المواطن، وتكون موضوعا شيقا للحديث بين الأصدقاء أو المشاركين في ذلك الخوف، وتتميز باستحالة معرفة مصدرها وسرعة انتشارها بين الناس، حتى إن احتوت على عناصر خيالية تماما. وفي حالة هذه الأغنية نجد أن من أطلق الإشاعة (الأسطورة) مجهول تماما، لكن طالما أن كل والد ووالدة في قلق دائم على الأطفال، فقد جعل هذا تصديق هذه الأسطورة سهلا من قبلهم دون التحقق من صدقها. وعلى الرغم من كون بعض هذه الأساطير ذات أهداف لا تتجاوز إثارة الدهشة، فالكثير منها ذو أهداف خبيثة، ما يثير تساؤلات حول مصادرها وناقليها وكيفية انتشارها.
ليست ظاهرة الأساطير التي يتناقلها الناس على أساس أنها حقيقة لا تقبل الجدال نادرة، بل بالغة الانتشار حيث تظهر العشرات منها كل يوم، إلا أن أغلبيتها تختفي سريعا تاركة القليل الذي ينتشر بسرعة، إذا كانت ترضي مشاعر البعض أو تخدم مصالحهم. والغريب في الأمر أن مصدر القصة مجهول دائما، وعادة ما يقول المتكلم إنها حادثة وقعت لصديق لصديقه، وكان أحد الذين عرفتهم شخصيا ومغرم بهذه الأساطير يحاول إعطاءها ثقلا بقوله إنه سمعها من زوج ابنة خالته، الذي توفي رحمه الله. وتكون هذه الأساطير موضوعا شيقا في أي لقاء بين الأصدقاء، حيث يشعر قائلها بالفخر والأهمية لكشفه عن حقيقة مزعومة ومثيرة تجعل كل من حوله ينصت إليه باهتمام كبير. مما يزيد من الأمر غرابة أن بعض هذه الأساطير تعود إلى الواجهة بين الحين والآخر، ما يعطي الانطباع بأن هنالك من يتقصد ذلك. ومما يساعد على الانتشار السريع لهذه الظاهرة وجود وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت كل أسطورة سخيفة تنتقل بسرعة مثيرة للدهشة في مختلف أنحاء العالم.
هنالك أمثلة شهيرة لهذه الأساطير ومن الممكن تقسيمها إلى عدة أنواع، فهناك النوع الذي يثير هلعا عالميا ونجاحا تجاريا متميزا مثل، أسطورة «مثلث برمودا» التي برزت في سبعينيات القرن الماضي وأثارت ضجة عالمية، حيث ذكرت وسائل الإعلام المحترمة وغيرها، أن عددا غير عادي من الطائرات والسفن يختفي في منطقة في المحيط الأطلسي قريبة من ساحل ولاية فلوريدا الأمريكية. وكانت هذه الأسطورة موضوعا محببا لوسائل الأعلام وحديثا رئيسيا للكثيرين من الناس. وكتبت عنها العشرات من المقالات والكتب المؤيدة من قبل كل من أراد أن يكون مشهورا، عن طريق تأكيد هذه الأسطورة حتى إن عشرين فيلما سينمائيا أنتج عنها مثّل فيها بعض مشاهير الممثلين مثل فريد ماكموري في فيلم «ما وراء مثلث برمودا» وكيم نوفاك في فيلم «مثلث الشيطان» وجون هيوستن في فيلم «مثلث برمودا» ما يدل على أن هذه الأسطورة أصبحت مصدرا عظيما للمال والشهرة.
هنالك خرافات ذات أهداف تجارية بحتة تستمر في الظهور بلا هوادة، مثل أسطورة وجود وحش في بحيرة نيس الأسكتلندية، التي ترفض ان تختفي لأن هناك من يعيدها لتشجيع السياحة في تلك المنطقة، حتى إن أحدهم اختلق صورة فوتوغرافية لذلك الوحش أثارت سخرية خبراء التصوير.
وتعددت التعليلات الخرافية للحوادث المزعومة في مثلث برمودا، مثل وجود مدينة أتلانتيس الخيالية في المنطقة، أو مخلوقات من الفضاء الخارجي. واستمر الاهتمام بهذه الأسطورة لثلاثة عقود ولم يخمد سوى في السنوات الأخيرة. وإحدى أشهر الأساطير الحديثة عن الأطباق الطائرة، والذين يقسمون بأنهم شاهدوها حتى ادعى البعض أنهم خطفوا من قبل مخلوقات فضائية على متنها. وقام أحدهم بإلقاء محاضرات حول تجربته كرهينة لدى هؤلاء الأجانب الفضائيين لعدة سنوات في بعض الجامعات الأمريكية.
هنالك خرافات ذات أهداف تجارية بحتة تستمر في الظهور بلا هوادة، مثل أسطورة وجود وحش في بحيرة نيس الأسكتلندية، التي ترفض ان تختفي لأن هناك من يعيدها لتشجيع السياحة في تلك المنطقة، حتى إن أحدهم اختلق صورة فوتوغرافية لذلك الوحش أثارت سخرية خبراء التصوير. والغريب في الأمر أن الأسطورة عن وحش واحد لا غير طوال هذه العقود، وكأن هذا الوحش لا يموت. وقد أكد العلماء استحالة وجوده، لكن الأسطورة، مثل الوحش، ترفض أن تموت. ويقع في هذا التصنيف كذلك أسطورة رائجة في بعض المسارح الغربية عن وجود شبح فيها. وليست هذه الأسطورة جديدة، إذ كانت موجودة في القرن التاسع عشر لكنها ما تزال حية. ونشرت رواية شهيرة عنها عام 1909 في فرنسا، ثم تحولت إلى مسرحية غنائية شهيرة في بريطانيا. وبذلك يكون الشبح سببا إضافيا لرواد المسرح لزيارة المسرح. وللأشباح والأرواح حيزا كبيرا في هذه الأساطير، فبالإضافة إلى ادعاءات وجود منازل مسكونة بالأشباح في الغرب، هنالك أسطورة شهيرة مفادها أن أحدهم شاهد شخصا في مكان ناء وعرض عليه توصيله إلى المنزل. وعندما أوصله إلى المنزل عرض عليه الراكب أن يقضي الليلة في المنزل لتأخر الوقت، ووافق السائق بعد تردد، لكن السائق استيقظ في الصباح التالي ليجد نفسه وحيدا في منزل ضخم قديم ومهجور تماما ليكتشف بعد ذلك أن سكان المنزل قد توفوا منذ سنوات طويلة، وأن أحدهم كان الرجل (بعض نسخ الأسطورة تذكر امرأة) الذي أوصله في الليلة السابقة.
تعتمد بعض أشهر الأساطير الأكثر شيوعا وتصديقا على مشاعر الحذر من خطر محتمل، مثل أسطورة الرجل الذي يسافر إلى مدينة لاس فيغاس الأمريكية لأداء مهمة هناك. وبعد الانتهاء من هذه المهمة يذهب إلى إحدى حانات المدينة في الليل ويتناول مشروبا كحوليا، وإذا به يجد نفسه في حوض حمام ممتلئ بالثلج في شقة مجهولة، ويجد إلى جانبه ورقة تقول إن كليته قد سرقت وعليه الاتصال بالإسعاف فورا، وإلا فإنه سيموت لا محالة، حيث أن المشروب الكحولي الذي تناوله الليلة الماضية كان ممزوجا بمخدر قوي من قبل عصابة خطيرة مختصة بسرقة الكلي لبيعها في السوق السوداء.
تعتمد بعض أشهر الأساطير الأكثر شيوعا وتصديقا على مشاعر الحذر من خطر محتمل، مثل أسطورة الرجل الذي يسافر إلى مدينة لاس فيغاس الأمريكية لأداء مهمة هناك.
وتستحق هذه الأسطورة بالذات بعض الاهتمام الخاص بسبب انتشارها غير العادي، وأن الكثيرين صدقوها تماما، حتى إن شرطة مدينة «نيوأورلينز» الأمريكية فتحت تحقيقا جنائيا حول الأمر عام 1997 دون أن يعثر على أي دليل عن جريمة من هذا النوع. وتناولت السينما الأمريكية هذه الأسطورة وكذلك مسلسل «القانون والنظام» Law and Order التلفزيوني الذي خصص حلقة كاملة عنها، على الرغم من افتخار القائمين على ذلك المسلسل باعتمادهم على قصص حقيقية. واتخذت هذه الأسطورة شكلا دوليا حيث انتشرت أيضا في جمهورية غواتيمالا، ما أدى إلى تعرض بعض الأجانب إلى الاعتداء وحتى القتل في ذلك البلد على يد مجموعات من المحليين، الذين اعتقدوا أن هؤلاء الأجانب في الحقيقة أعضاء لعصابة خطيرة متخفين كسياح أمريكيين، وهدفهم العثور على ضحايا محليين لسرقة أعضائهم. ومن الأساطير الأخرى الشهيرة أسطورة «الرجل النحيل» Slender Man التي انتشرت في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وتدور حول رجل أبيض نحيل وأنيق المظهر يتجول في الغابات لخطف الأطفال، وقالت نسخ أخرى لهذه الأسطورة إنه يتجول كذلك في الشوارع المظلمة للأحياء السكنية، وما أن يشاهده الأطفال حتى يتبعونه إلى جهة مجهولة. وزاد من جدية الموقف إبلاغ البعض للشرطة البريطانية مؤكدين مشاهدتهم لهذا الرجل الخيالي. ولعل هذه الأسطورة مأخوذة من قصة خيالية قديمة ظهرت في ألمانيا في العصور الوسطى عن رجل ذي ملابس غريبة يختطف الأطفال عن طريق عزفه لناي سحري يجعلهم يتبعونه، وقام بعض مشاهير الأدباء الألمان في القرن التاسع عشر بالكتابة عنها. وتثير هذه القصة خوف الآباء الطبيعي على أطفالهم، كما أنها قصة مفيدة لجعل الأطفال أكثر حذرا.
لم يخلُ العالم الأكاديمي من هذه الأساطير، وقد تكون أشهرها نظرية تنسب إلى عالم النفس الأمريكي الشهير ستانلي ملغرام Stanley Milgram ومفادها أن بين كل شخصين في العالم ستة أشخاص أو أقل، أي أن أي شخص في العالم يعرف شخصا الذي يعرف شخصا آخر وهكذا حتى يوصله إلى الشخص المنشود. وتعتبر هذه الأسطورة الأكثر انتشارا في لقاءات المثقفين أو مدعي الثقافة، لكن مراجعة دقيقة لتفاصيل البحث الذي قام به ذلك العالم المعروف لا تثبت ذلك، بل تنفيه تماما، ومع ذلك ما تزال هذه النظرية أحد أكثر المواضيع إثارة للأعجاب.
انتشر الكثير من الأساطير الحديثة حول السياسيين تشويها أو تلميعا لسمعتهم. وقد تكون أشهر هذه الأساطير الحديثة ما قيل حول أسباب وفاة الممثلة الأمريكية الشهيرة مارلين مونرو، حيث يعتقد الكثيرون أنها قتلت على يد الحكومة الأمريكية، بناء على أوامر من الرئيس الأمريكي جون كندي. وكالعادة لا أحد يعرف أول من ذكر هذه الأسطورة، لكنها وجدت جمهورا واسعا اعتنقها وكأنها حقيقة ثابتة، على الرغم من عدم وجود أي دليل يدعم هذه الفرضية، ولم يحدد السبب الذي يجعل الحكومة الأمريكية تقوم بذلك، وعلى المنوال نفسه، هناك أسطورة حديثة أخرى مفادها أن القاتل المتسلسل البريطاني الشهير جاك السفاح كان أحد أفراد العائلة المالكة البريطانية، وتكون هذه الأساطير مادة دسمة لمؤلفي الكتب وصانعي الأفلام السينمائية.
لا يمكن حصر الأساطير المتداولة بين الناس بكثافة على أساس أنها أحداث تاريخية حقيقية، ومن الممكن تحليل شخصية وأفكار ذلك الشخص الذي يصدرها أو ينقلها لأنها تخدم أفكاره أو مصالحه. ومن الممكن كذلك دراسة طبيعة المجتمع حسب الأساطير التي تتداول بين أفراده، ولا نعرف كم من هذه الأساطير وجدت طريقها إلى صفحات الصحف المحترمة وكتب التاريخ، لتتحول إلى أحداث حقيقية يعتبرها الكثيرون مراجع تاريخية وتنسب إلى أبطال وهميين أو تضاف إلى أمجاد أشخاص حقيقيين ظهروا في التاريخ.
باحث ومؤرخ من العراق