كلاويش والحساسية الثقافية
عبد الحسين شعبان
شهدت مدينة السليمانية الكردية (مدينة الثقافة والجمال) تظاهرة ثقافية بامتياز شارك فيها نحو 100 مثقف كردي وباستضافة متميّزة لعدد من مثقّفي العراق (العرب)، فضلاً عن عدد من المثقفين من المجموعات الثقافية الأخرى، وكان بعض الضيوف من البلدان العربية. وحضر جلسة الافتتاح نحو 1500 شخص من قطاعات مختلفة، حيث عرفت السليمانية منذ تأسيسها (1784) باعتبارها مركزاً لكبار الشعراء والكتاب والمؤرخين والعلماء والمغنين. وفيها ينتصب اليوم تمثال الشاعر كوران (المولود في حلبجة) والشاعر شيركو بيكه س (المولود في السليمانية)، وتمثال الأديبين عز الدين رسول ومحمد الملّا عبد الكريم. كما تحتضن المدينة تمثال شاعر العرب الأكبر الجواهري.
يمكنني القول أن مهرجان كلاويش بذاته وباستمراريته يحمل أكثر من دلالة:
أولها – أنه يأتي بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيس مركز ثقافي باسم كلاويش (وهو اسم لمجلة كان الراحل ابراهيم أحمد الشخصية القيادية والأديب الكردي المعروف قد أصدرها في القرن الماضي (1939 – 1949).
وثانيها – أن المركز المعمّر نسبياً يعتبر من أوائل المراكز التي انشغلت بالثقافة والفكر والأدب والفن بشكل عام، وذلك بإتاحة فرصة مهمة للحوار وتبادل الرأي واستمزاج وجهات النظر والتطلّع إلى ما هو جديد وحداثي، خصوصاً إزاء إشكاليات ومشكلات الثقافة والمثقفين.
وثالثها – أن المركز وضع مسافة بالتدرّج بين ما هو سياسي وبين ما هو ثقافي، وانحاز شيئاً فشيئاً إلى الثقافة والتواصل الحضاري والمشترك الإنساني، و هو حين يناقش بعض الموضوعات التي على تماس مع السياسة فإنه يتعامل معها من موقع ثقافي، أي أنه حاول تعزيز البعد الثقافي لأنه أدرك أن السياسة تفرّق في حين أن الثقافة توحّد وتجمع.
ورابعها – لم ينشغل المركز بالهموم الكردية الخاصة ، بل انفتح على الهويّة الكردية بعامة ، وخصوصاً العلاقات مع شعوب البلدان التي يعيش فيها الكرد، وكانت حصة الثقافة العربية كبيرة من اهتمام المركز، إضافة إلى هموم شعوب إيران وتركيا وثقافتهما كجزء من التفاعل بين الثقافات، وهو ما جعل من منبره منصّةً لحوار ثقافي معرفي هادف بين مثقّفي الأمم الأربعة كرد، ترك، فرس وعرب خارج دوائر السياسة وتشابكاتها وتعقيداتها، وهي دعوة سبق أن انعقدت عليها ندوات ومؤتمرات في تونس وبيروت، وكان للأمير الحسن بن طلال دوراً مهماً في حوار نظّمه في إطار منتدى الفكر العربي (عمان) أطلق عليه “أعمدة الأمم الأربعة“. ومثل هذه الحوارات الثقافية والفكرية الغنية بحاجة إلى تواصل وتفاعل ومأسسة لكي تكون مظلّةً لتعاون وتبادل وانفتاح ثقافي.
وخامسها – أن النواة الأساسية في هذا الحوار الأممي – الثقافي، هي حوار عربي – كردي، فقد كرّس المركز مناظرةً بين شخصية كردية مرموقة ومؤسسة للمركز ومشرفة عليه (الملّا بختيار) وكاتب السطور، وذلك في دورة سابقة، وتحت عنوان “ماذا يريد الكرد من العرب وماذا يريد العرب من الكرد؟” والأمر لا يتعلّق بالسياسة والعُقد التاريخية والاحترابات بين الحكومات العراقية المتعاقبة والحركات الكردية، وإنما يركّز على شؤون الثقافة وواحاتها الرحبة، أدباً وفناً وفكراً، فهي المشترك الإنساني الجامع، وهذا الأخير بحاجة إلى أفق مستقبلي، لاسيّما إذا اتخذ بعداً مؤسسياً يساهم فيه المثقفون الكرد والعرب في رفد المؤسسة بكل ما هو جديد، فضلاً عن ترجمة الأعمال الابداعية لنشر ثقافة كل منهما لدى الآخر والبحث في بطون التاريخ عمّا هو مشترك لدعم الحاضر والمستقبل في إطار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
وسادسها – استقطاب نخبة متميّزة من المثقفين الكرد، وقدّر لي خلال أيام المهرجان الأربعة أن أستمع إلى 6 أبحاث جيدة تعكس عقلاً نقدياً معرفياً حداثياً لمشكلات معاصرة، وذلك عبر ترجمة ممتازة استمعت إليها وكأن المترجم كان يقرأ في ورقة بلغة عربية سليمة، في حين كان المحاضرون قد تناوبوا على المنصة وهم يقدمون خلاصات أبحاثهم بصورة شفاهية.
وسابعها – ان الدورة الراهنة خصّصت مساحة خاصة لثقافة اللّاعنف وفلسفته، وخصوصاً أن الكرد عانوا من العنف تاريخياً، بل تعرّضوا لحرب إبادة في عمليات الأنفال، وما حصل في حلبجة شاهد حي على القسوة والوحشية، ولذلك فهم أكثر حاجة إلى اللّاعنف ونشر ثقافة السلام والتسامح والإخاء. وقد خصّص المهرجان جلسة خاصة لمناقشة أسئلة العنف واللّاعنف بمنظورها السوسيوثقافي باهتمام كبير ومشاركة واسعة، لعلّها هي الأكثر حيوية في سلسلة محاضرات ألقيتها حول مفهوم اللّاعنف في العديد من البلدان العربية.
وثامنها – أن الاحتفال بالذكرى اﻟ 25 وإن كان كردياً، لكن الكرد لم ينسوا أصدقائهم، فقد كان الشاعر مظفر النواب حاضراً في جلسة الافتتاح، حيث شكّل رحيله حزناً عميقاً، علماً بأن دورة المؤتمر ما قبل كورونا خصّصت لتكريمه ، كما أن اغتيال شيرين أبو عاقلة الصحافية الفلسطينية كان مثار اهتمام وتضامن كردي ومن الحاضرين. وهو ما يؤكّد الأخوة العربية – الكردية بأبهى صورها وأرقى تجلياتها في إطار حساسية ثقافية إيجابية.