مظفّر النوّاب وجدار بريخت
عبد الحسين شعبان
أديب وكاتب
نقطة في العشق تكفي
فلا تكثر عليك الحبر والأوراق
على سبيل الاستهلال
خارج دوائر الاستغلال السياسي والاستثمار المصلحي والتزاحم الرسمي والشعبي في وداع مظفّر النواب، وبعيداً عن الأخذ والرد، سواءً التزلّف والتهافت أو الجحود والتنكّر، فإن ظاهرةً مثل مظفر النواب جديرة بالتأمّل والدراسة والنقد، وذلك لأهميتها وجدارتها، فضلاً عن جدّتها وتفرّدها، وهكذا اكتشف الجيل الجديد مظفر النواب الذي لم يعيشوا عهده، مثلما كان رحيله إعادة اكتشاف جديد للشاعر لمجايليه ولما بعده، وهو الذي شغل العالم العربي لأكثر من خمسة عقود من الزمن، وكان أقرب إلى مجس أو بارومتر لقياس درجة حرارة الجو السياسي حتى وإن كان يكتب قصائد البنفسج والريل وحمد ويا ريحان وحن وآنه حن ووترياته الليلية، وهكذا كان العشاق يقيسون بقصائده نبض القلوب مدركين أن غزله المعجون بالحزن وحرقة الغياب وألم الفراق، مرهماً يداوي الجراح وترياقاً يشفي العليل.
شاعر التجديد والحواس المتأهبة
بقدر ما كان مظفّر النواب منشغلاً بالهم العام، فقد كان معنياً بالجمال والحب والعشق والوجد والصبابة، بل أن كلّ شيء فيه كان تعبيراً عن ذلك الشوق الغامض الذي يتوق فيه إلى التواصل ويسعى إلى التفاعل، لأنه شاعر الحواس المتأهبة واللغة المتوهّجة والحركة المتدفّقة، فحتى نقاطه وفوارزه وسكونه كانت تحكي وتطلق أصواتاً موحيةً وآسرةً متفاعلةً ومنفعلةً، فلم يكن مظفر شاعراً حسب، بل كان حالة شعر تصاعدت في قصيدة شعبية جديدة لم يألفها الأدب العراقي قبله، بما اختزنت من صور وإيحاءات وفكر وحنين وجمال، امتدّت من الحاج زاير (النجف 1860 – 1919) وملّا عبود الكرخي ( الكرخ – بغداد 1861 – 1946) وصولاً إلى مظفر النواب الذي بنى مدرسةً رائدةً هندسها بالتجريب والتراكم الطويل الأمد، حتى أضحت واحةً وارفةً مزدهرةً. وسار في هذا الدرب من بعده شعراء عديدون مثل شاكر السماوي وعزيز السماوي وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف وطارق ياسين وموفّق محمد وكاظم غيلان وفالح حسون الدراجي ورياض النعماني وجمعة الحلفي وغيرهم، وإن كان لكل منهم أسلوبه ولونه.
وإذا كان الشعر الكلاسيكي منبرياً ويُقرأ بصوت عال وأمام الجمهور بما يعبّر عن بلاغة وجزالة وفخامة وأصوات وقواف وأوزان، فإن الشعر الحديث وقصيدة النثر يقرأ بتأمل وخشوع في نوع من التماهي البانورامي، خصوصاً بما يمنحه من أحاسيس ومشاعر وألوان وصور.
والشعر عندي رؤية ولغة وجمال وافتتان وفلسفة وأفق بلا حدود، وكان عند الإغريق أن الجمال مرادف للوجود، والجماليات عند الشاعر هايدغر هو ما أولته الفلسفة من اهتمام بالشعر، خصوصاً خلال ما يزيد عن قرنين من الزمن، حين حاول كانط أن يُسكنه في ما أطلق عليه مفهوم الجماليات والاستيتيقا، وهكذا نشأ الأساس لما عرف بعلم الجمال، في حين أن هايدغر حينما يتحدث عن الشعر لا يسعى قط إلى تجديد علم الجمال وإنما لإثبات العلاقة بالجميل، ولا يمكن أن توصف هذه العلاقة بأنها جمالية، إلّا من وجهة النظر الذاتية، كما لا يمكن اختزال الشعر باللغة. وحسبما يقول أدونيس “لا يمكن وضع تعريفات نهائية للشعر، إنه يفلت من كلّ تحديد، ذلك أنه ليس شيئاً ثابتاً وإنما حركة مستمرة من الإبداع المستمر… يجيء من أفق لا ينتهي ويتّجه إلى أفق لا ينتهي. ذلك أنه لا يجيء من معلوم مسبق، إنما يجيء من مجهول لا ينكشف بشكل نهائي، لأنه حاجة دائمة إلى الكشف” (أدونيس – الثابت والمتحوّل، دار الساقي، بيروت، 2006 / أربعة أجزاء، ج 4، ص 246).
الصوت والصورة
جمع مظفّر النوّاب بين الصوت والصورة بحيث لا يمكنك أن تتخيّل أصوات مظفر النواب دون صور معبّرة وموحية، ، فقد تمكن من إعطاء الصورة صوتاً، مثلما أعطى للصوت صورة، وعلى الرغم من كونه شاعراً منبرياً واعتاد الوقوف طويلاً أمام الجمهور، إلّا أن منبريته لم تكن دعووية وتبشيرية ودعائية، بقدر ما كانت تساؤلية عقلية نقدية، ومثلما فيها اقتحامية وتدافع لكي تأخذ مكانها خارج المألوف، فقد كانت الأكثر رنيناً وموسيقيةً وإيحاءً وبوحاً، وبقدر ما كان الصوت عالياً، إلّا أنه كان شفيفاً لأنه صادر من القلب وباحث عن الحقيقة، وأية حقيقة في الشعر فتلك حقيقة مجسّمة.
تقاسم الجمهور مع أبو كاطع
اجتمعت في مظفّر النواب قدرة هائلة في اجتذاب الجمهور، بل استقطاب جموع غفيرة من شتّى الألوان والأجناس والأجيال والاتجاهات، فيهم أصدقاء وأعداء وأصحاب وخصوم، وهو بهذا يتقاسم الجمهور مع الروائي أبو كاطع (شمران الياسري)، وقد امتلك كل منهما قدرة في تحريك الراكد وخلخلة الساكن واستنطاق الجامد. إنها قدرة هائلة على التعبئة والتحريض وامتلاك فنون التأثير بالقوة الناعمة التي تدخل القلوب قبل العقول، فما بالك حين يقترب القلب من العقل.
وفي كتابي الموسوم “أبو كاطع : على ضفاف السخرية الحزينة” (الصادر في لندن عام 1998، وطبعة ثانية، دار الفارابي، بيروت، 2017 ) أهديته إلى مظفر النواب مع مقطع شعري من قصيدة “المساورة أمام الباب الثاني“:
في طريق الليل
ضاع الحادث الثاني
و ضاعت زهرة الصبار
لا تسل عنّي لماذا
جنّتي في النار
فالهوي أسرار
***
كل ما في الكون مقدار وأيام له |
إلا الهوى |
ما يومه يوم…ولا مقداره مقدار |
عبر الحركة وقوة الإلقاء والتأثير استطاع مظفّر النواب، على مدى يزيد عن خمسة عقود من الزمن، امتلاك قلوب الجمهور نساءً ورجالاً، عرباً وكرداً ومن كل المجموعات الثقافية، محكومين وحكّام، حتّى وإن قرّع الأخيرين، إلّا أنهم كانوا يتقرّبون منه، ضحايا وبيروقراطيين، مثقّفين وعامة، يساريين ويمينيين، وقد يكون تمكّن من ذلك لاعتبارات رمزية اجتمعت في شخصه منها شجاعته وزهده وسموّ أخلاقه وانسجامه مع نفسه، فقد كان يربط القول بالفعل، إضافة إلى إبداعه وتميّزه، وهو ما أكسبه شهرةً سياسيةً امتزجت بالمخيال الشعبي، من خلال أسطورة حفره نفق في سجن الحلّة (1967) للهروب منه بعد الحكم عليه بالإعدام ثم تخفيضه إلى المؤبد وقضاء عدّة سنوات في سجن نقرة السلمان الصحراوي، ناهيك عن صوره الحسيّة وما في صوته من حسّية أيضاً، وما في روحه من حسيّة وما في عينيه الواسعتين من حسيّة، ولعلّ تلك الرمزية الحسيّة هي ما كان يبحث عنه المواطن العربي في كلّ مكان الذي كان مظفر يعبّر عنه وينطق باسمه ويشاركه أحزانه ويشاطره أحلامه.
مظفّر النّواب وفيورباخ
يمكن القول أن مظفّر النواب كان حسيّاً بامتياز، بل فيورباخياً (نسبةً إلى الفيلسوف الألماني الأنثروبولوجي لودفيغ فيورباخ الذي تأثّر به ماركس وإنجلز وفاغنر ونيتشه)، والمفكّر الحسّي يفرّق بين الحقيقة الحسيّة والحقيقة الفكرية. كل ّذلك يمكن تلمّسه والشعور به منذ أول وهلة وأنت تقابل مظفر، وظلّ هذا الإحساس يراودني حين كنت أقرأ قصائد مظفّر الأولى: للريل وحمد ويا ريحان…إلخ، وزاد إلى درجة كبيرة حين تعرّفت عليه قبل خمسة عقود ونيّف من الزمن في بغداد وفيما بعد في براغ والشام وتعدّدت المدن والأماكن واللقاءات، وتنوّعت وتوسعّت واكتسبت علاقتنا عمقاً كبيراً، وكم من مرّة وجّهت له الدعوة للحصول على الفيزة بجواز سفره اللّيبي الموسوم “أحمد سليمان التائب”. وحصل عليه بعد أن تعرّض إلى حادث قد يكون مدبّراً في اليونان، علماً بأنه رفض عروضاً كثيرة بهذا الخصوص، وكان يتمتع بكبرياء وعزّة نفس وإباء لا حدود لها.
وحسيّاً فإن أوّل الصور التأثيرية تنتقل عبر الصوت، أي من اللسان (الفم) وهكذا تصل إلى الأذن، وهي المحطّة الأولى، وتقوم هذه بدورها بتحويلها سريعاً إلى المخ (الدماغ)، وهذا الأخير يرسلها إلى القلب، والقلب يقوم بفرزها حسيّاً بالحب أو الكره، بالإيجاب أو السلب، بالتأييد أو التنديد، بالاستجابة أو الرفض، وهكذا.
الصورة موسيقى أيضاً
يتحوّل صوت مظفّر حسيّاً إلى صور متحرّكة، وهي صور جاذبة مصحوبة بموسيقى وإيقاعات، وبقدر ما تكون الألوان ساخنة فهي تمتلك قدرة على إيقاع المتلقّي في شركها، فيستجيب لها تأثراً بأحزانه وهمومه ومعاناته وأحياناً يلعب معه مظفر النواب فيدعوه إلى فضاء من السخرية لرسم صور كاريكاتورية لشخصيات وحالات وظواهر وهو ضحك كالبكاء على حد قول الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي.
مسرحة الشعر
وبين الضحك والبكاء وما بينهما يأخذ مظفر النواب المتلقي إلى عوالم خاصة مصحوبة بالإحساس ليعيش لحظة الإندغام والإندماج والتفاعل والتداخل والتراكب، لدرجة يشعر المتلّقى أنه جزء من المشهد، بل يشارك فيه حسب نظرية برتولد بريخت. وحاول مظفر النواب أن يمسرح الشعر بطريقة إلقائه واستخدامه خشبة المسرح للتمثيل عبر نصه الشعري وملحمته السردية وإثارته وصوته الذي يستخدم طبقاته بطريقة بارعة وبكثير من الجدارة بحيث يتمكّن من الصعود والنزول والحركة بشكل عذب ومؤثّر، وذلك من خلال الحركة داخل المسرح.
المسرح هو الحياة ارتباطاً لا انفصام بينه وبينها، بكلّ ما يتعلّق بمشكلاتها وإشكالاتها التي تقع بين الناس وفي العلاقات الاجتماعية ومكنونات النفس البشرية. كل ذلك يجري بالإيماءة والموسيقى ليس موسيقى الكلمة ودلالتها الإيقاعية، بل استمزاجاً وقربى مع عذوبة صوت سعدي الحديثي صديقه العتيد وربابته أو بمرافقة أحمد مختار وعوده الأنيق.
وقد استخدم الفنان الملحّن القدير طالب القرغولي ذلك أحسن استخدام كما فعل المطرب الكبير الياس خضر والمطرب المتميّز سعدون جابر وهما من أكثر الأصوات اتساقاً مع إبداع مظفّر النواب ونصّه الشعري، لذلك سمّي المسرح مسرحاً لأنه أبو الفنون، بل يجمع عدّة فنون بما فيها الشعر والرواية والقصة والموسيقى والرقص والصوت (الغناء) وأجناس أدبية أخرى.
ملحمية القصيدة المظفّرية
تعتبر قصيدة مظفر النواب ملحمية وممسرحة في الآن، والمسرح الملحمي هو نتاج حركة ألمانية بدأت في مطلع العشرينيات من القرن الفائت ووجدت نتاجها ونضجها على يد بريخت في خمسينيات القرن المنصرم الذي قام على تحرير الفن المسرحي ومنحه وظيفة تربوية وتحريضية باعتباره أداة للتغيير. ومثلما كان يولي بريخت إهتماماً كبيراً بالمضمون والحقيقة، فقد كان مظفر النواب يفعل ذلك أيضاً دون أن يؤثر كل منهما على المعايير الجمالية التي حاولت مدرسة جدانوف (نسبة إلى اندرية اليكساندروفيتش جدانوف وزير الدعاية والثقافة والمستشار الثقافي لستالين ) إقحامها على الأعمال الإبداعية تحت عنوان “الواقعية الاشتراكية“. والتي حاولت تأطير العمل الإبداعي وتقنينه ليأتي متطابقاً مع الشعارات السياسية.
الجدار الرابع
حاول بريخت وهو ما فعله مظفّر هدم ما يسمّى بالجدار الرابع والمقصود بذلك إشراك الجمهور في العمل الفني وهو أسلوب جديد في العمل المسرحي وذلك بإعلاء قيمة المتلقّي. وإذا كان للغرفة أربعة جدران فإن للمسرح ثلاثة، والجدار الرابع هو الذي يقابل الجمهور، لذلك حاول بريخت إشراكه في العمل المسرحي تفاعلاً وتواصلاً وتأثيراً لأن خشبة المسرح مفتوحة على الجمهور.
ولهذه الأسباب اعتبر بريخت المسرح الآرسطي تنويماً مغناطيسياً بحصر العقل داخل أحداث العمل المسرحي دون أن يكون لعقل الإنسان أي دور، كما أنه خالف مدرسة ستانسلافسكي الروسية ( 1893 – 1938) التي تعنى بإعداد الممثل، علماً بأن ستانسلافسكي يعتبر صاحب نظرية في هذا الميدان، وهي أن يعيش الممثل الحياة الشخصية الداخلية للشخوص الذين يمثّلهم وكأنهم أناس حقيقيين، في إطار قانون وبوصلة للفنان على خشبة المسرح.
مع نزار قباني ومحمود درويش
عمل مظفر النواب هو الآخر على تحريك الجمهور والتأثير على قلوب المتلقّين وعقولهم في الآن وذلك بإشراكهم في عمله الإبداعي. ولم يكن وحده يمتلك مثل هذه القدرة الهائلة، بل تنافس مع الشاعر نزار قباني بالتفاعل مع الجمهور وإشراكه في الاندماج في التفكير، وإن كان لكل منهما منهجه الخاص وأسلوبه المتميّز.
ولم يكن الشاعر محمود درويش بعيداً عن ذلك، فهو الآخر كانت علاقته بالجمهور استقطابية جاذبة ومؤثرة ، وهؤلاء يختلفون عن الشاعر الكبير الجواهري الذي كان يؤثر في الجمهور بطريقة إلقائه ولغته وصوته، في حين أن شعراء كبار مثل أدونيس وسعدي يوسف، لم تكن لهم مثل هذه العلاقة الحسية مع الجمهور.
نؤاسياً ودعبلياً في الآن
يمكنني القول أن مظفر النواب كان نؤاسياً نسبةً إلى أبو نواس (762 – 813) في خمرياته وغزلياته وتحدّيه للتيار التقليدي على عكس من تصنّع التقوى والزهد والتديّن رياءً ونفاقاً، سواء لحاكم أم بإسم العادات والتقاليد، أم مجاراة للعامة، أو طمعاً في الحصول على مكاسب.
و كان مظفر النواب دعبلياً أيضاً نسبةً إلى دعبل الخزاعي (765 – 835) لاشتهاره بحدّة النقد والتعريض، فلم يوفر دعبل على خليفة أو حاكم إلّا وأشبعه هجاءً وكان يقول: “لي 50 عاماً أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها، فلم أجد”. وكلاهما النؤاسية والدعبلية تحتاج إلى قناعة وجرأة وشجاعة، لأنه مسار عكس التيار و نقد المألوف، وتجاوز ما هو سائد.
الهجاء وفسحة الحريّة
إذا كانت قصائد الهجاء قد أخذت صيتاً كبيراً وتردّدت في العديد من المحافل، فلأن الناس بحاجة إلى فسحة من الحرية بشكل عام وحرية التعبير بشكل خاص. وقد وجدوا في مظفر النواب صوتهم الذي ظلّ حبيساً. وبتقديري أن هذه القصائد على الرغم من شهرتها فإنها لا تضاهي القصائد الأخرى في شعر مظفر النواب، وهو وإن كان صخبها كبيراً، إلّا أن تأثيرها ظرفياً وعابراً مثلما هي أقلّ إبداعاً عن قصائده الأخرى، في حين أن قصائده النؤاسية كانت الأكثر إبداعاً، وربما الأقل تداولاً.
أيها الشاربُ |
إنْ لم تكُ شفافاً رقيقاً |
كزجاج الكأس |
لا تدخل طقوس السكر والكينونة الكبرى |
فسوء الخمر يؤذي |
بينما يقتل سوءُ الخُلقَ |
فاشربها كريماً دَمِثاً |
تطمعُ أنَّ النارَ تستثني الكراما
***
وفي قصيدة شعبية أخرى يقول:
العب *** ويقول في قصيدة ثالثة: |
ها أنا أهتزُّ كالريشَةِ في وَجْهِ السَماواتِ ولكنْ لا تَرانيْ
ليسَ في قافيتي إلا ارْتِجافُ الأُقْحُوانِ
يَنْهَضُ الشَوْقُ مَعيْ عاصِفَةً حينَ أُناجيكَ على قَطْرةِ ماءٍ ذاتِ رَجْعٍ أُرجُواني
أنا ما أطَبَقْتُ جَفْنيَّ فَكيفَ احْتَلمتْ عَيناي مِن رَجَّةِ نَهْدٍ زَغِبٍ بِضْعَ ثَواني
أيقَظتْني زَهَراتَ النُورِ تَكْتَظُّ على شُباكِكَ العُلويِّ مما نَهْدُكِ القِمْحيُّ في اللَّيلِ مِن الضَّكِ يُعاني
***
أما دعبلياته فتعتبر قصيدة “القدس عروس عروبتكم” الأكثر شهرة… ويقول فيها:
أعترف الآن أمام الصحراء بأني بذيء كهزيمتكم
يا حكاماً مهزومين ويا أحزاباً مهزومين
ويا جمهوراً مهزوماً.. ما أوسخنا.. ما أوسخنا.. ما أوسخنا ونكابر
ما أوسخنا
لا أستثني أحدا.. هل تعترفون؟
ربما كان أرسطو على حق حين خالف أستاذه أفلاطون ، فاعتبر الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى من التاريخ، وهما ركنان أساسيان لفهم كل علم، بل لفهم الحياة ، فلكل علم فلسفة مثلما لكل علم تاريخ ، وحسب أرسطو الشعر يروي الكلّي في حين أن التاريخ والفلسفة يرويان الجزئي. الشعر أفق مفتوح وفضاء لا ينتهي، ولذلك لا يمكن تأطيره أو تقنينه.
كان حزن مظفر النواب كلياً وهو جزء من فلسفته وتاريخه وفهمه للحياة، وبالتالي شعره الذي يمثل حياته بكل ما لهذه الكلمة من معنى، كان شعراً ملتاعاً لشاعر ملتاع وشعراً منفياً لشاعر منفي، وهو شعور بالاغتراب الدائم لازم النواب طيلة حياته، فقد كان مغترباً وهو في وطنه ومغترباً وهو في داخل حزبه ومغترباً عن وطنه ومغترباً عن أمّته من النهر إلى البحر “سجون متراصة” وكما يقول: “وكان مجرد مكتوب من أمي يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين”. فقد عاش خمسة أسداس عمره الابداعي في المنفى ونحو ثلاثة أخماس عمره البيولوجي في المنفى أيضاً.
ومع كل هذا الاغتراب فقد كان مظفر النواب متصالحاً مع نفسه ومع إنسانيته، وفيّاً لنبعه الأول، “إن النهر لمجراه يظلّ أميناً”، وفي كل ذلك وإن كان قلبه ينبض بالعروبة وفلسطين، لكنه كان خارج دوائر التصنيف الديني والطائفي والعرقي واللغوي والسلالي ، مثلما كان متسامحاً وصاحب مروءة لا تأخذه في الحق لومة لائم، لذلك لم يرتض الظلم ولم يقبل الهوان ولم يجد أي ذرائع أو مبررات لأي عسف من أيّ كان، وله مواقف مشهودة في ذلك.
كان مظفر النواب يشعر بالغنى الروحي، وكل ثروته بضعة كتب وباقة قصائد وحفنة أحلام ومحبة الناس التي لا يمكن أن تُدرك، لهذا كان حزن العراقيين والعرب كبيراً برحيله، وهو وإن غادرنا بعد أن تربّص به ذلك “الذئب اللعين”، لكنه سيظلّ معنا وفي قلوبنا، بل إن رحيله كان بمثابة إعادة ولادة جديدة له وهي ولادة مصحوبة بالاحتفاء المهيب.
مو حزن لكن حزين
مثل ما تنقطع جوا المطر شدّة ياسمين
مو حزن .. لكن حزين
مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين
انا كتلك مو حزن لكن .. حزين
مثل بلبل كعد متاخر لكه البستان كلها بلاية تين
الكلمة التي ألقيت في صالون 15 (نوال الحوار)، بيروت، في 7 حزيران / يونيو 2022 تكريماً واحتفاءً ووداعاً للشاعر مظفّر النواب.
ن