«ليلى الأطرش» صوت يختفي فينا ولا يموت
خسرت الساحة الأدبية منذ قرابة السنة واحدة من أهم الأصوات الأدبية والثقافية العربية: ليلى الأطرش (1948-2021). الفجوة العميقة التي تركتها في الجسد الثقافي العربي كبيرة. فقد خصصت جل كتاباتها ونشاطاتها (أعمالها الروائية التسعة) في الدفاع عن القضايا الاجتماعية الأكثر أهمية، ومنها المرأة ومعاناتها في مجتمع ذكوري متهالك، والذاكرة الفلسطينية.
ليلى أكثر من هذا كله، فهي طاقة حية لا تكتفي بالمكان الواحد. فقد سافرت في حياتها كثيراً، وذهبت نحو أماكن متعددة؛ إلى أوروبا، أمريكا، آسيا، في استضافات إبداعية كمقيمة وكمدرسة في العديد من المدن العالمية، الأمريكية على وجه الخصوص، مما جعل رؤاها تتفتح على عوالم كبيرة تستحق هذه الأماكن أن تحب، ولكن أيضاً أن تناقش في ثوابتها وصورها المغلوطة عن العالم العربي. هذا التحرك الفعال عبر الأمكنة العالمية واكتشاف ثقافاتها المتنوعة، يعيدنا إلى مساءلة أنفسنا: لماذا تقدموا هم، وبقينا نحن متخلفين؟ هل العيب فينا، أم أنه يأتي من غطرسة الآخر، المستعمر والمستبد؟ أسئلة وجودية كبيرة كانت تؤرق ليلى كثيراً. رؤيتها الثاقبة والدقيقة جعلتها تفرق بين المجتمع الأمريكي المتغطرس مثلاً، مجتمع القوة والظلم والتمدد، والمجتمع الإنساني العظيم الذي جعل من الثقافة والوعي رهاناته الأساسية في التطور وأنسنة آلة اقتصادية جهنمية، لأن في أمريكا أيضاً هذا الجانب الجميل، وهذا الجانب المهم الذي سمح لكثير من المثقفين أن يستفيدوا من فرص الاكتشاف والتطور. فقد رفضت ليلى دوماً الصور الازدواجية السهلة: السيئون من جهة والأخيار من جهة ثانية، دون التنازل عن حق النقد.
ساعدها أكثر على اكتشاف الآخر أيضاً، وجودها بوصفها رئيسة مسؤولة على فرع القلم الأردني التابع هيكلياً لرابطة القلم الدولية Pen Club. هذه المؤسسة العالمية الكبيرة هي مؤسسة ثقافية دولية، ولها تفرعات في مختلف البلدان ومنها العربية. ساهمت ليلى من خلالها في التقليل من الصور الجاهزة عن «العربي» التي عملت الدوائر الصهيونية المنظمة والكبيرة على إشاعتها وترسيخها. حاربت الأفكار المسبقة وقدمت، من خلالها ومن خلال المثقفين والمبدعين والفنانين العرب، أجمل وأبهى مثال على أن العربي ليس جسماً غريباً، في عالم بني على الظلم والقوة. وكان لها دور فعال في هذا الجانب. فقد بذلت جهوداً كبيرة لتوصيل الثقافة العربية في أنقى صورها وأجملها، وتقدم نموذجاً صلباً وإنسانياً عن المرأة العربية التي ليست كما يتم تصويرها في الغرب الاستعماري تحديداً، بأنها لا شيء، وضحية لرجل شرقي متغطرس. صورة اختزالية لكل نضالات المرأة والرجل معاً، لتغيير وضع لم ينزل من السماء، لكن فرضته ظروف تاريخية آن لها أن تتغير. لقد كانت ليلى التي تهمها صورة المرأة العربية، تريد أن تثبت للآخر بأنها امرأة وكاتبة مثلها مثل أي كاتبة في العالم، وأن لها صوتها، وأنها تعرف المجتمع العربي جيداً، ولهذا فهي عندما تدافع عن المرأة العربية تدافع أيضاً عن القيم الإنسانية بشكل أساسي.
الرواية كانت صوت ليلى الأطرش الأساسي. عبر سرديتها المميزة، مررت كل انشغالاتها الأساسية في الحياة. بدأت بـرواية «تشرق غرباً»، مروراً برواية «ليلتان وظل امرأة»، ثم «سحر المسافات»، و»مرافئ الوهم»، قبل أن تجمع أغلب رواياتها وقتها في مصنف واحد: الأعمال الكاملة، التي أصدرتها أمانة عمان سنة 2006، ثم جاءت بعدها «رغبات ذاك الخريف»، و«أبناء الريح»، و«ترانيم الغواية»، قبل أن تختم سرديتها الكلية برواية «لا تشبه ذاتها» التي كتبت عنها أنا شخصياً عند صدورها في «القدس العربي» وشعرت وقتها بمدى ارتباط هذه الرواية بمرضها، وبفكرة الحياة والموت، والمقاومة إلى آخر نفس وعدم الاستسلام لمرض لم يكن رحيماً معها وسرق منها مشاريع كثيرة كانت تتهيأ لها، بالخصوص حول تاريخ فلسطين والقدس تحديداً. في كل أعمالها الأدبية القصصية والروائية تحديداً، ظلت القضية الفلسطينية هي الهاجس المركزي. أعتقد أنه لا يوجد نص يخلو من القضية الفلسطينية، وهذا هو الطبيعي، لكن الجميل في ليلى الأطرش هو أنها لم تسقط في الخطاب السهل الذي سقط فيه، للأسف، كثير من الكتاب الفلسطينيين، كما سقط فيه قبل ذلك كثير من الكتاب الجزائريين من جيل الثورة الوطنية والذي أعقبه، لأن الدافع القومي والدافع الوطني أحياناً يلغي الجماليات أو يؤجلها أو يضعها في الزاوية المظلمة بوصفها قليلة الأهمية، فيصبح الخطاب السياسي هو الأساس، مما يضر بالعمل الإبداعي، إذ يصبح الكاتب جزءاً من آلية سياسية تغيّب بالضرورة الفعل الأدبي. كانت ليلى واعية لهذه الإشكالية، هي وزوجها المرحوم الدكتور فايز الصياغ، الصديق الأعز، الذي كانت وفاته أيضاً خسارة كبيرة للترجمة العربية. كنت في أمانة جائزة الشيخ زايد، يوم فوزه في دورة الجائزة الثانية على ما أعتقد، وكنت من المدافعين عن مشروع الأستاذ فايز الذي لم أكن قد تعرفت عليه بعد. فهو من الدقة بما يثير الإعجاب والتقدير. لا يترجم أي شيء إلا وفق الحاجة الثقافية والقومية، مترجم حقيقي بكل المقاييس العلمية للترجمة، فوق هذا هو إنسان شديد الرقي والجمال. زرت العائلة العديد من المرات، وتأكدت من الفكرة الجميلة التي بنيتها عن هذا الدكتور فايز الصياغ وليلى. ثم التقينا برفقة الدكتورة رزان إبراهيم، أستاذة النقد والرواية، في جامعة بترا، بعمان وفي مدن عربية كثيرة. اكتشفت من خلال ذلك كله، العمق الإنساني الذي ينام في أعماق ليلى، لهذا أقول اليوم إن غياب ليلى خسارة كبيرة للثقافة وللأدب، لأن هذا الصوت الحي، وهذا الصوت الجميل، وهذا الصوت الكبير، افتقدناه للأبد. صحيح أن إبداعها سيبقى، وسيبقى حياً، وسيرافقنا دوماً من خلال كتبها، ومن خلال الأحلام التي بثتها رواياتها فينا، وغرستها في الأجيال الصاعدة، لكن أنانيتنا الطبيعية تريدها حاضرة دوماً معنا جسدياً وأننا نتحمل غيابها بقسوة وصعوبة. كيف نزور عمان وهي غائبة عن المشهد؟ لكنها أيضاً سنن الحياة والطبيعة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد أنصفتها الحياة قليلاً قبل وفاتها. ناهيك عن الاعتراف الأدبي بالجوائز والمقروئية والاهتمام الثقافي بمنجزها، فقد عُيّنت كواحدة من أهم ستين امرأة من المؤثرات ثقافياً في العالم العربي، وهذا وحده يكفي ليضعها في المراتب العليا، لأن حياتها كلها كما كانت تقول «لا تكسب معناها إلا من الكتابة والنضال»، فهي مجتهدة بشكل دائم. والذي تتبع حركة النصوص سيكتشف بأن هناك تحولات كبيرة وجوهرية في رؤيتها ضمن الثابت العربي والفلسطيني، وإن غادرته قليلاً في روايتها الأخيرة «لا تشبه ذاتها» التي صدرت في 2019 إذ تمدد مشروعها السردي نحو الشرق بمعناه الأوسع.
بقي أن أقول كلمة أخيرة عن ليلى، قدرتها وشجاعتها في مواجهة المرض الخبيث، لم أر أكثر جلداً وصبراً منها. نحن، أصدقاءها المقربين، كنا نعرف أنها مريضة، وكنا نعرف أيضاً سبب المرض، بل كنا ندرك أيضاً الحقيقة المرة، وهي أن المرض في تلك الزوايا الجسدية لا يرحم أبداً. يصمت، يخفت لزمن قد يطول أو يقصر، لكنه في النهاية لا يرحم. كانت واعية بذلك كله. وظلت تقاوم في سرها، وتكتب دائماً بلا تتوقف. يكفيها عظمة وقوة أنها لم تستسلم لآلة المرض القاتلة واستمر جهدها الإبداعي حتى النهاية، لأن الكتابة كانت رهانها الأول والأخــير.