يافا والشعر والجواهري
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي
لا أدري كيف عنّت عليّ يافا ” عروس البحر” المدينة التي لم أزرها، لكنها تكاد تزورني كلّ يوم تقريباً، فمع كلّ خبر عن فلسطين كانت تأتيني يافا “الجميلة” المدينة البحرية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بتلّتها الخضراء وسمائها الزرقاء وساحلها الآسر، تلك هي الصورة التي تطلّ فيها عليّ، فهي والقدس مدخلي إلى فلسطين.
ويعود أسم يافا أو “يافو” إلى الأصل الكنعاني واللغة الآرامية وتعني “الجميلة”، أو كما تسمّى “يافث” نسبة إلى إسم أحد أبناء النبي نوح (ع) أو ترد تحت إسم “يابو” حسب اللغة الهيروغليفية أو “يوبا” حسب اللغة الإغريقية القديمة.
ويافا من أقدم مدن العالم، ويعود تاريخها إلى ما يقارب الخمسة آلاف عام حسب الاكتشافات والحفريات الاثرية، وتعرّضت خلال تاريخها الطويل إلى غزوات وحروب ونزاعات وأطماع إقليمية ودولية من الفراعنة والأشوريين والبابليين والفرس واليونانيين والسلاجقة والرومان والتدمريين حتى كان الفتح العربي العام 636 م، حين أعاد عمرو بن العاص إليها وجهها العربي، وحرّرها صلاح الدين الأيوبي من الفرنجة العام 1187 بعد الحرب التي قاربت قرنين من الزمن للاستيلاء على القدس وبلاد الشام، وإن وقعت بعد أربع سنوات (العام 1191) تحت قبضة الملك ريتشارد قلب الأسد، ثم جاء العثمانيون لاحتلالها في العام 1515 في عهد السلطان سليم الأول، وحاول نابليون بونابارت احتلالها والتبشيع بأهلها العام 1799، وقد تم دحر قواته لاحقاً بتعاون بين الجيش العثماني وأهالي المدينة، واستمر الحال على ما هو عليه، حتى احتلها البريطانيون في العام 1917 في إطار الخطة السريّة المعروفة باسم “اتفاقية سايكس – بيكو” بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم مناطق النفوذ 1916، وأُدرجت فلسطين تحت الانتداب البريطاني في مؤتمر سان ريمو العام 1920 الذي أقرّته عصبة الأمم العام 1922. وفي العام 1948 وقعت يافا تحت الاحتلال “الإسرائيلي”.
وعلى الرغم من كل هذا التاريخ العويص والتزاحم على احتلالها والأطماع التي أحاطت بها، كانت يافا تنهض بعد كلّ كبوة أو هبوط بما يمثّل حقيقة أسطورة الفينيق وطائر العنقاء الذي لا يكاد يحترق حتى ينبعث من جديد. ولعلّ ما يفسّر سبب التكالب على يافا بشكل خاص وفلسطين بشكل عام أن يافا جمعت الكمال بكل ما تعني الكلمة من معنى، فهي مدينة الثقافة والتجارة والانفتاح الاقتصادي والزراعة والبحر، واستقطبت في تاريخها المعاصر مقومات الصناعة والتعليم والصحافة. كما كانت طريق القدس للقادمين من أوروبا. هذه كانت صورتها قبل الإحتلال “الإسرائيلي”
Ⅱ
كان والدي في كلّ مرّة يذهب إلى الحجّ أو العمرة يستكمل حجّته أو عمرته بالقدس وكانت له طقوسه في ذلك، أمّا هواء رام الله بالنسبة له فلا يوجد هواء عليل أعذب منه، وذلك قبل احتلال الجزء الشرقي من المدينة العام 1967، وكان يقول لنا لو زرت البلاد العربية كلّها ولم تزر القدس سيبقى إحساسك بالنقص والفداحة كبيراً، وهو ما بقيت أشعر به حقيقةً وليس تصوّراً. وكم كان يمنّي نفسه بزيارة يافا، إلّا أن الأخيرة أصبحت تحت الإحتلال “الإسرائيلي”، وكان يقصّ علينا حكايات عنها وكأنه عاش فيها. لعلّ ذلك في جزء منه سكن في عقلي الباطن، فقد كنت وأنا أخطو خطواتي الأولى نحو العمل الوطني أستعيد بعض الصور والحكايات والقصائد، ومنها ما ترك تأثيره الكبير عليّ، وخصوصاً قصيدة يافا المميّزة للجواهري تأكيداً للعروبة الطافحة واعتزازاً بفلسطين.
Ⅲ
لا أتذكّر متى قرأت قصيدة الجواهري عن يافا لأوّل مرّة، ولكن من المؤكّد أنني كنت أعود إليها بين الحين والآخر، وأحياناً تظلّ ملازمة لي عند فراشي لأيام أو أسابيع، وذلك بعد العام 1967، علماً بأن عمر قصيدة يافا هي من عمري، فقد نظّمها الجواهري في العام 1945.
ليس جماليات المكان أو تاريخه أو استلاب الحق وحده هو الذي يعيدني إلى يافا، بل جزء من الحلم الذي استمرّ بمداعبة خيالي في يقظتي ومنامي، فالأحلام هي الحقيقة الوحيدة حسب المخرج الإيطالي فريدريكو فيلليني الذي كان يردّد ذلك كلما سُئل عن علاقة أفلامه بالواقع.
ربما لأن يافا المدينة الأكثر جمالاً وحداثةً، بل هي تكاد تكون قطعة من الجنة وإن كنت لم أعشها فيزيائياً فقد عشتها افتراضياً من رواية غسان كنفاني “أرض البرتقال الحزين“، ومن شعر نزار قبّاني الذي يعتبرها “بقعة غالية الحجر” و “جافا” المكوّنة من أربعة أحرف المطبوعة على حبّة البرتقال، حسب الشاعر عبد الوهاب البياتي، وهي المدينة التي كان يحجّ إليها محمود درويش، والتي أصبحت تنزف دماً من خاصرة العالم حسب أدونيس، وذلك باستعادةٍ لتلافيف ذاكرة إدوارد سعيد “خارج المكان“، فهي ثاني أقدم مدينة فلسطينية بعد أريحا وهي ثالث مدن بلاد الشام، دمشق وحلب دون أن ننسى قِدَم بيبلوس (جبيل) اللبنانية.
وصف الجواهري رحلته إلى يافا بقوله أنها رحلة من رحلات العمر التي لا تُنسى ثم يستدرك ليقول: “وسامحوني إن أقول يا ليتني لم أرَ (فلسطين الجنة) ولو أن وشيجتي بها كانت وشيجة بشار بن برد بالأشياء والعوالم بالأذن لا بالعين، فلكان ذلك أفضل ولكان وقع الفاجعة عليّ أقل”. والمقصود بذلك قصيدة بشار الذي يقول فيها:
يا قَومِ أَذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ … وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا
قالوا بِمَن لا تَرى تَهذي فَقُلتُ لَهُم … الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كان
كانت زيارة الجواهري الشاعر العراقي المكنّى شاعر العرب الأكبر إلى يافا بدعوة من المجمّع الثقافي في يافا الذي يمثل عدّة نواد ثقافية وأدبية وفي الوقت نفسه ليلقي بعضاً من قصائده في الإذاعة البريطانية العام 1945، وألقى فيها قصيدته العصماء التي ظلّت المحافل الأدبية والثقافية منشغلة بها، وهي إلى اليوم تلقى من محبّي الشعر بخاصة والأدب بعامة اهتماماً غير اعتيادي على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أرباع القرن عليها.
IV
لم يكن الجواهري معجباً ومتولّهاً لدرجة الدهشة بمدينة عربية مثل إعجابه وتولّهه واندهاشه بمدينة يافا، ليس عند زيارتها فحسب، بل ظلّ يستعيدها ويستذكرها ويستحضرها ويرسم صوراً جميلة عنها لمحدّثيه باستمرار، وخصّها بعاطفة حميمية في مذكراته الموسومة “ذكرياتي“، الجزء الأول ، دار الرافدين، دمشق، 1988. وفي حواراتي معه جئت على ذكر يافا لأسمع منه غزله بها وأسفه عليها وسخطه على ما حلّ بها وقد أدرجتها ضمن عشرية “الأربعينيات” في كتابي “الجواهري في العيون من أشعاره” الذي صدرت طبعته في دمشق عن دار طلاس، 1986 وبالتعاون معه، وهو بمثابة ذائقة شعرية لعقود سبعة ونيّف من الزمن، وكانت القصيدة قد نشرت في جريدة “الرأي العام” التي كان يصدرها الجواهري نفسه العدد 1228 في 16 آذار / مارس 1945.
وعلاقة الجواهري بيافا تقوم على ثلاث مستويات، الأول – الدهشة التي رافقته منذ أن لمحها من الطائرة، فقد ظلّ قلبه يهفو لها ونفسه تتوق إليها وخياله بقي منشدّاً إليها. والثاني – الجمال الأخّاذ ليافا وجوارها اللّدّ الذي ظلّ يتغزّل بهما مثلما يتغزّل العاشق بمعشوقته والحبيب بمحبوبته فقد ظلّت ذاكرته متعلّقةً بها. والثالث – حزنه عليها، وهو حزن لم يفارقه فقد أدرك ببصيرته الثاقبة أن المشروع الصهيوني وضع عينه على يافا لاستلابها، وبالفعل فقد أُدرجت بقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 الصادر عن الأمم المتحدة ضمن كيانية الدولة العبرية، خصوصاً وأن الهجرة اليهودية كانت متواصلة وبوتائر عالية إلى يافا وعموم فلسطين وهو ما كان يدعوه إلى التأكيد على وحدة المصير العربي. كما يرد في قصيدته.
هكذا يتغنّى الجواهري بيافا فيقول:
ﺑ ” يافا ” يومَ حُطَّ بها الرِكابُ … تمَطَّرَ عارِضٌ ودجا سَحابُ
ولفَّ الغادةَ الحسناءَ ليلٌ… مُريبُ الخطوِ ليسَ به شِهاب
وأوسعَها الرَذاذُ السَحُّ لَثْماً… فَفيها مِنْ تحرُّشِهِ اضطِراب
V
لا تنطلق علاقة الجواهري بيافا من التعبير عن مشاعر الإعجاب والمحبة والتضامن والمصير المشترك، بين فلسطين والعراق فحسب، بل أنها في جانب منها تخضع للتحليل السايكولوجي فيما يتعلّق بالوضع النفسي للشاعر عند وصوله إلى يافا وهذه كانت الصورة الأولى التي اتسمت بالرومانسية ، فقد كاد قلبه أن يطير فرحاً وهو في الطائرة حين لاحت له يافا مزهوّةً بمفاتنها وحسنها وخضرتها وغيومها وسحرها. أما الصورة الثانية فقد اتسمت بالحزن الذي لم يغادره والقلق الذي ظلّ مرافقاً له على مستقبلها جرّاء محاولات الاستحواذ الصهيونية ومشاريعها الجهنمية. وشكلت لحظة الوداع التي عاشها وهو يغادر يافا مغادرة الأهل إلى الأهل والوطن إلى الوطن الصورة الثالثة، حيث استعاد فيها كل ما يتعلّق بالعروة الوثقى والمصير المشترك.
VI
يوم وصل يافا كان الجو ماطراً عند الوصول والغيوم كثيفة وكان هو يتطلّع من النافذة وقلبه يختزن تاريخاً طويلاً وعريقاً لهذه المدينة الفضية الساحرة، وحين صوّب نظراته وجد فيها كلّ ما يسرّ القلب ويحيّر العقل، وهكذا وقع في غرامها، حيث اعتبر يافا فلسطين “المصغّرة” بمدنها الأخاذة، فتلك البقعة من الأرض حباها الله بكلّ ما يتمناه الإنسان عبق التاريخ والمناخ المعتدل والبحر والجبل والسهل والماء والخضرة، حتى أن أيزونهاور في مذكراته العام 1957 وصف بلاد الشام ومنها فلسطين “أنها أقيم قطعة عقار في العالم”.
يقول الجواهري :
ولمّا طبَّقَ الأرَجُ الثنايا … وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُلدِ باب
ولاحَ “اللُّدُّ” مُنبسِطاً عليهِ … مِن الزَهَراتِ يانِعةً خِضاب
نظْرتُ بمُقلةٍ غطَّى عليها … مِن الدمعِ الضليلِ بها حِجاب
هكذا كان أريج يافا يفوح من كلّ مكان لدرجة أن الجواهري شبهها “جنة من جنان الخلد”، إضافة إلى أن اللّدّ اجتذبته بأزاهيرها الساحرة وألوانها المختلفة وأشكالها المتنوعة، فذرف دمعةً من الحزن والأسى على فلسطين التي سيضيع أكثر من نصفها بقرار أممي بعد ثلاث سنوات لتستحوذ “إسرائيل” على النصف الآخر في العام 1967.
يطلق الجواهري حكمته من رؤيته المستقبلية، ليؤكد الهموم المشتركة والمصاب الواحد ويذكّر بالماضي ويستشرف المستقبل فيقول:
فيا داري إذا ضاقَت ديارٌ… ويا صَحبيْ إذا قلَّ الصِحاب
ثِقوا أنّا تُوَحَّدُنا همومٌ … مُشارِكةٌ ويجمعُنا مُصاب
يُزَكينا من الماضي تُراثٌ… وفي مُستَقْبَلٍ جَذِلٍ نِصاب
ثم يأتي على الوداع ، لاسيّما موجة الحزن التي صاحبته، فيقول:
لئنْ حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعاً به … واشتفَّ مُهجتيَ الذَّهاب
فمِنْ أهلي إلى أهلي رجوعٌ … وعنْ وطَني إلى وطني إيابُ
أي أنه يودّع وطنه فلسطين ليذهب إلى وطنه العراق، وهكذا يودّع أهله إلى أهله،، فأي تغلغل ونفاذ للمشاعر الإنسانية، وأي عاطفة تندغم في عاطفة مثل الالتحام بالوطن والشعور بالهوية الموحدة وأية لغة تلك التي تعبّر عن هذا الانتماء.
أستطيع القول أن قصيدة يافا الجواهرية العامودية ذات الجزالة الشديدة تتمتع ، إضافة إلى صورها الملونة بموسيقى جميلة ومونولوج داخلي وأجواء وجدانية عالية التأثر وانتماء عروبي عميق، حيث تزاحمت الألوان في هارموني واشتبكت لترسم مشهداً بصرياً مؤثراً بتعبيراته وإيحاءاته.
وقد بدأ الجواهري قصيدته بحرف الباء بالجار والمجرور: بيافا ثم بفعل “حُطّ” المبني للمجهول (أي نُزل)، لينتقل إلى الفعل “تمطّر”:
بيافا حُطّ بها الركاب … تمطّر عارُض ودجا سحاب
وقصيدة يافا من قصائد الأربعينيات التي تمثل ذروة العبقرية الجواهرية، بل أنها أحد “جواهر الجواهري” الثمينة.