من قوارب الموت إلى موت آخر!
يستقلون مراكب بلا «إطارات نجاة» هرباً من بلادهم التي تحرمهم من الكهرباء والماء والعلاج الطبي المجاني وغير ذلك، إلى بلدان أخرى تنعم بذلك. وإذا وصلوا أحياء ولم تغرق مراكب الهرب، سيتوهمون للوهلة الأولى أنهم في «بر الأمان».
لكن الغرب المرفه يعاني أيضاً من موت آخر مختلف، وهذا خبر قرأته في صحيفة أثق بأخبارها تلخص ذلك كله في حادثة تتكرر ولا يمكن أن تحدث في عالمنا العربي وسواه من البلدان التي يهرب أولادها منها في قوارب ويغامرون بالموت للوصول إلى بلاد «النعمة» والحرية.
الجار قبل الدار
ثمة خبر أعجز عن مسحه من ذاكرتي، وهو اكتشاف جثة مسنة ألمانية داخل مسكنها بعد عام ونصف على وفاتها.
طوال عام ونصف لم يسأل أحد عنها، احتضرت وحدها، ماتت وحدها، لا جارة تسأل عنها ولا أولادها. هل لها أولاد؟ لا نعرف شيئاً غير أن رائحة جثتها فاحت، وهكذا اضطر رجال الشرطة لاقتحام بيتها، ولم يدهشهم موتها منذ عام ونصف، فذلك يتكرر في الغرب، ولا يمكن أن يحدث عندنا في البلاد التي نركب منها في قوارب الموت هرباً إلى حياة نتوهمها أفضل. وما زلت أعتقد أن الحل ليس في مغادرة أوطاننا، بل في تحسين مستوى الحياة فيها. والحاكم عندنا (وحاشيته) يتحملون مسؤولية كل عربي أو لبناني أو إفريقي يستقل مراكب الهرب. وحتى اليوم لم نسمع خبراً واحداً عن (قارب موت) يهرب من أوروبا متسللاً إلى لبنان أو أي بلد عربي هرباً من (جحيم) الحياة في بلده، في فرنسا أو بريطانيا، كما نفعل نحن!
ماذا ينقصنا غير لحظة صحو على واقعنا المرير وعلى إهمال بعض حكامنا؟
حين يكون قائد الطائرة نائماً!
كلما قررت السفر أطالع خبراً عن طائرة تحطمت وقتل جميع ركابها.. وليس لعطل في الطائرة، بل لعطل في (رأس) قائدها! هذا قائد طائرة قرر الانتحار، وأحب اصطحاب الركاب كلهم معه إلى الأبدية دون أن يستشيرهم! ونقرأ في الصحف صباح اليوم التالي أن طائرة ما تحطمت بركابها لسبب مجهول، وأنهم يفتشون عن الصندوق الأسود (بالمناسبة لونه برتقالي) للاستماع إلى حوار قائد الطائرة مع برج المراقبة على أمل معرفة سبب تحطم الطائرة. وهي أخبار مأساوية حين نتذكر أهل الذين قتلوا في تحطم الطائرة.
وآخر هذه الأخبار التي دفعت بي إلى إلغاء رحلة بالطائرة كنت أخطط لها أن طياراً إيطالياً كان يقود طائرة غلبه النوم أثناء ذلك، ولم يفكر بأن (نوم الهناء) الذي استسلم له يمكن أن يتسبب في تحطم الطائرة وقتل ركابها جميعاً (وأنا منهم) لو كنت معهم.
حين نركب طائرة ما في المرة القادمة علينا الذهاب إلى غرفة الطيار (المقفلة عادة خوفاً من اختطافها) ونترك له على بابها ورقة نقول له فيها: أرجوك لا تنتحر قبل الهبوط بنا، وورقة أخرى نقول فيها: أرجوك ألا تنام ريثما نصل أحياء!!
ترى، هل صار السفر بسياراتنا أكثر أماناً؟ ولكننا لا نستطيع قطع المحيط بين باريس ونيويورك سباحة.. ولا مفر من الطائرة، فليرحمنا الله، وليشعر الطيار بالمسؤولية.
الفئران في لبنان
في مخابرة هاتفية تكاد تكون أسبوعية بيني في باريس وإحدى صديقاتي في لبنان، اشتكت من كثرة الفئران في بيروت حيث تعيش. قلت لها: هل تعرفين أن الجرذان منتشرة بكثرة في باريس، وسمعت أحد المذيعين في التلفزيون الفرنسي يقول: إن عدد الجرذان في باريس ضعف عدد سكانها!! هذا مع العلم أن شاحنات نقل أكياس القمامة تعمل كل يوم، والسيدة رئيسة محافظة باريس آن هيدالفو (وكانت قد رشحت نفسها لرئاسة الجمهورية) تولي عناية للنظافة في باريس. وقلت لصديقتي بأن تبتاع أقراصاً لقتل الفئران وتوزعها على الشرفات شرط التأكد أنها ليست سامة للإنسان. يبدو أنه لا مفر من ارتكاب جرائم القتل في لبنان، على الأقل عدد (جيش) الجرذان. وبعدما تم اكتشاف فيروس «جدري القرود» بعد «كوفيد 19» وقيل إن أصله من الخفاش، ترى هل سنصاب بفيروس الفئران؟ وهل علينا قتل بقية جيراننا في هذا الكوكب (كالخفاش والقرود والفئران) كي نظل أحياء؟
مهازل الترجمة الحرفية
لكل لغة تعابير خاصة بها، على المترجم أن يتقن اللغة التي يترجم منها إلى العربية لكيلا يقع في فخ الترجمة الحرفية.
كمثال، أذكر أنني أيام الدراسة في لندن، سألت في مخابرة هاتفية إحدى صديقاتي البريطانيات: هل تمطر؟ هل أرتدي قبعة المطر وأحمل معي مظلة؟ قالت لي حرفياً: إنها تمطر قططاً وكلاباً، وهو تعبير إنكليزي يعني أنها تمطر بشدة. إذا كان أحدهم يترجم قصة يقول أحد أبطالها ما قالته لي صديقتي «إنها تمطر قططاً وكلاباً»، فمن الضروري ترجمة العبارة إلى «إنها تمطر بشدة». وأعترف أنني أحمل الكثير من الاحترام لمهنة المترجم، لأن عليه دائماً ترجمة روح النص قبل الترجمة الحرفية له، وذلك ينسحب على كل نص يترجمه. للمترجم الجيد فضل على الرواية التي قام بترجمتها أو القصة، فهو يعيد خلقها بلغة أخرى دون أن يخون روحها.
جيران بيتهوفن!
لي صديقة لبنانية كان بيتها أيام الحرب الأهلية يقع على أحد (خطوط التماس) حيث الانفجارات والمعارك، وهكذا حين غادرت بيروت إلى باريس (مثلي) اختارت بيتاً في مبنى بالغ الهدوء، كأن الناس يتحدثون فيه همساً. التقيتها مؤخراً لشرب القهوة معاً في أحد مقاهي جادة (الشانزيليزيه) التي يصر الفرنسيون على تسميتها بأجمل جادة في العالم. ووجدتها تعيسة واشتكت لي: الهدوء الذي كان يعم المبنى الذي أقيم فيه أعدمه (شاب/شابة) وربما امرأة أو رجل مسن، إذ إنها تسمع من أحد جيرانها صوت عزف على البيانو، وذلك يغتال صمتاً هادئاً طالما حلمت به في لبنان. قلت لها: بوسعك الشكوى (لناطور) المبنى، بحيث يُذكّر العازفة/العازف أنه من الممنوع في القانون الفرنسي إقلاق راحة الجيران، أي أنه ليس من حق أحد تحويل بيته إلى استديو للموسيقى والعزف. لم أجرؤ على سؤالها هل العزف على البيانو جيد ولماذا لا تستمتع به، إذ أضافت: حين أتمدد للراحة بعد الظهر ولا أريد سماع صوت، يبدأ العزف. قلت لنفسي: إنها لعنة الرفاهية. كيف أذكرها بما عانته في بيروت من (عزف) القصف وانفجار القنابل؟
تخيلت حال جيران الفنان المبدع بيتهوفن، هل كانوا يستمتعون بعزفه أم كان ذلك يضايقهم ضيق صديقتي بعازفها؟
هل كان جيران بيتهوفن (الذي زرت عدة بيوت أقام فيها) يعرفون قيمة هذا العزف وهذه الموسيقى التي ستخلد على مر الزمان؟ ترى، هل العازفة/العازف جار صديقتي، بيتهوفن آخر يحلم جيرانه بكسر أصابعه كي لا يعزف؟ الحياة مراوغة، ولا نعرف قيمة المبدع إلا بعد رحيله، والزمان يعري الإبداع، فهل جار صديقتي بيتهوفن آخر يضيق به جيرانه؟