الحرب الروسية ـ الأوكرانية -رب كلمة باطل أريد بها حق-
دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الخامس في ظل انسداد أي افق لحلها وتفادي حرب عالمية ثالثة نووية, بل ان كل المعطيات والأستقطابات الدولية تشير الى ان ما يجري هو بروفات تمهيدية لحرب عالمية نووية لم ينجو منها أحد, بل ان كل من ينظم الى احد الفريقين المتقاتليىن يرى ان النار بدأت تأكل اقدامه, وهكذا حروب لا نرى فيها منتصرا ولا مهزوم بل هي حروب استنزاف طويلة الأمد, وبأختصار فهي حرب لأجهاد الغرب ولأستنزاف روسيا, وأن وقعت الصين في فخ الحرب الروسية الأوكرانية عبر تحالفها مع روسيا فأنها هي الأخرى ستستنزف وتفوت على نفسها المزيد من فرص الرخاء والتقدم الصناعي والتكنولوجي والمعلوماتي عبر انفتاحها على السوق العالمية الرأسمالية منذ السبعينيات وبفعل ذلك اصبحت الصين عصب الأقتصاد العالمي والرأسمالي منه بشكل خاص.
الحرب التي ارادها بوتين خاطفة او كما يسموها الروس ” عملية خاصة ” تبين انها حرب طويلة الأمد وهي حرب عبثية بكل المقاييس الأنسانية مهما تذرع بوتين بحماية الأقليات الروسية في أقليم الدنباس, نعم هناك في اوكرانيا سلوكيات شوفينة واجهزة قمعية مختلفة داخل المؤسسات الأمنية والدفاعية والمخابراتية تعادي الروس والأقليات الروسية هناك وقد ارتكبت بحقهم مجازر بشعة, ولكن هل يجوز لكل دولة لها اقليات في دول اخرى ان تشن حروب ابادة لأنقاذ اقليتها ودولة كروسيا العضو الدائم في مجلس الأمن عليها احترام بأقصى ما يمكن سيادة البلدان وعدم الأعتداء عليها بواجهات مختلفة, وإلا فأن العالم يتحول الى غابة يفترس فيها القوي ضحيته الضعيفة, فلايمكن هنا المقارنة بين قدرات روسيا العسكرية واوكرانيا والتي يضعها بعض الخبراء بنسبة مقارنة 1 الى 12.
الموقف الأنساني لا يتجزأ من الأحتلال واستباحة اراضي الغير وان الموقف من الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا هو محك تتظافر فيه القوانين الدولية التي تدين فيه الأحتلال والحرب وكل اشكال التعسف وأكراه الآخر الى جانب مواقفنا كبشر في كبح غريزة العدوان, ومن هنا لا فرق بين احتلال امريكا للعراق عام 2003 واستباحة اراضيه وبين الأحتلال الروسي لأوكرانيا او الأحتلال الأسرائيلي للأراضي الفلسطينية وبعض من الاراضي العربية بشكل عام, ولا يمكن ان نطلب من العالم ان يتضامن مع قضايانا العادلة ونحن نقف فرحين امام استباحة اراضي الغير, تلك مقاييس يجب ان لا تخضع لمزاج العداوة مع هذا وذاك, فأن كنت لا تحب امريكا وسياستها العدوانية اتجاه بعض الشعوب عليك ايضا ان لا تقف مع بوتين واحتلاله لأوكرانية, وهكذا في كل السياقات والمواقف التي تستدعي منا التجرد الكامل من شد الأنفعالات المفرطه الذي يفقدنا الصواب ويضيق علينا دائرة التضامن مع قضايانا العادلة.
لم تكن هناك مزايا تذكر للحرب الروسية على اوكرانيا, بل انها شددت الخناق على العالم بأجمعه, فقيره وغنيه وتهدد العالم بأمنه وغذائه ولقمة عيشه وحرمت العالم من التواصل مع بقاعه المختلفة جراء العقوبات والعقوبات المضادة حتى تحول العالم الى برميل بارود لا نعرف متى ينفجر في أي لحظة, الى جانب شدة الأستقطابات العسكرية, فحلف الناتو الذي كان ميت سريريا ” كما قال ماكرون ” انتفض على نفسه ليعيد بناء نفسه من جديد ويروم بضم دولا اخرى الى عضويته كفلندا والسويد تلك الدول التي كانت محايدة نسبيا والتي اغرقتها الفوبيا الروسية في شبح من المخاوف فتسارعت للتوسل في الأنظمام الى الناتو.
الى جانب ما تخلفه الحرب الروسية الأوكرانية من ازمة في الغذاء العالمي جراء تعثر ومنع تصدير الحبوب الأوكرانية الى مختلف بقاع العالم الى جانب استخدام الطاقة من نفط وغاز كسلاح في المعارك الدائرة بين روسيا واوكرانيا وبالتالي وحسب حلفاء كل طرف في الصراع الدائر سيتلقى كل منهم الضربة القاسية, فحلفاء اوكرانيا من امريكا واوربا تلقوا الضربة بما فيه الكفاية من قطع لأمدادات الغاز والنفط الروسي رغم انهم خططوا للأستغناء عنهما ولكنه ليست بالأمر السهل وهي اقوى العقوبات المرتدة على الغرب, اما روسيا وحلفائها فتلقوا الضربة بأطالة امد الصراع الروسي الأوكراني عبر منع روسيا من تحقيق انجاز عسكري على ارض الصراع ومن ثم عزل روسيا شبه الكامل عن المجتمع الأوربي وعدم التعامل معها باعتبارها دولة تقترب من المنبوذية وهذا يضر بطموحات روسيا ورغبتها في البقاء في الحضن الأوربي وبقائها في الناتوا كشريك ” كما ارادها بوتين ” وليست عضوا, فقد تبخرت طموحات روسيا بعد ان كانت تشكل عصب اوربا في الطاقة, وقد تحولت ايضا بعرف الناتو من شريك الى اكبر تهديد له, الأمر الذي يلقي بظلاله على مزيدا من التعقيد في العلاقات الدولية.
الحرب الدائرة بين الغرب وروسيا هي ليست عقائدية بين معسكرين مختلفين كما هو بين المعسكر الأشتراكي الشيوعي وبين الغربي الرأسمالي سابقا, بل هي حرب بين رأسماليات امبريالية لا يهمها مستقبل الشعوب وهي حرب على السيادة الدولية وقيادة العالم وجميع اطراف الصراع تبحث عن اقطاب موالية لها في المصالح الأقتصادية واقتسام مناطق النفوذ في العالم, والقطبية هنا ليست قطبية عقائدية بل قطبية مصالح اقتصادية في خظم عملية الصراع الدائر للأستحواث على الثروات العالمية, فروسيا اليوم هي ليست روسيا فلاديمير أيليتش لينين بل هي روسيا فلاديمير بوتين والفرق بينهما كفرق بعد السموات عن الأرض. لينين الذي أقر حق الشعوب في تقرير مصيرها بما فيها حق الأنفصال يراها بوتين خطأ تاريخي من لينين, بل ان خطاباته الأخيرة فيها من التحريض الى العودة الى القيصرية الروسية ويرى قضم اراضي الغير وضمها الى روسيا حق مشروع كعودة الفرع الى الأصل. رغم اننا نراها سيكولوجيا جزء من خطاب رفع سقف المطالب لأذلال الطرف الآخر وتخويفه واجباره على الركوع الى الشروط الروسية لحل النزاع.
خطورة الصراع الدائر بين الغرب واوكرانيا من جهة وروسيا من جهة اخرى هو ان القرار الذي يتخذ في الغرب لا زال يعبر او يخرج من المؤسسات الديمقراطية ذات التقاليد العريقة والمستقرة نسبيا وبالتالي هناك قدر من الأجماع المجتمعي او قناعة ما بما يجري في اروقة السياسة الخارجية كما هي الداخلية, اما في روسيا فأن من يتحكم بالقرار السياسي والعسكري هو بوتين وحاشيته, فهو القائد وهو من يقود المعارك ويخطط لها وهو يقرر وقف اطلاق النار او استمرار الحرب الى أجل غير معلوم, ويعتبر كل ما يصيب الشعب الروسي من مأساة وعزلة عن العالم وفقر وجوع هي مفدات لقائد الضرورة والملهم الأوحد.
نعم هناك قدر من الصبر وتحمل التضحيات في الغرب من اجل اوكرانيا ولكن رغيد العيش عندما يفقد امتيازاته اليومية ويعاني من شحة الخبز والوقود وارتفاع معدلات التضخم فلا ننتظر منه ان يكون مواليا ومناصرا لأوكرانيا كما هي البداية عندما كان في بحبوحة من عيشه, وكما نعلم ان الكثير من العقوبات الأقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا ستفضي الى تدمير وتعطيل الكثير من قطاعاته الأقتصادية ارتدادا, وبالتالي نحن هنا امام موجات من الأحتجاجات والرفض الشامل لضنك العيش المتسبب من العقوبات على روسيا, وبالتالي فأن المواطن الأوربي والأمريكي لا يتحمل فقدان الكثير من امتيازاته اليومية في العيش المرفه والتي يعتبرها من المسلمات غير القابلة على المساومة, وبالتالي فهناك الكثير الذي ينتظر الجبهة الداخلية الاوربية والامريكية من معاناة في تدهور مستوى الحياة المعيشية وان ذلك نذير بالمزيد من موجات الغضب الشعبي والاحتجاجات الرافضة لتدني مستويات العيش, وكذلك في التضييق على الحريات والحقوق المدنية.
مما هو لاشك فيه ان الخسائر جسيمة بالنسبة لكل اطراف الصراع الدائر بين الغرب واوكرانيا من جهة وروسيا من جهة اخرى, فقد بلغت الكلفة التقديرية لأعادة البناء في اوكرانيا بين 500 الى 750 مليار دولار جراء خراب البنية التحتية, كما ان الغرب بعقوباته على روسيا بلغت خسائره المرتدة بحدود 100 مليار دولار في مختلف القطاعات, اما روسيا فيقدر انفاقها العسكري اليومي على العمليات العسكرية في اوكرانيا مئات الملايين من الدولارات وبالتالي لا فائدة من عوائد النفط الروسي إلا في خدمة الآلة الحربية, اما خسائر العالم كله جراء الصراع الدائر فهي لا تقدر بثمن والناتجة من شحة المواد الغذائية وارتفاع الاسعار والتضخم والبطالة وانهيار الكثير من المشاريع الاقتصادية وتهديد العالم بمجاعة كارثية لم تمر بها من قبل او على الأقل منذ ثمانية عقود.
كثير من العوامل التي ساعدت على ديمومة الحرب دون أفق لأنطفائها, فمد اوكرانيا المستمر بالسلاح الغربي دون نتائج تغير من مسار المعارك لصالح الأوكرانين, سريعا مما يجعل الطرف الروسي اكثر شراسة في التمادي وقضم المزيد من الاراضي الأوكرانية مع انعدام الأفق في التغير السياسي من الداخل الروسي بفعل طبيعة الحكم المستعصية على التغير الآن. كما كان لتحريض دول منظومة المعسكر الأشتراكي السابق وجعلها رأس حربة الناتو او الخط الامامي له لمواجهة روسيا دون استدراك وفهم للعلاقات النفسية والروابط التاريخية المعقدة بين تلك البلدان وروسيا اليوم وكذلك الحال لبعض من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي اختارت الناتو والطريق الغربي كمستقبل لها هي اليوم تقع في ذات الاشكاليات التاريخية رغم حق البلدان جميعا في اختيار مسار تطورها الأقتصادي والسياسي وتقرير شكل انظمة الحكم فيها.
غياب نخب سياسية فاعلة تعي حقيقة اهمية السلام والأمن الدوليين سواء في اوكرانيا او روسيا لتجنب الوقوع في كوارث انسانية جراء ترجمة الأرث التاريخي بشكل خاطئ وعدم الاستفادة منه في بناء مستقبل آمن. وكان يجب على الأوكرانيين والعالم الغربي عدم الأستخفاف بالجانب الروسي فلديه تجربة عقود في الصراع مع الغرب في زمن الأتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الأشتراكي آنذاك وهي ذخيرة غنية تحت تصرف القيادة الروسية الحالية, الى جانب قصور النخبة السياسية الاوكرانية والتي يشار أليها دائما بسياسي الصدفة وعجزها في التعامل الانساني مع الأقليات الروسية في اوكرانيا, الى جانب سوء تقديرها في التعامل مع العقلية المخابراتية الروسية, وكانت استماتة الجانب الغربي ووقوفه غير مدروس العواقب الى جانب اوكرانيا والأنهيال بالعقوبات على روسيا هي مقاربة انتحارية ستفضي الى مزيدا من ابتعاد روسيا عن المجتمع الأوربي والبحث عن حلفاء جدد كما جرى لنفط وغاز روسيا وسيخسر الغرب المزيد من مزايا الأمكانيات الروسية واثرها على الاقتصاد الغربي, طبعا الى جانب تضرر روسيا وعزلتها اوربيا وامريكيا وبالتالي فأن اطراف الصراع جميعا قد اقدمت على تصميم محكم لنموذج فوضى عالمية قادمة.
الحروب لصيقة بنشأة المجتمعات الأنسانية وجزء لا يتجزأ من طبيعة الانسان وفطرته في المنافسة والأستحواذ على الغير ومن هنا جاءت النظم الديمقراطية لأعادة تشكيل وتهذيب الغرائز العدوانية لدى الأنسان عبر رسم حدود فاصلة بين حريتي واحترام حرية الآخرين, ومع هذا فأن الحروب عبر التاريخ تشكل مدخلا لأعادة بناء السلام والحفاظ عليه قدر الأمكان, وقد تنازلات الكثير من الأمبراطوريات عن املاكها لمصلحة ايقاف الحرب واعادة تقسيم ممتلكاتها بين الدول المتصارعة لضمان الأمن وعدم الأقتتال والحال كذلك مع الحرب العالمية الأولى والثانية التي انشأت عالم جديد من جمهوريات جيوبوليتيكة مختلفة والتي فك عقدها بعد انهيار الأتحاد السوفيتي والمعسكر الأشتراكي, ومن هنا يمكن القول ان الجغرافيا الجيوبوليتيكية هي جغرافيا متحركة وكما هي رهينة بظروف نشأتها فهي ايضا رهينة بعوامل انفكاك عقدها, وكما هي سنة الحياة لا يوجد ثابت مطلق ليست فقط في السياسة بل وحتى في الجغرافيا.
وقد استرعى اهتمامي تصريح عميد الدبلوماسية الأمريكية السابق هنري كسينجر في كلمته في منتدى دافوس، في 23من شهر أيار الماضي،حيث لفت كيسنجر إلى”مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي”، مشيراً إلى أن “موسكو كانت جزءاً أساسياً من أوروبا على مدى 400 عام، وكانت الضامن لتوازن القوة في أوروبا في الأوقات الحرجة”، معتبراً أنه “لا بد لأوكرانيا من أن تتخلى عن بعض الأراضي لروسيا” وأضاف الدبلوماسي الأميركي المخضرم أنه “لا يجب أن تغيب تلك العلاقة الطويلة الأمد عن أذهان القادة الأوروبيين، كما لا يجب أن يجازفوا بدفع روسيا إلى الدخول في تحالف دائم مع الصين” وأضاف الدبلوماسي الأميركي أنه “لا يجب أن تغيب تلك العلاقة الطويلة الأمد عن أذهان القادة الأوروبيين، كما لا يجب أن يجازفوا بدفع روسيا إلى الدخول في تحالف دائم مع الصين وحذّر من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، مشدداً على ضرورة دفع كييف إلى العودة إلى التفاوض، مؤكداً أن “الوضع الملائم لها هو الحياد، وأن تكون جسراً بين روسيا وأوروبا”. بالتأكيد ان هنري كيسينجر كانت يرى مصلحة امريكا في هذا كله وليست مصلحة العالم وامنه وبالتالي فأن تنازل اوكرانيا عن بعض من اراضيها لروسيا ليست حبا بروسيا فهو ادان العملية العسكرية بأشد العبارات ولكن بالنسبة له مصلحة امريكا فوق كل الأعتبارات الأنسانية فالرجل معروف ببراغماتيته السياسية طوال ممارسته العمل الدبلوماسي.
اعتقد ان قوة الدفع في تصريح هنري كيسينجر تكمن في ضرورة المفاوضات كخيار وحيد بين اطراف الصراع الدولي وكلمة كيسينجر هي اشبه بكلمة باطل اريد بها حق وليست العكس لأن التنازل عن الأرض لا يمكن قبوله إلا وقد اخفى ورائه اهداف اخرى, والحق في كلمته هو الجلوس على طاولة المفاوضات, وبالتأكيد انها مفاوضات صعبة جدا بعد تلك الأصطفافات الدولية ولكن اذا كان السلم العالمي والأمن الدولي مهددا بحرب عالمية ثالثة وفناء شامل فقد تكون تكلفة تجنب ذلك هو اقليم الدنباس ولو كان لأجل مرتهن بالتغيرات المرتقبة في الداخل الروسي والتي قد تشكل ممهدات لأعادة الأمور الى ما قبل العملية العسكرية الروسية التي اندلعت في 24 فبراير الماضي, اما عدا ذلك فأن التنازلات المشروعة للحفاظ على السلم العالمي هي مشروعة بقيمة نتائجها الأيجابية لاحقا في تجنب الكارثة المحدقة بالعالم كله كما يبقى حق الأوكرانيين في استعادة اراضيهم وفق القوانين والمواثيق الدولية عملا مشروعا بكل المقاييس.