إمبراطورية الحج: حروب البريطانيين والعثمانيين على بئر زمزم
كثيرة هي الكتب التي تناولت الصراع الاستعماري العثماني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكن ربما ما يمتاز به كتاب المؤرخ الأمريكي مايكل كريستوفر لو «إمبراطورية مكة: الجزيرة العربية العثمانية والحج في المحيط الهندي» أنه يقربنا أكثر من مشهد الصراع آنذاك على مكة وطقوسها الدينية. وأنه يأتي أحيانا بسردية مختلفة عن سرديات العثمانيين المتأخرة حول الوحدة الإسلامية. إذ يكشف الكتاب، خلافا لسياسات السلطان عبد الحميد في تشكيل عالم إسلامي وإحياء للخلافة، بحيث يكون الهنود المسلمون جزءا من هذا العالم، إنّ العمال العثمانيين وبرقياتهم كانت تحذر في الوقت ذاته من هؤلاء الهنود بوصفهم «أحصنة طروادة بريطانية» وليسوا عثمانيين.
في الكتاب أيضا، قصص أخرى عن الصراع الذي دار بين البريطانيين والعثمانيين على بئر زمزم المقدس. وهي قصص سيشارك فيها أطباء ودبلوماسيون وحتى صحف مثل صحيفة «التايمز» البريطانية، تروي لنا حكايا عن محاولة الأوروبيين إغلاق البئر بدعوى أنه يقف وراء انتشار الكوليرا في المنطقة. ولذلك نعثر هنا على فصول من تاريخ دنيوي حديث كان يتولّد على هامش تاريخه المقدّس القديم.
وقبل الخوض في بعض تفاصيله، لا بد من الإشارة إلى أن الكتاب صدر بالإنكليزية في عام 2020 عن جامعة كولومبيا، وحاز جائرة ألبرت حوراني من جمعية دراسات الشرق الأوسط. وقذ بذل المترجم ربيع هندي جهدا كبيرا في نقله للعربية، لكن ما يلاحظ هنا أن النسخة العربية جاءت بعنوان آخر «إدارة الحج إلى مكة».
وبعيدا عن عالم التحرير العربي وقراراته التي تبدو لنا أحيانا غير مفهومة، يرى المؤلف كريستوفر لوفر أنه في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر كانت مكة قد تحولت إلى ملاذ آمن للمئات من الهنود المعارضين للحكم البريطاني، الذين استقرّوا في الحجاز ووجدوه ملجأ لهم، بينما رأت فيهم الحكومة العثمانية رموزا للدفاع عن سيادتها في وجه بريطانيا. ومن بين هؤلاء فاضل بن علوي ومولانا رحمة الله القيرواني، وهذا ما مثّل فرصة لهم لمدّ نفوذهم في الهند وحضرموت.
وبالتوازي مع هذه التطورات، عرفت الحجاز في هذه الفترة حالة من الاحتقان، بالأخص من قبل تجار جدة المحليين، تجاه تدخلات الأوروبيين. وقد أدى هذا الاحتقان في عام 1858 إلى حدوث مذبحة سكان جدة النصارى، ورغم أنّ الأحداث كشفت لاحقا أنّ من وقف وراءها رجال محليون (المحتسب) وتجار حضارمة، بسبب دور البريطانيين في إنهاء سيطرتهم على تجارة الملح ووقف تجارة الرق، إلا أنّ بريطانيا بقيت تصرّ على أنّ من خططت لها مجموعة من الهنود الفارين، ما جعلها تنظر إلى مكة بوصفها فردوسا للمناهضين للاستعمار، وهذا ما نراه بشكل واضح في إحدى رسائل القنصل البريطاني جيمس نابليون زهراب، الذي كتب في عام 1879: ولاية الحجاز هي المركز الذي تطرح فيه أفكار وآراء ومشاعر وتطلعات العالم المسلم للنقاش. إن الاجتماع السنوي في وقت محدد ظاهريا لأغراض الحج من كل مجتمع مسلم، يوفر وسيلة لا تثير الشكوك لتبادل الآراء ومناقشة الخطط.
من هنا أخذ المسؤولون البريطانيون يدعون إلى ضرورة أن يصبح عالم الحج «تحت رعاية الإنكليز». وفي مقابل هذا الذعر وجد المستشرق الهولندي سنوك هرخرونيه أنّ هذا الخوف الاستعماري من الحج مبالغ فيه، لأنّ «الغالبية العظمى من الحجاج عادوا إلى ديارهم تماما، كما خرجوا منها «خرافا لا متمردين». مع ذلك عاد ليؤكد أنّ الخطر الحقيقي للحجاج يكمن في «شبكات المنفيين والطلاب، الذين لجأوا إلى العديد من السكان غير الأصليين في مكة، مستغلين حجة الحج في الدعاية والترويج للزوار» وهنا سيلاحظ مؤلف الكتاب أنّ هذا الشعور والقلق سيدفع البريطانيين لاحقا إلى الانخراط أكثر في إدارة أعمال ونقل الحج. فبعد أن كان العثمانيون هم من يشرف على هذه العملية، وجدوا أمامهم فاعلين آخرين ينافسونهم على إدارة إمبراطورية الحج. ومع مرور الوقت، أدى هذا الاهتمام الإثنوغرافي المتزايد بالشؤون اليومية للحجاز والحج، إلى تحول وإعادة توازن المخاوف البريطانية من نظريات المؤامرة والتخريب، إلى الآليات اليومية لإدارة الحج. وهذا ما نراه واضحا من خلال رسائل العميل البريطاني عبد الرزاق (البنغالي) مساعد الجراح في الخدمة الطبية. فمع مرور الأيام في وظيفته، نرى أنّ رسائله باتت تركّز أكثر على موضوع تخفيف معاناة الحجاج العاديين، ووجد نفسه منخرطا في ترجمة أصوات المسلمين إلى لغة يمكن أن تفهمها الدولة الاستعمارية.
وفي ظل هذا التحدي البريطاني، كان عمال الدولة العثمانية يعيدون النظر في مشروع الوحدة الإسلامية الذي حاول السلطان عبد الحميد لاحقا الترويج له. وأول هذه المراجعات جاءت مع تغير النظرة تجاه الهنود المسلمين، الذين لم يعودوا وفقا لتقارير المسؤولين العثمانيين جزءا من العالم الإسلامي العثماني المشتهى، بل باعتبارهم جزءا من الإمبراطورية البريطانية، فهم مسلمون بريطانيون وأحصنة طروادة تحمل عن غير قصد حصانة أوروبية. وهذا ما سينعكس لاحقا من خلال منع الهنود من شراء عقارات في مكة والمدينة، وعدم الموافقة على تغيير الملكية في حال زواج النساء العثمانيات من الهنود المسلمين، كما سينص قانون الجنسية العثمانية لعام 1869 على سحب الجنسية العثمانية من النساء اللواتي يتزوجن من رعايا أجانب.
حروب حول بئر زمزم
لكن فصول الصراع العثماني البريطاني على عالم الحج لن تقف عند هذا الحد. ففي 19 أيلول/سبتمبر 1891، وصلت سفينة من الحجاز إلى إسطنبول وبعد أيام اكتشف أنّ أحد راكبيها، ويدعى حاج مصطفى ويقطن في حي بيه أوغلو، أصيب بالكوليرا، وسرعان ما ستفجر هذه الحادثة حروبا طبية بين البريطانيين والعثمانيين عن أسباب انتشار الكوليرا في الحجاز. إذ سيندفع العثمانيون إلى اتهام البريطانيين بالمسؤولية عن نقل الكوليرا من خلال الهنود، ما سيجعلهم لاحقا يتبنّون سياسات صحية جديدة تجاه الحجاج، مثل بناء أماكن للحجر والمراقبة الطبية على سواحل المحيط الهندي بما يضمن فحص الحجاج القادمين من الهند إلى الحجاز.
أيديولوجية الوحدة الإسلامية الرسمية أخذت تتعارض مع السياسات العثمانية اليومية حيال المسلمين الهنود في الحجاز. في المقابل نرى أن البريطانيين ظلوا رغم هذه الشروط العثمانية، يحاولون تقديم الدعم للهنود المسلمين الفقراء لتجاوز هذه العقبات، ما أظهرهم أحيانا بوصفهم المدافعين عن الحرية الدينية للمسلمين خلافا للبلاغة العثمانية الإسلامية.
لكن في النهاية، أدّت هذه السياسات إلى أن تصبح مكة جزءا من الأرخبيل الهندي، الذي كانت تديره بريطانيا من ناحية، كما أن جهود مكافحة الكوليرا ستقود السلطنة العثمانية إلى التعمق في الشؤون اليومية للحجاز أكثر مما سبق. لذلك فإنّ من الخلاصات التي يصل إليها المؤلف هنا أنّ السياسات الإصلاحية العثمانية التي تشكلت لاحقا حول الحجاز في بدايات القرن العشرين، تولدت عن سياسات الحج والمراقبة على الحجاج التي انتهجها العثمانيون قبلها بعقود. مع ذلك لن يوافق البريطانيون على هذه السياسات العثمانية الصحية، إذ أصرّوا على أنّ الكوليرا ليست ناجمة عن الهنود أو السفن البريطانية الناقلة لهم، بل هي في الأساس وليدة البيئة غير الصحية، ما يعني أنّ إجراءات الحجر الصحي غير ناجعة، ولذلك سيرسل القنصل البريطاني في جدة في عام 1881 عينة من ماء زمزم إلى لندن من أجل تحليلها كيميائيا، وهناك سينشر أحد الأطباء نتائج هذا الفحص في صحيفة «التايمز» إذ ادّعى أنّ مياه زمزم المقدسة ملوثة بوساطة فضلات الحيوانات ستة أضعاف أكثر من مجاري لندن، وأنّ نظام تصريف الفضلات في مكة مسؤول عن تلوث المياه الجوفية التي تغذّي البئر، ولخّص كلامه قائلا، «لا شك في أنّ محيط ماء زمزم هو مصدر الكوليرا الرئيس».
وقد اعتبرت المؤسسة الصحية العثمانية هذا الهجوم على بئر زمزم إعلانا مسيئا للإسلام، وردا على تحميل زمزم مسؤولية انتشار الكوليرا، ساروا في نظام حجر صحي أوسع. كما أنهم اقترحوا نظاما آخر لاستقبال الحجاج، يقوم على فكرة وجود جواز سفر لكل حاج قادر على تحمل تكاليف العيش. إذ وجد بعض المسؤولين العثمانيين أيضا، أنّ هناك سياسات بريطانية مقصودة لإرسال الفقراء الهنود بحجة الحج، وذلك من «باب تطهير البلد من الكسإلى» ما أدى حسب هؤلاء المسؤولين إلى أن تغدو الحجاز مكتظة بآلاف المتسولين الذين أخذوا ينشرون الأوبئة والآفات في أماكن وجود العثمانيين. وهنا نلاحظ أن أيديولوجية الوحدة الإسلامية الرسمية أخذت تتعارض مع السياسات العثمانية اليومية حيال المسلمين الهنود في الحجاز.
في المقابل نرى أن البريطانيين ظلوا رغم هذه الشروط العثمانية، يحاولون تقديم الدعم للهنود المسلمين الفقراء لتجاوز هذه العقبات، ما أظهرهم أحيانا بوصفهم المدافعين عن الحرية الدينية للمسلمين خلافا للبلاغة العثمانية الإسلامية. ومما يلاحظه المؤلف أيضا أنّ هذه السياسات البريطانية الساعية نحو إدارة عالم الحج والتحكم فيه، ستتطور مع نهاية الحرب العالمية الأولى من خلال دعوة بعض المسؤولين البريطانيين إلى أنه من الممكن أن ينسقوا بين استعادة الخلافة وإصلاح الإسلام في الوقت ذاته، بما يتوافق مع القيم البريطانية «للحرية الإنسانية والتنوير» لكن هذه الرؤية ستصطدم بعدم قبول المسلمين في أفغانستان والهند في تنصيب الشريف حسين خليفة للمسلمين، قبل أن يأتي الملك عبد العزيز بن سعود، ويشن هجوما على مكة في الرابع من سبتمبر عام 1924، وبذلك انهارت عقود من الأوهام البريطانية الهادفة إلى السيطرة على عالم الحج من خلال خلق خلافة عربية ضعيفة.
وعلى الرغم من اكتساب السعوديين سلطة سياسية ودينية على العوامل البرية للحج في عام 1926، إلا أنّ السيطرة الاستعمارية على الحج استمرت حتى عامي 1956ـ 1957. ومع استقلال الهند وباكستان في عام 1947 خسرت بريطانيا دورها في تنظيم الحج، ومع استقلال إندونيسيا في عام 1949، تفكّك منطق الحج الاستعماري أكثر فأكثر. وجاءت لاحقا أزمة السويس وفرض السعودية حظرا نفطيا على بريطانيا وفرنسا، لتنهي زمن سيادة البريطانيين على امبراطورية الحج الإسلامي. ومع وصول رعايا الحجاج المتبقين في بريطانيا في عام 1957، لم يكن هناك وجود دبلوماسي بريطاني ليستقبلهم في جدة وذلك للمرة الأولى منذ قرون.