من دروس الديمقراطية: بريطانيا أنموذجا
يتمادى بعض الزعماء الديمقراطيين في غيهم ويأخذهم الزهو بعد تحقيق فوز كبير وأغلبية برلمانية ساحقة فيطوون كتاب الديمقراطية المقدس ويضعونه على الرف، ثم يحاولون السير خارج مساراتها وينسون مقاساتها، ظنا منهم أن البرلمان لن يقول سوى كلمة نعم، وأن تاريخ الصلاحية لفعل الديمقراطية قد أنتهى. هكذا تصور رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، لكن الديمقراطية كتبت نهايته بدراما شبيهة بنهاية أباطرة روما القديمة. فما الذي حدث؟
يعتبر الرجل من طراز الساسة غير التقليديين وأصحاب الشخصية القوية، ويتمتع بقدرات فائقة على كسب الجمهور، والتعاطي مع الأحداث بإرادة صلبة. كما أنه غالبا ما يختار وسائل غير مطروقة عند ممارسة سلوكه السياسي اليومي على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويتمتع بروح اقتحامية تعطي الانطباع بأنه عنيد لا يُقاوم. يضاف الى كل ذلك مواصفات شخصية في الشكل والمظهر، وتعابير غير تقليدية في تصريحاته أحبتها فئات من الشارع البريطاني. هذه الصفات وغيرها جعلت منه رمزا كبيرا من رموز حزب المحافظين. فله يعود الفضل في تحقيق الحزب فوز تاريخي في العام 2019، وتشكيل أكبر أغلبية برلمانية في مجلس العموم البريطاني، لم يحصل عليها منذ فوز رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر في العام 1987. كان أداؤه السياسي عاملا حاسما في تحقيق اختراقات مهمة لحزب المحافظين، في معاقل وجماهير أحزاب بريطانية أخرى منها حزب العمال البريطاني، لكن المعضلة الكبرى في هذه الشخصية أنه لم يقم أي وزن للمنظومة القيمية داخل المجتمع البريطاني، ولم يأخذ بنظر الاعتبار الثقافة السياسية الحزبية، وبالتحديد في حزب المحافظين الذي يتزعمه.
إن الانقلاب الذي حصل ضد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لم يكن مفاجئا إطلاقا بل كانت كل التكهنات تشير إلى أنه بات ظاهرة مؤقتة وغير مطروقه، ولابد أن ينتهي مشواره اليوم أو غدا. فالمنظومة السلوكية التي كان يتصف بها وهي الكذب المتكرر والمراوغة والخداع، اصطدمت مع الثقافة السياسية والمنظومة القيمية للحزب والجمهور أيضا، خاصة محاولته إخفاء مسألة حساسة وكبرى في المجتمع البريطاني، وهي مسألة التحرش الجنسي، حيث لم يتردد في ترقية أحد أعضاء حزبه الى منصب أعلى في الحزب، نائب رئيس الانضباط في الحزب، على الرغم من أنه كان يعلم بأن هذا الشخص لديه سلوك يقع في خانة التحرش الجنسي. صحيح أن المجتمع البريطاني يتصف بأنه مجتمع منفتح وعصري وحداثي حاله حال غالبية المجتمعات الغربية، ويتعامل مع موضوعة الحريات الشخصية والامور الجنسية بشكل منفتح، لكن كل ذلك مقيد بشيء واحد وهو أن تقع هذه الأفعال فقط في إطار الإرادة والقبول من الطرفين، وليس في إطار التحرش الجنسي غير المقبول، والذي يقع في النصوص القانونية في خانة الجُرم. يضاف الى ذلك ممارسات متكررة من الكذب والخداع قام بها قبل وصوله الى سدة الرئاسة في الحكومة واستمرت معه الى اليوم، مثل ادعائه بأن البقاء في الاتحاد الأوروبي كان يُكلّف الخزينة البريطانية 350 مليون جنيه استرليني أسبوعيا، في حين تبين أن ذلك غير صحيح. كما أُنتقد وبشدة على موقفه الأولي من وباء كورونا، عندما حاول التقليل من شأن الوباء، ثم بعد استفحاله صرح للبريطانيين بأنهم سوف يفقدون الكثير من أحبائهم، بسبب عدم قدرة النظام الصحي على معالجة الموقف. وفي خضم طلبه من الناس منع التجمع والتزام بيوتهم، وعدم الخروج إلا للضرورة كي لا ينتشر الوباء، تبين أنه وزملاءه في الحكومة كانوا يتجمعون في مناسبات شخصية لتناول المشروبات الكحولية. وكالعادة أنكر فعل ذلك في بداية الامر، لكن التحقيقات أثبتت ذلك وقامت الشرطة بتغريمه بسبب كسره تعليمات الإغلاق المجتمعي.
قد يكتب التاريخ منجزات الزعيم السياسي لكن الديمقراطية لا تعترف بالماضي لأنها عمل مستقبلي وتطوير لمسالك السياسة نحو الأفضل
لقد تضافرت قوى عديدة للتخلص من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بعض هذه القوى كان يعارض خروج المملكة المتحدة من المجموعة الأوروبية، وكانت تعتبره مهندس الخروج من الاتحاد. البعض الآخر كان يرى فيه منافسا غير شريف على صعيد العمل الحزبي. قوى ثالثة كانت لديها خلافات شخصية معه بسبب أسلوبه التهجمي واستهزائه بالآخرين. وقد أنتج تضافر هذه القوى رأيا عاما يركز على سلوكه الشخصي وليس على إنجازاته في مجالات عمله الحكومي. كما ساد في حزب المحافظين جو من الشك والريبة حول مستقبلهم السياسي، على اعتبار أن السلوكيات المشينة للرجل بدأت تأكل من شعبية الحزب، بعد أن خسر عددا من المقاعد النيابية في الانتخابات التكميلية في بعض المناطق، التي كانت تُعتبر معاقل للحزب. يضاف الى ذلك الوضع الاقتصادي السيء الذي تمر به المملكة المتحدة، حيث نسب التضخم غير المتوقعة والأزمة الغذائية، والذي يلقي المواطن البريطاني المسؤولية فيها على عاتق الحكومة. كل هذه العوامل وضعها الحزب في تصوراته، لأن المطلوب منه أداء سياسي متميز يحفظ له تقدما على حزب العمال المعارض في الانتخابات التشريعية المقبلة في العام 2024. لذلك كان لابد من إزاحة رئيس الوزراء بعد أن أصبح عبئا على الحزب. وما يحسب لهذا الحزب الذي يعتبر من أنجح وأقدر الأحزاب في أوروبا وفي تاريخ الديمقراطيات، أن لديه القدرة على تطوير نفسه، والتكيف مع الأوضاع المختلفة والتخلص من كل العوائق التي تعترض مسيرته.
إن الأزمة السياسية البريطانية الحالية تعطي درسا واضحا على قدرة الديمقراطية في إصلاح المسارات الخاطئة والمتعرجة حتى في الأنظمة الديمقراطية، وكيفية تجبير الانكسارات الحادة وبث دماء جديدة في العمل السياسي. لم يكن جونسون يعتقد أن أقرب حلفائه وأصدقائه ومناصريه يمكن أن يتخلوا عنه في لحظة واحدة. كانت استقالات أكثر من خمسين وزيرا ومساعد وزير ومسؤولين كبار في الحكومة خلال أقل من يومين فقط، والمتسلحين بالديمقراطية ومصلحة الوطن والحزب، أقوى من سلطته التي حصل عليها بالفوز التاريخي في العام 2019. كما أنها حطمت الحصانة التي حصل عليها لمدة سنة، بعد نجاته من التصويت على سحب الثقة منه في السادس من حزيران/ يونيو الماضي. وحتى عندما تشبث بهذه الحصانة واعتبرها صك الغفران له، قالوا له إنهم قادرون على تغيير القواعد التي تمت في ضوئها نجاته من سحب الثقة. في نهاية المطاف لم يجد غير الانصياع لشروط الديمقراطية وقوانينها وأحكامها، التي لن تأخذ بنظر الاعتبار ما فعله الزعيم السياسي من إنجازات سابقة، فتعطيه صك الغفران عما سيفعله مستقبلا من أخطاء. قد يكتب التاريخ في صفحاته منجزات الزعيم السياسي، لكن الديمقراطية لا تعترف بالماضي، لأنها عمل مستقبلي وتطوير لمسالك السياسة نحو الأفضل، لذلك عندما حاول جونسون في خطاب الاستقالة من زعامة الحزب أن يعدد إنجازات حكومته، وأن يبدو متفائلا أمام موظفي مقر الحكومة والصحافيين، كانت مكبرات الصوت القريبة من المكان تضج بأصوات الجماهير الغاضبة والمطالبة له بالتنحي عن الحكومة وليس الحزب فقط، بينما كانت كوادر الحزب تردد المطلب نفسه.
أستاذ في العلاقات الدولية