القتل حباً
ذلك الصباح من عام 1981 اتصلت هاتفياً بصديقتي العراقية الحبيبة بلقيس، زوجة نزار قباني، وقلت لها: أشعر بالرغبة في الذهاب إلى الجبل والغداء هناك. زوجي مسافر ولا أدري لماذا أشعر بالاختناق اليوم في بيروت. وكانت يومئذ تعمل في السفارة العراقية في بيروت، ولكن بلقيس الراوي اعتذرت لأنها لا تستطيع التخلف عن العمل. وكلمت الأديبة ديزي الأمير حيث كانت تعمل أيضاً في السفارة، وقالت إنها على وشك مغادرتها، وقلت لهما: سأذهب وحدي أتأمل بيروت من بعيد، وحين عدت من غدائي المنفرد فوجئت بخبر مروع: لقد فجروا السفارة العراقية وقتلت بلقيس! (ونجت ديزي الأمير لموعدها خارج السفارة).
العراقية المرهفة
أحزنني رحيل بلقيس الرائعة، أحزنني على نحو مضاعف، فقد كانت تلك العراقية التي تجسد أخلاق وطنها الحبيب العراق صديقتي الحميمة وأختي العزيزة ولا يمر يوم دون أن نتواصل أو نلتقي.
مرة اتصل بي نزار قباني لدعوتي للعشاء بمناسبة عيد ميلادي، وقال إنه قام بدعوة بعض الأصدقاء إلى مطعم على شاطئ البحر البيروتي. واعتذرت. وقلت له إنني لا أحب عيد ميلادي لأنه يذكرني بموت أمي! وطلبت منه أن يعيد قراءة قصيدة له كان قد كتبها في رثاء أمي وألقاها في حفل تأبينها في مدرج جامعة دمشق، وكان في مطلع الشباب ويحمل لأمي كتاباتها الكثير من الاحترام والمحبة. غضب نزار لرفضي، لم يكن يطيق أن يقول له أحد لا.
أما بلقيس المرهفة فقد فهمت، وصباح اليوم التالي قُرع باب بيتي وفتحت الباب. فوجئت أمامه (بقالب من الغاتوه) بشكل بومة (بلقيس كانت تعرف حبي للبومة) وإلى جانب (الغاتوه) علبة فيها أكواب من الكريستال بشكل بومة وما زلت أحتفظ بها. من يستطيع أن ينسى مخلوقة رقيقة المشاعر مثل بلقيس؟ حملت هي هدية ميلادي وتركتها أمام بابي.
جمال بلقيس ورثاء نزار
تحدثت أولاً عن بلقيس كامرأة مرهفة، لكنني لن أنسى التحدث عنها كسيدة جميلة جداً.. يقول نزار في قصيدة لرثائها: بلقيس/يا كنزاً خرافياً/وغابة خيزران/يا من تحديت النجوم ترفعاً/من أين جئت بكل هذا العنفوان؟ ويكتب أيضاً أنها:
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل/أطول النخلات في أرض العراق/كانت إذا تمشي ترافقها طواويس وتتبعها أيائل/بلقيس هذه ليست مرثية/لكن على العرب السلام.
الندم لأنني لم أرغمها
هل كان عليّ إرغامها على مرافقتي إلى الجبل؟ ولو فعلت لنجت من الانفجار الذي قتلها.. لا نستطيع الهرب من قدرنا..
لكنني أتذكر لحظات عشناها معاً. أتذكر.. أتذكر كم دعمتني، فذات يوم وأنا أنجز إحدى رواياتي تركتني عاملتي المنزلية في توقيت غير مناسب للكتابة، وفي مخابراتنا اليومية الهاتفية شكوت لبلقيس ذلك، فجاءت بعد نصف ساعة وتركت لي عاملتها المنزلية ريثما أنجز روايتي!
وما زلت أبحث عن صديقة عراقية تحل محل بلقيس، ولكن ذلك مستحيل. كثيرات وكثيرون لاحظوا جمالها الخارجي، الدكتورة نادية العزاوي مثلاً قالت إن ضفيرة بلقيس كانت أجمل ضفيرة شاهدتها في حياتها. وباختصار، كانت بلقيس غاية في الجمال، ولكن جمالها الداخلي ورهافتها وإنسانيتها أجمل ما فيها. ولم يدهشني أن نزار لم يتزوج بعدها.
مصرع ماري وموت والدها
جان لوي ترانتينيان، النجم الفرنسي المشهور، قام مع بريجيت باردو بالتمثيل معاً في بداية رحلتهما في السينما، ومع «أنوك ايميه» في فيلم (رجل وامرأة) الذي عرض يومها في بيروت ولقي إقبالاً، وغيرها من الأفلام.
جان لوي ترانينيان توفي منذ شهر. كلنا سنموت ولا جديد في الخبر. ثم إنه مات وعمره 91 سنة. ولكن قبل وفاته، أعلن أنه مات يوم مصرع ابنته ماري.. مات معها لحظة قتلها قبل 20 سنة. وكان نادماً لأنه لم يذهب للقائها يوم موتها، فقد منعه عائق ما، وكان يتعذب لأنه لو ذهب إلى موعدهما لما قتلها عشيقها المغني برتران كانتات!
ماذا حدث ولماذا قتل برتران كانتات عشيقته ماري ترانتينيان بعد غرام ملتهب خانا فيه الزوجة والزوج؟ حدث أنهما شربا الكثير من الكحول وتناولا الكثير من المخدرات وتحولا من إنسانيين إلى مخلوق متوحش.. إنها لعنة الكحول والمخدرات.
شجار حتى الموت
وهكذا حين تشاجرا ضرب برتران ماري وضربته، وتضاربا كوحوش الغابة، فالكحول والمخدرات تجعل الإنسان يقترف ما يندم عليه.
وخلال الشجار والتضارب المتبادل، سقطت ماري ترنتينيان على الأرض (ابنة جان لوي ترنتينيان) وحملها عشيقها إلى السرير ثم اكتشف أنها كانت قد ماتت! وحكم عليه بالسجن 7 سنوات قضاها كلها سجيناً، ولكنه حين غادره اكتشف أنه صار إلى الأبد سجيناً لكراهية النساء له، وأن مستقبله كمطرب انتهى.
العقاب النسائي الاجتماعي
حين أعلن برتران كانتات عن حفل غنائي سيقيمه، فوجئ بتظاهرة نسائية تمنع بيع التذاكر أو الدخول إلى حفله الغنائي. وهكذا بعد السجن أضحى سجيناً لكراهية النساء له، لأنه قتل امرأة دونما مبرر يذكر.
وإذا كان كل شجار (غرامي) سينتهي إلى الموت، فمن حق النساء معاقبة القاتل بعد أن يخرج من السجن.
ويبدو أن النساء لم يعدن يطقن العنف الذكوري ضدهن.
من طرفي، أعتقد أنهما لو لم يتناولا (الكحول مع المخدرات المنبهة) لكان بوسعهما الجلوس وحل مشاكلهما بأداة الحوار بدلاً من التضارب والقتل.
ولن أتعب يوماً من التحذير من الإفراط في الكحول والمخدرات: والنهاية هي ببساطة الدمار.