المعلم الكبير
لودميلا أوليتسكايا
في الوقت الذي كان فيه شارع فارفاركو يسمى شارع رازين، ومكتبة الأدب الأجنبي لم تتحول بعد فيه من هناك الى البناية الجديدة في كوتيلنيكي، بدأ غيناديتوتشكين يدرس اللغة الألمانية لحاله وبصورة جدية، وكان يهوى الذهاب الى هناك عدة مرات في الأسبوع ويضل جالساً فيها الى موعد الإغلاق.
وطبعاً كان الأفضل له لو التجأ الىإحدى الدورات، لكن وردية عمله في المصنع جرت وفق جدول متحرك،أما الدورات فكانت تعمل وفق تقويم صارم : اثنين- أربعاء – جمعة . . يصعب تفسير الظهور المفاجئ للرغبة الغريبة بدراسة اللغة الألمانية عنده وهو الشاب المنحدر من أسرة بسيطة والذي يعمل مركِّباً في مصنع الساعات الثاني.
إنَّ الرجال الشباب من أترابه العاملين معه كانت تنتابهم أحياناً كذلك رغبة جامحة نحو شيء ما سامِ وغير اعتيادي واعتادوا في مثل هذه الحالات أن يشتروا البيرة أو الفودكا ويتحاورون وهم يشربون حتى انقضاء الوقت أو النقود.
لكن غينادي لم يحب الشرب , فقد مات والده بسبب الإدمان على الكحول، وان كان يقال في تلك السنين إنَّالإدمان علة وراثية، فان غينيا (تصغير اسم غينادي للتحبب – م )، على العكس لم يطق السكر بطبيعته كلها، ولهذا فهو حتى لم يكتسب أصدقاء في المصنع : إذ كان يشعر بالضجر بين الرجال وعلى العموم كان عدد النساء في المصنع أكثر، فهن يعملن في التجميع، وكنَّ يبدون لغينياعلى خط التجميع متشابهات كساعات “بوبيدا” الخارجة في نهاية المطاف من خط التجميع.
وازدادت الوحدة عليه بعد أيضاً لأن أمه، بعد عودته من الجيش، قامت بتبادل الشقق فسجلت معها في الشقة جدة غينيا الكساندرا ايفانوفنا التي أقعدها عجز الشيخوخة، وحوّلت غينا الى غرفتها الجيدة في شقة تسكنها عدة عائلات في زقاق اوروجيني , سكنت في الغرفات السبعة للشقة الطويلة الشبيهة بعربة قطار أربع عائلات كبيرة, وثلاثة عزاب, غينادي نفسه, والعانس المسنة بولينا ايفانوفنا البخيلة المولعة بالنظافة والمدرسية البعيدة عن العمل اليدوي, وشخص ما يدعى كوبيليس, وهو عجوز ذو رأس كبير يعلو جسداً نحيفاً شبيهاً بالعنكبوت, يقول انه لاتفي, لكن الجيران يضنونه يهودياً, غير أنهممخطئون لأنه في حقيقة الأمر ألماني يخفي أصله.
والبقية هم عائلة الشرطي ليفتشينكو وهو شخص ماهر وخبيث، لكنه سكير خفي، وعائلة آل كوروتكوف, الأم وبنتاها البالغتان والأب شبه المشلول الذي لم يره احد رُأي العين، وعائلة طبيب الأسنان لابوتين الذي يعالج في المنزل بخفاء والذي يفتح أثناء زيارات المراجعين اسطوانة واحدة بعينها ذات موسيقى صاخبة لكي يغطي على ضجيج آلة الحفر , والغرفة الرابعة ابعد الغرف عن المدخل تقطنها عائلة كومانكوف برئاسة الإسكافي مقطوع الرجلين كوستيا , كان عدد آل كومانكوف غير محدد, لكنه دائماً يزيد على السبعة , تارة يموت احد ما عندهم وتارة يولد مولود جديد, وتارة أخرى يدخل احدهم السجن.
لمّا رأى غيناد يأنواع القذارة والفقر والصلافة، وراقب أعياد الجيران التي تنتهي بشجار، والشجارات التي تنتهي بالسكر شعر نحوهم جميعاً بلا استثناء باشمئزاز مقزز , نحو المختل كومانكوف الذي يقذف أولاده الصغار وزوجته المعتوهة بكل ما يقع بيده، ونحو الشحيحة بولينا ايفانوفنا التي تسرق بقايا الصابون من مغسلة المطبخ، ونحو العنكبوت الهادئكوبيليس الذي يتسلل الى المطبخ في الليالي حاملاً إبريق قهوته.
وأكثر من ضايق غينادي هو كوبيليس على وجه الخصوص : فالجدار بينهما كان مشتركاً ونفّاذاً للصوت وكان غينادي مجبوراً على ان يسمع من الليل الى الصباح الأنين والسعال وتنهدات متكررة وأصوات مص الحقنة الشرجية المفرغة والممتلئة من جديد التي يضعها كوبيليس لنفسه، والإنفلاتات الرقيقة لغازات أمعاءه الغليظة , لا يستعمل هذا الجار المرحاض المشترك، فهو لديه وعاء ليلي شخصي يخرجه في الليل قبل أن يغلي القهوة , وكان غينا يسمع من غير قصد كيف يقعقع بالطست وراء الجدار ويغسل مؤخرته القذرة ويحتسي القهوة , كان يأتيه ضيوف مرتين في الشهر، عادة أيام السبت, وهم في الغالب من الرجال ويخوضون بأحاديث مفعمة بالحيوية.
وعلى الرغم من المظهر الخارجي المرضي تماماً، وعمر ما بعد الخدمة العسكرية، والظرف الخاص للتواجد في جماعة تركيز النساء فيها في المتر المربع الإنتاجي يفوق تركيز الرجال بعشرات المرات، وهذا ما كان واضحاً بشكل خاص في المطعم، في ساعة الغداء، إلا أن غينادي لم يكتسب لنفسه صديقة , مع انه منذ اول قدومه الى المصنع تعرض للمضايقة من طرف الفتيات و العمّات (متوسطات السن) بشكل فج وعلى نطاق واسع , وهذا ما صده عن النظر إليهن , إضافة الى هذا كانت لديه صدمة من أيام الصبا : فقد التقى بإحدى الفتيات قبل الخدمة العسكرية، وهذه وعدته أن تنتظر عودته، لكنها في السنة الثانية من الخدمة تزوجت من غيره.
وصار الآن كالعانس : لا لأن جنس النساء لا يثير مشاعره تماماً، لكنه الخوف من مكر النساء تغلب على الرغبة نحوهن , فمن حين لآخر كانت إحدى فتيات المصنع تدعوه الى السينما او الرقص , في البداية شعر بحرج شديد، متذرعاً في كل مرة بعذر ما مناسب للتهرب، ومن ثم اخترع عذراً واحداً لجميع الحالات : في هذا اليوم بالذات لا استطيع، لأني وعدت أمي أن أزورها . . وحتى انه أحياناً من الحماقة لكي يكون صادقاً كان يزور أمه في ذلك اليوم، لكنه في الكثير من الأحيان يقضي أمسيته في المكتبة , وتعرفه القليل على أشخاص جدد جرى أيضاً في المكتبة، وهؤلاء الناس لم يشبهوا بشيء معارفه السابقين في المدرسة وفي الجيش وفي المصنع.
كان أكثر معارفه قيمة ليونيد سيرغييفيتش، وهو رجل في منتصف العمر،ممتلئ قليلاً طويل الشعر وقور، لكنه رث الى حد ما , تطلع احدهما الى الآخر طويلاً و القيا نظرات على أغلفة الكتب التي أخذوها من المنضدة قبل أن يتوجه ليونيد سيرغييفيتشالى غينا أولاً . . قائلاً انه توجد مناهج وكتب مدرسية باللغة الألمانية أفضل بكثير من تلك التي في يديه، وهنا أراه عدة كتب في درج الدليل , وبعد هذه الحادثة عندما يتواجهان في القاعة او في الممر كانا يتبادلان أطراف الحديث في البداية عن اللغة الألمانية، التي تحدث عنها صاحبه الجديد وكأنها كائن حي وحبيب مشيراً الى مزاياها العظيمة:
– إنها بالثراء المفرداتي شبيهة تقريباً باللغة الروسية ! ورفع يديه الى السماء, ولكن ليس عالياً جداً، بل بمستوى الكتف , ولكن الصيغ القواعدية متنوعة أكثر مما في اللغة الروسية بكثير ! فهي لغة غاية في التنظيم ! تسمح بالتعبير عن العلاقات الزمنية بشكل دقيق ! .
ليونيد سيرغييفيتش يتقن اللغة الألمانية بشكل ممتاز، لكن ترجماته على العموم ليس من الألمانية، بل من لغات أخرى من المنغولية والهندية والأوردو, ومن الفارسية والتركية , باختصار من أي لغة أخرى وقام بترجمة أشعار بصورة حرفية، وهذا وحده ما ميز ليونيد سيرغييفيتش بشكل كبير عن بقية البشر , لكن القضية الرئيسة لحياة هذا العالم والسيد الكهل على كل حال كانت الترجمات من اللغة الألمانية،وعلاوة على ذلك لمؤلف واحد على وجه التخصيص.
مرّت شهور كثيرة, رافق غينا خلالها ليونيد سيرغييفيتش في طريقه الى البيت وتحدث تحت المطر والثلج عن أمور مدهشة مختلفة, قبل أن يؤتمن غينا على اسم المعلم العظيم الذي قام ليونيد سيرغييفيتش بالذات بترجمة كتبه من جديد الى اللغة الروسية.
ألا ترى , يا غينا ، أن لا شيء في حياة الإنسان مطلقاً يحدث صدفة، حتى حديثنا هذا اليوم يكمن في خطة عظيمة للخالق منذ اللحظة الأولى لخلق العالم.
وهنا أخذت الرجفة غينا في ظهره من رقبته الى عصعصه لأنه تشرب بعظمة اللحظة . . شخص مدهش ليونيد سيرغييفيتش، ما تحدث عن شيء إلا وكان مهماً وغامضاً ومختلفاً عن كل ما يقوله الناس من معارف غينا الآخرين كاختلاف الأناناس عن الفجل.
كانت لدى غينا جدة، عجوز مؤمنة، ولكن بساطة إيمانها الغبي لم تجذب غينا قيد أنملة، تحدث ليونيد سيرغييفيتش عن الخالق والخلق , وعن الإرادة والمعرفة والأسرار والسبيل بكلمات جعلت غينا مستعداً لتشييعه ليس من شارع رازين الى زقاق سوليانسكي فحسب وهي مسافة قصيرة نسبياً بل حتى الى نهاية العالم.
وهكذا بالتدريج، كيلو متر بعد كيلو متر، وشهراً بعد شهر نضجت علاقة غينا وليونيد سيرغييفيتش، إلى أن أطلعه على اسم المعلم العظيم : الدكتور رودولف شتاينر , هكذا لفظ ليونيد سيرغييفيتش، على الطريقة الألمانية, هذا الاسم السحري , وسرعان ما دعاه ليونيد سيرغييفيتش الى منزله، في شقته المنفصلة، الممتلئة بخزانات الكتب والمعلقة على جدرانها الكثير من اللوحات والمزينة حتى باثنين من التماثيل الذي كان احدهما من الرخام الخالص , وقدّمت له الشاي زوجة ليونيد سيرغييفيتش الجميلة، بل الجميلة جداً، وهي ترتدي كيمونو حقيقي، وذهبت الى غرفة أخرى، مبدية ظهر الكيمونو الموشى بزهور الأقحوان البيضاء في حقل ليلكي.
سحب ليونيد سيرغييفيتش بشكل مهيب ستارة من القماش في الجانب الخلفي من المكتب وكشف أمام غينيا مُحيّا المعلم , وكانت صورة لشخص شديد الجمال كأنه ممثل سينمائي أمريكي، ذي شعر منسدل الى الخلف وانشوطة عنق حريرية وسترة فراك مضغوطة قليلاً.
كأن هذه الصورة أصابته بالحمى , ربما لم يستطع غينا أن يدرك المصدر الحقيقي لهذه الحمى الغامضة، يمكن أن نفترض أنها انطلقت من ليونيد سيرغييفيتش ، لكن بشكل او آخر , كانت لحظة خاصة، لم يشهد غينا مثل هذه الصدمة مرّة في حياته إلا إذا حسبنا الحادث الذي تعرض له في الجيش عندما سقطت الشاحنة التي تقل الجنود في الهاوية في طاجاكستان، حيث الطرق والهاويات كانت مهلكة بشكل لا مثيل له وما دامت الشاحنة تهوي مقتربة من القاع الصخري، كان يصلي تارة وتارة ينادي جدته، وآنذاك نجا اثنان فقط ، دولغانازيتوف الذي تكسرت عظامه كلها ، وغيناديتوتشكين الذي خرج بورم كبير في وسط جبينه .
وفي ذلك اليوم تسلم مع التحذيرات والتعليمات والإرشادات الكتاب الأول , ليس للمعلم نفسه، بل لمريده الذي يحمل اللقب العائلي شور.
كل معرفة حقيقية تجلب معها خطراً قال ليونيد سيرغييفيتش وهو يودعه وهذا الخطر روحياً، لأنه كلما ارتفعت الروح أعلى في سلّم المعرفة كلما كانت المسؤولية الملقاة على عاتقها اكبر، ومباشرةً في الوقت نفسه، ولهذا يجب الاحتفاظ بهذه المعرفة سراً ، الى أن يأتي اليوم الذي يجب أن ترى النور فيه ويتغير العالم الى الدرجة التي يصعب فيها التعرف عليه، لأن العالم يجد الخلاص من خلال معرفة الحكمة . . وسرت في ظهر غينا من جديد رجفة مثيرة، وبعد أن وضع الجوهرة الخطيرة الملفوفة في الحقيبة التي أهديت له بهذه المناسبة، ذهب الى البيت مشياً على الأقدام، وصل الى البيت عند منتصف الليل، وحتى لم يفكر بالتدافع في وسائط النقل العامة، لأنه كان يخشى أن يفقد هذه الإثارة الحلوة السارية في عموده الفقري.
كم تغيّرت حياة غينادي ! إذ صار يرى حياته السابقة كوجود جامد شبيه بوجود النباتات، وحياته الحالية الجديدة صارت خفيفة ومتحركة ولها معنى ومليئة بجمال لا يوصف واخذ ينظر بشفقة كبيرة الى جميع الناس البسطاء العاديين الذين عاشوا وأكلوا وشربوا من دون أن يفهموا شيئاً على الإطلاق , والآن انكشفت له معرفة كبرى عن العالم وعن بنية الكون وعن الطاقات العظمى وعن السلم الأروع المخصص لأولئك الذين عقولهم تنبهت للسير نحو الخير والحب.
كل شيء صار له معنى جديد وحتى عمله الآلي بتركيب الساعات أصبح عملاً مقدساً لتصحيح الأخطاء الصغيرة في الآلات الغليظة التي صنعها الإنسان وتعلم الاستمتاع بالمحركات الميكانيكية من معادن النوع الرخيص وكأنها من خلق الله، لأنه رأى الآن في النشاط العقلي للإنسان انعكاس للعقل الأسمى.
لقد قرأ للدكتور شتاينر محاضراته التي لا نهاية لها وتعرف من خلالها على الفلسفة الهندية وعلى تصورات غوته عن العالم وعلى بعض الأفكار الصوفية، وصورة البقرة المضطجعة على مرج في السحابة المثالية وهي تجتر طعامها محولةً إحدى أشكال الطاقة الى شكل آخر والتي تهب الحليب الشراب الإلهي، قد غيّرت حتى ذوقه : فالحليب الذي لم يحبه سابقاً بدأ يشربه بتلذذ وصار يأكل العسل الذي بدا له إلهياً أيضاً.
وعلى العموم العالم كله إذا نُظر إليه بشكل صحيح تحوَّل من عالم قذر وفظيع الى عالم جميل وسام , وأكثر الأفكار إثارة بدت لغينادي فكرة التسلسلات الهرمية الروحية والسُلَّم العظيم الذي ترتقي به الموجودات كلها، عندما تتكامل بالمعنى والروح، فأثمن جوهرة تكمن في كون قمم التسلسل الهرمي ضحت دائماً بشيء ما لصالح الأدنى كي تنقذها من فوضى الغفلة.
كان ليونيد سيرغييفيتش فخوراً بتلميذه الموهوب، وفسر له الأشياء الدقيقة غير المفهومة تماماً على اختلاف أنواعها وطلب من غينا أن لا يستعجل في الفهم لأن الارتقاء السريع جداً خطر في نتائجه على الصحة البدنية , وعندما رأى تعلق غينادي الشديد حذره كذلك من الإفراط بإظهاره، وحتى انه شرح له كيف يعاني الناس بعد موت الحيوانات الأليفة المحبوبة لهم بسبب كون ذلك التعلق بالذات من القوة بحيث يشكل جسداً مثالياً مشتركاً، وعندما يموت الحيوان يعاني صاحبه من آلام حادة في المعدة لأن التحام الأجساد المثالية يجري على مستوى الضفيرة الشمسية بالتحديد، ويجب أن نتعلم السيطرة على تعلقنا وانجذابنا حتى للمعلمين.
وربما على حبنا للمعلمين بالذات . . ولعدة مرّات، كما لو عن طريق الصدفة، ذكر معلمه المباشر، العالم العظيم الخبير بالتصوف وعلم طبائع البشر، وتعرفه في شبابه على الدكتور شتاينر نفسه ، أي انه ذكر استخلافه المباشر للتعاليم التي تسلمها ، الى جانب الكتب ، من يد الى يد.
ارتقى غينا سنتين في المعرفة , واللغة الألمانية التي بدأ دراستها بنزوة غير مفهومة غدت الآن بمثابة ضرورة حياتية , وصار ليونيد سيرغييفيتش يجهزه بكتب الدكتور بلغتها الأصلية، التي صدرت في ريغا في العشرينيات، وكان شكلها متواضعاً ولكنها مليئة بحقول كاملة من الملاحظات خطتها باللغتين الروسية والألمانية أيادي مجهولة , لم تكن قراءتها سهلة لكن غينا بذل بشجاعة جهوداً كبيرة لسبر أغوار فحواها وساعده ليونيد سيرغييتش بتقديم الاستشارات.
والمتعة الأخرى هي زيارة غينا لمنزل ليونيد سيرغييفيتش حيث الشاي والمعجنات الصغيرة من يد زوجته الحسناء بكيمونها الليلكي الزاهي، في المكتب، بين الكتب واللوحات , وفي بعض الأحيان بعد أن ينتهي من إسداء الاستشارات يقرأ عليه ليونيد سيرغييفيتش ترجماته من الشعر الشرقي : الفرسان المنغوليون تعدو خيولهم في السهوب ، والحسناوات الهنديات منغمسات بالألاعيب الشبقية مع الأمراء بحركات جميلة ، أما الشعراء القرقل باغيين المعاصرين يتغنون بإعادة الترتيب الاشتراكي للحياة بالأسلوب الشرقي المنمق نفسه.
ومع مرور الوقت تحدث ليونيد سيرغييفيتش مع غينا عن قضية سرية تماماً : اتضح أن في مكان ما في موسكو نعقد ندوات حول أهم كتب الدكتور الذي يسمى (انخفض الصوت الى الهمس) الإنجيل الخامس , وهنا أراد غينا أن يعترف انه لم يقرأ الأناجيل الأربعة السابقة , بسط ليونيد سيرغييفيتش يديه علامة على عجزه وقال ممتعضاً : حسناً , ألا تعرف !
ثم سحب من الرف كتاباً صغيراً اسوداً , اخذ غينا الكتاب بكل احترام بيديه وقال مندهشاً . . ليونيد سيرغييفيتش ، إن جدتي لديها مثل هذا الكتاب تماماً ! وهي تقرأ به طوال حياتها.
وبعد مفاوضات طويلة ومماطلات واستفسارات إضافية اعلن ليونيد سيرغييفيتش لغينا أن الندوة ستبدأ قريباً , وسيديرها معلمه، هو ليونيد سيرغييفيتش، معلم الكوادر المتقدمة الممارسين لعقود من الزمن ولكن على سبيل الاستثناء سيسمح لغينا ، المبتدئ بالمشاركة بالندوة.
ارتعد غينا : فقد تعلم قبل هذا الوقت من ليونيد سيرغييفيتش أن يؤله المعلم وحكمته ومعرفته الواسعة في جميع المجالات بما في ذلك الطب، وتجربته الرائعة في الحياة.
انه واحد من القليلين الذين نجوا وبقوا أحياءً من بين المشتركين في بناء كنيسة الدكتور في دورناخ التي احترقت في بداية الثلاثينيات، رفع ليونيد سيرغييفيتش نحو السماء عينيه الزرقاوتين ذواتي العروق الحمراء الصغيرة بسبب القراءة الزائدة، وكان من بين المشاركين (الكاتب) اندريه بيلي و (الشاعر والناقد) ماكسيم اليانفولوشين و (الرسامة) مارغريتا ساباشنيكوفا، و ادلى بأعترافه الأخير , خافضاً صوته الى درجة بالكاد يسمع بها , و المرحوم والدي قضى هناك عاماً واحداً . . لكن لا يجوز الكلام عن هذا ، لا يجوز بتاتاً ، وصمت , وتأسف بشدة، لأنه قال كلاماً زائداً لا داعي له.
وأخيراً جاء اليوم الموعود ، أهم يوم : واخذ ليونيد سيرغييفيتش غينا الى المعلم , اغتسل غينا ورتب نفسه وارتدى بنطالاً جديداً والتقى بليونيد سيرغييفيتش بالقرب من تمثال ماياكوفسكي، وسارا تحت المطر الربيعي الى جهة مألوفة لغينا : وكأنها منزله , ثم قاما بانعطافة صغيرة ووصلا الى بيت غينا بالذات لكن من جانب المحل القديم لبيع الحليب ذي البلاطة البيضاء المائلة للزرقة , واقتربا من المدخل لكن غينا من القلق لم يعرف حتى مدخل منزلهم الىأن صارا بالقرب من الباب نفسه فهم انه يقف أمام شقته .
ضغط ليونيد سيرغييفيتش على زر ذي حروف شبه ممسوحة يحمل اسم كوبيليس , وبعد دقائق قليلة تناهى له صوت خفق نعال منزلي مألوف لديه. وفتح كوبيليس الباب , ابدى ليونيد سيرغييفيتش ابتسامة مشرقة , فحاكى كوبيليس ما يشبه التحية , تهيج غينا وشعر بقصف في صدغيه وتضرج وجهه وبعد أن ترك ليونيد سيرغييفيتش في حالة من الارتباك اندفع الى نهاية الممر وهو يشد بتشنج على مفتاح غرفته.
انكب على وجهه على السرير ، من دون أن يخلع معطفه المطري واخذ يبكي , كيف ! بدلاً عن الدكتور شتاينر بمحياه الجنوبي الجميل وبأنشوطة عنقه الحريرية وسترته المضغوطة قليلاً، بدا هذا الشرغوف الشنيع، بوعائه الليلي وحقنته وطسته، وقهوته الليلية الخفية وبشفتيه المضغوطتين بشكل مشوّه، الأكثر اشمئزازاً من بين جميع الجيران، القبيح، العنكبوت ! طرق احدهم بابه، لكنه لم يفتحه.
كان يبكي، ونسي، ثم بكى مرّة أخرى , بعد ذلك نهض ونزع معطفه المطري وخلع حذاءه , تمتمة الحديث وراء الجدار انتهت من مدة طويلة , ودوى من جديد صوت الحقنة ثم طقطقة الطست . . وهنا رنّ فجأة جرس الهاتف في الممر : انه والدة غينا , قالت وهي تبكي ان الجدة توفيت وعلى غينا أن يأتي , اخذ غينا سيارة أجرة وذهب الى شارع خروشيوفكا حيث تعيش في احد البيوت الكبيرة التابعة للمصنع والدته وأختها ولينا بنت الأخت والجدة المشلولة التي توفيت للتو.
المصابيح مشتعلة في جميع الغرف، وفي غرفة الأم إضافة الى المصباح الكبير هناك شموع مشتعلة، وكانت امرأة مسنة ترتدي السواد تقرأ كتاب الإنجيل الأسود نفسه الذي تمكن غينا قبل هذا الوقت من قراءته , وفي اليوم التالي جلبت من مكان ما ملابس كهنوتية عباءة سوداء وقبعة والبسوها للمتوفاة وجاء بعض الشيوخ والعجائز مرتدين السواد وقرأوا شيئاً باللغة السولافيةالكنسية، ليس مفهوماً تماماً، تساءل غينا متعجباً لماذا تجري هذه الجلبة الكبيرة التي لا داعي لها بسبب موت جدته الهادئة الصامتة تقريباً التي انتظرت لحالها موتها طيلة الخمس سنوات التي قضتها مشلولة.
نقلت الى خوتكوفو لتدفن في مقبرة الرهبان السابقة، لكن قبل ذلك أقيم لها قدّاس في دير الرجال , غطي وجهها بقطعة قماش بيضاء وهنا ظهر فجأة وبلا مقدمات غموض مثير للقلق: يبدو أن جدته المتواضعة كانت شخصاً كبيراً ومهماً بينما لم يفطن هو لذلك , وفيما بعد حكى كاهن عجوز من الموجودين لغينا أن جدته الكساندرا ايفانوفنا, الأخت انجلينا, كانت واحدة من أواخر الأبناء الروحيين لقديس الدير الأوبتيتي الأخير, وغادرت الدير بعد أن أغلق واشتغلت عاملة نظافة وتبنت أيام المجاعة يتيمتين، إحداهنأمه والطفلة الثانية التي صارت خالته، وربتهما , إنها رائعة بروحها ووديعة كالحمامة وحكيمة كالأفعى , وكانت تقرأ طوال حياتها كتاباً واحداً لا غير هو الأناجيل الأربعة.
اخذ غيناد يإجازة من العمل , كان عليه أن يعيد ترتيب أفكاره ومشاعره وكذلك المعارف الكثيرة التي اكتسبها في السنوات الأخيرة أمضى الأسبوع كله عند والدته في شقتها في خوروشيوفكا , كانت المنطقة هناك خضراء, تمشى كثيراً وتأسف طويلاً لأنه الآن لن يعرف أبداً ما مكتوب في “الإنجيل الخامس” , ولن يعرف أيضاً ماذا كانت جدته المشلولة , ربما معلم كذلك ؟ فكّر وفكر ولم يتوصل الى شيء, لكنه قام بتبادل السكن مع ابنة خالته التي كانت عازمة على الزواج وبحاجة ماسة الى غرفة منفصلة , أما بخصوص كوبيليس , فهي لا تبالي بشأنه تماماً.
ترجمة الكاتب : د . تحسين رزاق عزيز