في رواية زابوجكو عن الجنس الأوكراني: الشخصية الأنثوية بين الجسد والذات
أصبحت رواية «بحث ميداني عن الجنس الأوكراني» الصادرة عام 1996 للشاعرة والكاتبة المعروفة أوكسانا زابوجكو (ولدت عام 1960 ) ظاهرة بارزة في الأدب الأوكراني الحديث. بانفتاحها على ثيمات جديدة غير مطروقة في الأدب الأوكراني، وبصدقها الفني، والنظرة التحليلية والنقدية العميقة للعمليات الجارية في الأدب والثقافة والحياة العامة الأوكرانية. وقد صدرت طبعات جديدة عديدة منها طوال الأعوام الماضية، وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة من أهم لغات العالم. وقالت صحيفة «لوس أنجلس تايمز» إن هذه الرواية «محاولة صادقة وصريحة لفهم الحياة الجديدة في بلد متحرر حديثًا. وتحتوي على مواد إضافية تساعد القارئ على تقدير مكانة ودور هذا الكتاب بشكل أفضل في العمليات الثقافية في أوكرانيا، منذ حصولها على الاستقلال في عام 1991.
هذه الرواية ليس عن الجنس، كما يوحي عنوانها، وإن كانت لا تخلو من الجنس، لكن ليس بشكل مكشوف، بل على شكل إيروتيكا خفيفة. وهي تتحدث عن العلاقة بين الرجل والمرأة من وجهة نظر المرأة، لكن فكرتها الأساسية هي أن كل امرأة تحتاج إلى رجل قوي، رجل يأخذ زمام المبادرة في الحياة، ولا يكون سلبياً وضعيفا مثل الرجل الأوكراني الجديد الذي تعرّض إلى الاضطهاد. وأن مكان المرأة ليس في المطبخ.. والعلاقة بين الرجل والمرأة ـ كما تقول زابوجكو ـ أشبه بعلاقة كيميائية، لكن لكي يحدث التفاعل المنشود، عليك معرفة الجرعات الصحيحة.
كتبت الرواية على شكل محاضرة اعترافية، حيث تخاطب البطلة باستمرار جمهورا وهميا بعبارة «السيدات والسادة» وتروي قصة علاقتها بالنحات الأوكراني نيكولاي. وفي سياق الرواية، تكشف أيضا جانباً من حياة عائلتها وأصدقائها، وتشير إلى بعض الأحداث المؤلمة في التاريخ الأوكراني الحديث، والمحاولات الروسية لطمس الهوية الوطنية الأوكرانية، وجوهر الحب والانجذاب العاطفي والفن والاكتئاب.
تبدو الرواية كأنها السيرة الذاتية للكاتبة نفسها، خاصة أن البطلة أيضا تحمل اسم (أوكسانا) وثمة بعض أوجه التشابه بين سيرة الكاتبة وبطلة روايتها. تنتقل الكاتبة بإنسيابية في مجرى السرد من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب، وأحيانا إلى ضمير الغائب، ورغم أن الرواية باللغة الأوكرانية، إلا أن الكاتبة تستخدم في أحيان كثيرة كلمات وتعبيرات إنكليزية وروسية. التقت بطلة الرواية ـ وهي أيضاً شاعرة وأستاذة جامعية كالمؤلفة – بالنحات نيكولاي في الخريف، في مهرجان فني أقيم في مدينة (لوتسك) الإقليمية، حيث قرأت قصائدها. اقترح عليها نيكولاي أن يقوما بجولة في المدينة أو يأخذها بسيارته إلى القلعة، لكنه ترك انطباعا سلبيا إلى حد ما لدى أوكسانا. انتاب المرأة على الفورهاجس سيئ: «هذا الرجل سوف يؤذيك». ومع ذلك، ذهبا معا خلال المساء للقيام بجولة في المدينة. وفي الساعة الثالثة صباحا أرشدته إلى مكان الشقة التي كانت تقيم فيها مع أسرتها، عندما كانت صغيرة، قبل الانتقال إلى كييف. هناك قبلها نيكولاي، وبعد ذلك ذهبا إلى ورشته، حيث أمضيا الليل معا. هذه الليلة الأولى والليالي اللاحقة، لم تجلب أي متعة للبطلة، بل العكس – كانت تتألم: لم يكن نيكولاي قلقا بشأن مشاعر شريكته، حتى أنه كان يوقظها في منتصف الليل، بعد أن تكون قد تناولت الحبوب المنومة ويقول لها: «حسنا، خذي حبة أخرى وستغفين سريعا». «سأل بنظرة زجاجية غريبة في إحدى لياليك الأولى بعد الحب، بينما كان مستلقيا مع سيجارة عند قدميك: «ما الهدف؟». قهقه بلا مبالاة. كنتِ تمسدين رأسه بقدمك الممدودة، وكانت لديك ساقان جميلتان، أفضل من سيقان عارضات ديور وسان لوران. والآن لم تخلعي سروالك منذ شهرين، لأن ربلتا ساقيك تشبهان خريطتين تناثرت عليهما آثار الخدوش والجروح والحروق ـ القصة الحية لحب مجنون امتد لتسعة أشهر».
في نهاية الرواية، تتأمل البطلة جوهر الحب ومصير الشعب الأوكراني، وكيف ارتبطت هذه الأشياء في حياتها. «كنا شعبا جميلا، سيداتي وسادتي، أقوياء وطوال القامة ، متجذرين بقوة في الأرض.
في محادثة مع صديقتها الجامعية دونا، خلصت أوكسانا إلى أن هويتها الوطنية هي السبب في أنها عانت من معاملة وحشية إلى حد ما من جانب نيكولاي. تعتبر أوكسانا السرير كمكان للخضوع الأنثوي، وتصف الحب بين المرأة والرجل بأنه حرب. على عكس صديقتها الامريكية الرقيقة دونا، التي تجد العنف في العلاقة الحميمة غريبا وجذابا. فالرجل بالنسبة لها هو القدر والوطن والمنزل في الوقت نفسه. «ماذا يجب أن أقول لك يا دونا؟ لقد نشأنا مع رجال تعرضوا للإذلال على يد الغرباء، ثم مارسنا نحن الجنس مع هؤلاء الرجال أنفسهم، وفي كلتا الحالتين فعلوا بنا ما فعله الرجال الآخرون بهم؟ وقد قبلناهم وأحببناهم كما هم، لأن عدم قبولهم كان يعني أن نكون إلى جانب الغرباء؟ لذلك كان خيارنا الوحيد ولا يزال أن نكون بين الضحية والجلاد: بين الوجود والعدم. استمرت هذه العلاقة طوال الخريف. غالبا ما جاءت أوكسانا من كييف إلى لوتسك لزيارة نيكولاي. كانت ورشته في علية منزل مهجور فيها مدفأة حطب، لكن دون عنوان وهاتف، دون دورة مياه وماء ساخن، مع مصباح كهربائي عار معلق في نهاية سلك ملتوٍ تحت السقف، مع قطعة نقانق وعلبة من القهوة سريعة الذوبان على طاولة منخفضة ملطخة بالدهانات.
منذ اليوم الأول لتعارفهما حلمت أوكسانا لا شعوريا بالحمل وإنجاب ولد من نيكولاي، حتى أنها اختارت لابنها المحتمل اسم دانيلكو، لكن كان من الصعب بناء علاقة طبيعية مع نيكولاي: رجل خاب أمله في الحياة. صموت وكتوم وصارم التفكير، «ولم يتكيف مع علاقة قائمة على الاحترام والانفتاح: «هذا الرجل لعب دون قواعد، أو بالأحرى، لعب وفقا لقواعده الخاصة، مثل عبقري حقيقي». بعد ثلاثة أشهر من علاقتهما، أبلغت أوكسانا نيكولاي أنها ذاهبة إلى أمريكا: فقد تمت دعوتها لتدريس الثقافة الأوكرانية في جامعة كامبريدج، في ولاية ماساتشوستس. في ذلك اليوم، كان هو وأصدقاؤه يقيمون حفلة شواء في المنزل الريفي، حين اندلع حريق بشكل غامض، وتبادر إلى ذهن أوكسانا أن نيكولاي قد يكون وراء ذلك. عرضت عليه أن يسافر معها إلى أمريكا، لكنه رفض. وبعد عدة أيام غادرت أوكسانا البلاد وحدها.
كان الشتاء في كامبريدج كئيبا. وكانت وحيدة وتفتقد حبيبها، وقلقة بشأن ما إذا كان على ما يرام: فقد كان الرجل يحب قيادة السيارات بسرعة، وكانت خائفة من وقوع حادث سير جديد له، قد يكون قاتلا. فقد سبق أن نجا عدة مرات من حوادث سير. كتبت له رسائل من كامبريدج: «ماذا تفعل يا حبيبي؟ لماذا تلجأ إلى الموت من حياة يمكن أن تكون مشرقة». لم تستطع صديقات أوكسانا مساعدتها في التخفيف من الشعور بالوحدة: كن على جهل تام بالثقافة الأوكرانية. وغريبات عنها. من أجل تبديد الاكتئاب والهروب منه بطريقة ما، أخذت أوكسانا تتردد على حمام السباحة والمكتبة العامة في المساء، لكن هذا لم يخفف من وطأة الاكتئاب لديها. بدأت أوكسانا تلاحظ العلامات الأولى للشيخوخة في جسدها: فقد أصبح ثدياها أقل مرونة، وتوقف الرجال عن الاهتمام بها في الشارع. تعذبها الوحدة وعدم تحقيق ذاتها كامرأة، «أريد أن يشرح لي أحدهم: بحق الجحيم، لماذا ولدت كأنثى، وفي أوكرانيا تحديدا؟ مع هذا الإدمان اللعين في الجسد مثل قنبلة موقوتة، مع هذا الافتقار إلى الاستقلال، مع ضرورة الغرق في صلصال رطب قذر مضغوط على سطح الأرض». ومع ذلك، أشارت أوكسانا إلى أنها ليست الوحيدة التي تعاني من الاكتئاب. وإن كانت تبدو سعيدة للوهلة الأولى. وزميلاتها المبتسمات دائما في الكلية يخفين مآسيهن: المديرة كريس تخضع للمعالجة بالأشعة من سرطان الثدي، وهي والدة ابنة تبلغ من العمر ثماني سنوات. هيلين المطلقة التي ليس لديها أطفال تغرق نفسها في العمل، تضحك بمرح حتى لا تلاحظ كيف تشيخ بمفردها بلا هوادة. كاتيا البالغة من العمر ستين عامًا، التي تركها زوجها قبل عام، لن تتقاعد الآن؛ والشاعر الصربي المسن أليكس، الذي يسافر حول العالم منذ سنوات، ينتقل من جامعة إلى أخرى، يسمي نفسه بفخر يوغوسلافياً، ويحاول التظاهر بأن الماضي الرهيب لبلاده لم يكن موجودا..
أخيرا، في نهاية فصل الشتاء، تمكنت أوكسانا من الاتصال هاتفيا بنيكولاي في أوكرانيا. اتضح أنه قبل مغادرتها مباشرة، أصيب بكسور في حادث سير مرة أخرى، وهو ما يزال يستعمل مشدا لحد الآن. عندما سمعت أوكسانا ذلك، غطت فمها بكفها، متذكّرة حلمها: كما لو كانت تمسك في يديها تمثالا نصفيا من الجبس لنيكولاي، الذي يحرك شفتيه بخوف. وفي نهاية المكالمة اتفقا على أنه سيأتي إلى أمريكا لمحاولة بناء أسرة معا. قام صديق أوكسانا، مارك، بدعوة نيكولاي على حساب الكلية التي يشرف عليها في جامعة بنسلفانيا. وجد له أيضا ورشة عمل، كان على أوكسانا مغادرة كامبريدج والانتقال إلى مدينة أخرى للعيش مع نيكولاي. على الرغم من جميع العقبات التي تم التغلب عليها: المسافة بين قارتين، والحصول على تأشيرة دخول، وحادث السير، لم يتمكن أوكسانا ونيكولاي من الانسجام وبناء علاقة مستقرة، والاستقرار معا في أمريكا. بعد سلسلة من المشاحنات، غادر نيكولاي شقتهما المشتركة للسكن في ورشة العمل الخاصة به دون دولار واحد في جيبه، ودون معرفة كلمة واحدة باللغة الإنكليزية.
تتخذ أوكسانا من إطار العلاقات الشخصية غطاءً للحديث عن صدمة بلد بأكمله. إنها الصدمة التاريخية التي «تشكل لغة الجسد للجنس الأنثوي» كما تقول أوكسانا، وتضيف قائلة: «تاريخ الشعب الاوكراني من أكثر التواريخ حزنا في أوروبا، على الرغم من أن الغرب قد لا يعرف ذلك.
في نهاية الرواية، تتأمل البطلة جوهر الحب ومصير الشعب الأوكراني، وكيف ارتبطت هذه الأشياء في حياتها. «كنا شعبا جميلا، سيداتي وسادتي، أقوياء وطوال القامة ، متجذرين بقوة في الأرض. حاولوا اقتلاعنا، وسلخوا جلودنا، ومزقوا أجسادنا لفترة طويلة، حتى تبعثرنا، وتناثرنا، أخيراً مثل الريش المتطاير من الوسائد المطعونة بالحراب. كنا جميعا ننتظر حفل زفافنا، قمنا بتطريز الأغاني لأنفسنا، كلمة بكلمة، وهكذا عبر التاريخ كله. هذا ما فعلوه بنا». «بعد قرون من الحرمان والأسر، تغير الأوكرانيون، لأن الناس في حالة العبودية يتدهورون. والحب ليس للعبيد. لذا ينبغي لهم أن لا ينجبوا أطفالا». كما تعتقد أوكسانا. « إن العبودية هي الخوف. والخوف يقتل الحب. ودون حب ـ يصبح كل شيء، حتى الأطفال والقصائد واللوحات ـ محملا بالموت».
وتتذكر كيف تم تعليمها الخوف من الطفولة: قضى والد أوكسانا فترة في السجن بتهم ملفقة، وظل بقية حياته خائفًا ومهددا بالاعتقال مرة أخرى. يبدأ الخوف مبكرا. الخوف موروث – يجب أن تخاف كل الغرباء». تتذكر أوكسانا كيف أن عائلتها، باعتبارها غير موثوقة، كانت مراقبة باستمرار من قبل المخابرات السوفييتية ( كي جي بي). «عندما تكبر في شقة يتم التنصت عليها باستمرار، وتعرف ذلك، تتعلم سريعا التحدث إلى جمهورغير مرئي: أحيانًا بصوت عالٍ، وأحيانا بالإشارات، وأحيانا تكون صامتا، أوعندما يتبين أن شغفك الأول كصبية هو واش معلق بك دائماً.
تتذكر البطلة والدها بتعاطف ومحبة: فقد جرى تخويفه من جهاز المخابرات بطريقة جعلت حياته جحيما. دفن حيا بين أربعة جدران: يستمع إلى الراديو، ويدخن أمام النافذة. مرت حياته كما لو كان في السجن. لم يكن يعمل، ويعيش على الراتب الضئيل لزوجته التي كانت تبذل كل ما في وسعها لإنهاء أطروحتها للدكتوراه، لكنها لم تتمكن أبدا من الدفاع عنها. ولاحظ الرجل في رعب كيف أن المرأة الوحيدة في حياته تعرض عنه. وأخيرا، ألقي القبض عليه للمرة الثانية بتهمة التطفل، وبعد يوم واحد في مركز الاعتقال أطلق سراحه ليعمل حارسا في مشروع للبناء. تتذكر أوكسانا أيضا كيف سرقتْ في سن المراهقة علبة ألوان من زميلة لها، لأن والديها لم يستطيعا شراءها.
صدمة أوكرانيا التاريخية
تتخذ أوكسانا من إطار العلاقات الشخصية غطاءً للحديث عن صدمة بلد بأكمله. إنها الصدمة التاريخية التي «تشكل لغة الجسد للجنس الأنثوي» كما تقول أوكسانا، وتضيف قائلة: «تاريخ الشعب الاوكراني من أكثر التواريخ حزنا في أوروبا، على الرغم من أن الغرب قد لا يعرف ذلك، توفي عشرة ملايين شخص في أوكرانيا من الجوع، رغم خصوبة التربة السوداء لبلدنا، كانت أوكرانيا تسمى سلة خبز أوروبا. كل من ناقش مسألة المجاعة كان مصيره السجن. وجاءت الحرب العالمية الثانية، لتقع أوكرانيا بين نظامين شموليين. كلاهما ارتكب جرائم فظيعة بحق شعبنا».
كاتب عراقي