عصبة مكافحة الصهيونية
ونقض الرواية “الإسرائيلية”
عبد الحسين شعبان[1]
ملخص تنفيذي
عصبة مكافحة الصهيونية
وأيديولوجيا التضليل “الإسرائيلي”
“نحن نعتقد، إخلاصاً، بأن الصهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب وعلى وحدتهم القومية، ونحن إذ نتصدّى لمكافحتها علانية وعلى رؤوس الأشهاد، إنما نعمل ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت”. تلك كانت الرسالة الموجهة من لفيف من الشباب اليهودي إلى وزير الداخلية في العراق بتاريخ 12 أيلول/ سبتمبر 1945 ، وذلك مع نسخة من النظام الأساسي ﻠ “عصبة مكافحة الصهيونية“.
وهذه الرسالة ومحتوى النظام الأساسي، إضافة إلى الأنشطة التي قامت بها العصبة بما فيها جريدة العصبة بعد الترخيص لها قانونياً من جانب وزير الداخلية سعد صالح (جريو)، الشخصية الوطنية العراقية في 16 آذار /مارس 1946 ، كافية بالرد على المزاعم الصهيونية التي تدّعي تمثيل جميع يهود العالم والنطق باسمهم.
ولعلّ هذا المثل الذي نقدّمه يمثّل نقضاً للرواية الصهيونية وتفنيداً لمسوّغاتها القانونية والسياسية ومبرّراتها الفكرية ومزاعمها الدينية، فالعصبة التي تأسست بُعيد الحرب العالمية الثانية تعكس رؤية مغايرة وضدّية للرؤية الإيديولوجية الصهيونية، وتنويراً مبكّراً للجماهير اليهودية بمخاطر الصهيونية التي تعتبرها “تهديداً لوجودهم”، ورفضاً للهجرة اليهودية باعتبار أن “قضية فلسطين هي قضية البلاد العربية بأسرها، فلا يمكن إذاً إلاّ أن نقف بجانب عرب فلسطين… من أجل قيام دولة ديمقراطية عربية مستقلة استقلالاً تاماً تضمن فيها حقوق المواطنين كافة…”. كما ورد في رسالة العصبة لطلب التأسيس.
واعتبرت المادة الثانية من منهاج العصبة ” مكافحة الصهيونية وفضح أعمالها ونواياها بين جماهير الشعب العراقي، لاسيّما اليهود”.
الهدف من البحث هو إجلاء حقيقة الدور التضليلي الديماغوجي للحركة الصهيونية، ليس بحق العرب فحسب، بل بحق اليهود أنفسهم، وهو ما تكشف عنه وثائق العصبة ذاتها.
حسبي أن أذكر بيانها المؤرّخ في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1945 ، الذي جاء فيه “إن الصهيونية لا تحلّ بالمرة مشكلة ستّة عشر مليوناً من اليهود، بل إن المشكلة اليهودية ليست سوى جزء لا يتجزأ من نضال الشعوب كافّة، على اختلاف أديانها في سبيل حريتها وديمقراطيتها”، الأمر الذي حاولت الدعاية الصهيونية طمسه، سواء لدفع اليهود إلى الهجرة من العراق بوضع متفجّرات في الأحياء السكنية وأماكن العبادة لخلق حالة من الرعب والهلع والخوف، وهو ما كشفته لاحقاً وثائق داخل “إسرائيل” ذاتها. أو بممارسة ضغوط لإصدار قانون إسقاط الجنسية عن اليهود في العام 1950.
يتألّف البحث من شقين أساسيين؛ أولهما – يبحث في تفاصيل تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية وحيثياتها، وثانيها – يتناول مسألة نقض الرواية الإسرائيلية، التي تزعم تمثيلها ليهود العالم بمن فيهم يهود العالم العربي، ويسلّط البحث الضوء على ما تعرّض له اليهود المعادون للصهيونية من حرب مزدوجة ومركّبة، الأولى – من الحركة الصهيونية، بزعم إثارة يهود العالم ضدّها والتشكيك بنواياها وأهدافها؛ والثانية – من الحكومات الرجعية، حيث تعرّضوا لحملة قمعية شرسة واتهموا بأنهم طابور خامس ومتواطئون مع الصهيونية عدوّتهم الأساسية بشكل مباشر أو غير مباشر.
يفنّد البحث كون الصراع ديني وأن اليهود مهدّدون بالإبادة من جانب المسلمين، وهو ما يكشفه خطاب العصبة ذاتها كخطاب جامع وموحد ووطني عراقي. وهو صراع حول الحقوق والأرض وليس حول قيم السماء.
ويختتم البحث بالتأكيد على أهمية الجهد الدبلوماسي الدولي والثقافي في نقض الرواية الإسرائيلية ويتناول الدور الذي يمكن أن يضطلع به المجتمع المدني العربي ومنظماته المختلفة كقوة ناعمة لا بدّ من إستثمارها، إضافة إلى الجوانب الإقتصادية والتجارية والفنية والرياضية وغيرها.
الكلمات المفتاحية: الصهيونية، فلسطين، “إسرائيل”، الرواية “الإسرائيلية”، الشباب اليهودي.
Summary
Anti – Zionist League
And the “Israeli” Narrative Refutation
By Dr. H Shaban
“We deeply believe that Zionism is an imminent danger on the national unity of the Jewish and the Arab people as well, and we publicly defy it for we are both Arabs and Jewish at the same time”.
This was the letter sent by a group of young Jewish people to the Iraqi minster of internal affairs on September 12, 1945 with the primary law of the Anti – Zionist League.
The letter with the primary law and the activities they held including the League’s newspaper, which was licensed on March 16, 1946 by Mr. Saad Salih (Greyo) the minster of the interior affairs who was considered a patriot, was a firm response to the allegations the Zionists claim, that they represented all the Jewish people around the world and spoke on their behalf.
This example that we presented may reverse the Zionist version of this story and refute their legal and political justifications, intellectual explanations and religious claims. The League, which was established after World War II, reflected an opposite vision against the Zionist ideology which they considered as an “existential threat” on Jewish masses, and they also refused the Jewish immigration because they considered “the Palestinian Cause is an issue that concerns all the Arab Countries so we can’t but stand next to the Arabs of Palestine… to establish a democratic and independent Arabic country that guaranties all the right of its people…” as mentioned in the League’s letter requesting the establishment.
Never the less, the second article of the League’s curriculum deemed that “defying Zionism and exposing their actions and intentions among Iraqi people, particularly Jewish”.
The aim of this research is to show the truth regarding the misleading and demagogue role of Zionism against not only Arabs, but also against Jew’s themselves, which is also revealed in the League’s documents.
I also would like to mention the League’s statement on the 17th of October 1945, which included that “Zionism doesn’t solve the problem of sixteen million Jewish persons, on the contrary, the Jewish issue is a part of the people’s common struggle, regardless of their religious differentiations, to claim their freedom and democracy”, which the Zionist media tried to suppress in order to push the Jewish people to immigrate from Iraq, either by bombing the neighborhoods and worship houses terrorizing them, this was revealed in documents inside “Israel”, or to exert pressure to issue a law to deprive the Iraqi Jewish people from their nationality in the year 1950.
This research consists of two parts. First – it seeks the details of establishing the League. Second – it aims to refute the “Israeli” story, which alleged that they represented all the Jewish people in the world including the Jewish people in the Arab world.
The research also discusses the Doubled War that the Jewish people, who opposed Zionism, have faced:
First – against Zionism, to raise the Jewish against it and to question its intentions and claims.
Second – against the backward government, where they faced an aggressive and oppressive campaign and were accused of being spies to Zionism, their first enemy.
This research refutes the idea of seeing this struggle as religious and that the Jewish people are under the threat of genocide that could be committed by Muslims. This claim was revealed in the Leagues speech that was considered as a collective and uniting Iraqi speech which shows the struggle is not about religious values, but to attain the rights and the land.
The research concludes by stressing the importance of the international diplomatic and cultural efforts to refute the “Israeli” story and highlights the essential role of the Arabic civil society and its diverse organizations as a soft power which should be well invested in, in addition to the economic, commercial, artistic and athletic aspects and others.
Keywords: Zionism, Palestine, “Israel”, “Israeli story”, the Jewish youth.
“هذه هي الصهيونية سافرة عارية، ولكن الصهيونية ككل حركة استعمارية رجعية تشعر
ببشاعة شكلها وقبح معالمها فتقنّع نفسها بأقنعة جذّابة وأثواب جميلة فضفاضة تخفي وراءها
بشاعتها وقبحها. ولذلك فنحن بوصفنا يهودًا وطنيين واعين نتقدم بطلبنا هذا لغاية السماح لنا
بتمزيق القناع عن وجه الصهيونية الحقيقي أمام الجماهير اليهودية وغير اليهودية.“
من رسالة الهيئة المؤسسة لعصبة مكافحة الصهيونية
بغداد 13/ 9/ 1945
بمثابة استهلال وحيثيات
حين طلب مني الصديق د. وليد سالم المشاركة في مؤتمر “نقض الرواية الصهيونية” الذي سينعقد في جامعة الدول العربية، أول ما خطر ببالي وأنا أختار “موضوع عصبة مكافحة الصهيونية“، التي تأسست في العراق العام 1945، الصديق د. عباس شبلاق الذي سلّط الضوء الكاشف على المزاعم الصهيونية بشأن هجرة يهود العراق “القسرية” إلى “إسرائيل”[2] ، ثمّ استعدت كتاب الصديق د. عبد اللطيف الراوي الموسوم “عصبة مكافحة الصهيونية في العراق” والصادر عن دار وهران في مطلع الثمانينيات والذي تناول فيه دور اليهود اليساريين العراقيين في الكفاح ضدّ الصهيونية وفي إدانة ارتباطها بالإمبريالية. [3]
ولكن الموضوع لا يكتمل إلّا بشحذ الذاكرة ونحن نتناول الرواية “الإسرائيلية” والصهيونية فما بالك حين يكون على لسان يهود ضدّ الصهيونية، وهنا توقّفت عند علاقتي بعادل مير مصري[4] وشقيقته عميدة مير مصري[5]. ولعلّ ذلك يمكن أن يشكّل مدخلاً لحديثي عن عصبة مكافحة الصهيونية، وما كابده اليهود المعادون للصهيونية.
وفي كلمة الرفيق الياس نصر الله في تأبين يعقوب قوجمان في العام 2015، استعاد دوره في مكافحة الصهيونية، ليس في العراق حسب، الذي هرب منه خشية اعتقاله بعد سجن العشرات من رفاقه، بل في داخل إسرائيل أيضاً، وعمل هناك لجمع شمل الشيوعيين العراقيين اليهود لتوجيههم ضدّ الصهيونية، ووقف ضدّ قيادة صموئيل ميكونس (سكرتير عام الحزب الشيوعي الإسرائيلي سابقاً) وزميله موشيه سنيه القياديان المتواطئان مع الصهيونية. ويصف الياس نصر الله رفيقه قوجمان بأنه: “الشخصية العربية العراقية الأصيلة” وهو ما عرفناه عنه في لندن، حيث تعرّفنا عليه وكان منزله ومكتبه مفتوحين للعراقيين. وقد حدّثني عن أنواع التمييز ضدّ الفلسطينيين في “إسرائيل”، إضافة إلى التمييز الطائفي ضدّ اليهود الشرقيين ومن ضمنهم يهود العراق.
يقول الياس نصر الله إن يعقوب قوجمان بادر إلى طباعة كتاب “بأم عيني” الذي ألّفته المحامية الشيوعية اليهودية فيليسيا لانغر وهو أول شهادة حيّة على الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” ضدّ الأسرى الفلسطينيين، كما طبع كتاباً لعبد الرزاق الصافي بعنوان “كفاحنا ضدّ الصهيونية”، وكتاباً لماجد عبد الرضا بعنوان “القضية الكردية في العراق”.[6]
وفي حديث مع الصديق يحيى يخلف في منتدى أصيلة في (المغرب 2018) استفسر منّي عن كتابي “مذكرات صهيوني” [7] الذي كان قدّم له في العام 1986 بعد أن نشرته على 5 حلقات في مجلة الهدف الفلسطينية العام 1985، وقلت له أنني أعدّه للطبعة الثانية الموسّعة وأشرت إلى شيء من قصته في ما كتبته بمناسبة رحيل جورج حبش[8] وهي قصّة تستحق التوقّف عندها لما فيها من إحاطة ودلالة على التواطؤ الصهيوني مع النازية، وذلك من خلال مذكّرات إيغون ريدليخ عضو المنظمة الصهيونية ماكابي هاكير الذي كان معتقلاً في معسكر تيريزين (تشيكيا) قبل أن يتم نقله إلى معسكر أوشفيتز (بولونيا) وكلاهما تحت إشراف الغوستابو النازي، حيث تم إعدامه، بعد أن قضى في المعتقل نحو أربع سنوات، ولعلّ ذلك وجه آخر للصهيونية، كانت العصبة قد حذّرت منه في وقت مبكّر، وكشفت بعض جوانبه.[9]
وكان ييرجي بوهاتكا (وهو اسم مستعار لأحد كبار ضباط المخابرات التشيكية العاملة في كشف النشاط الصهيوني) هو الذي عرّف القرّاء في مجلة تريبونا بالمذكرات[10]، خصوصاً عن العلاقة السرّية بين النازية والصهيونية، فالأخيرة لا تتورّع عن استخدام جميع الوسائل لتحقيق أهدافها، ولم تترك في تاريخها وسيلة إلّا واتّبعتها لتأكيد روايتها للأحداث التاريخية، وخصوصاً الزعم بكون فلسطين وطن اليهود، وسواءً كانت تلك الأحداث بعيدة الغور في التاريخ أم قريبة وراهنة، فإن ذلك لا يمنعها من تقديم روايتها حتى وهي تدرك أنها ملفّقة، فتعيد وتصحّح فيها وتضيف إليها وتحذف منها كلّما اقتضى الأمر ذلك، بقصّ ولصق وإلغاء وإضافة، بما في ذلك استخدام وسائل التضليل الأيديولوجي والدعائي والحرب النفسية وجميع عناصر ما نطلق عليه “الحرب الناعمة”، للتأثير على الرأي العام في محاولة إقناعه بروايتها، خصوصاً حين تغيب الرواية الأخرى النقيضة.
تزعم الصهيونية أنها تمثّل يهود العالم وأنهم يقفون خلفها استرشاداً بالعقيدة الصهيونية، بمن فيهم يهود العالم العربي، في حين أن ما سنذهب إليه وعبر الوثائق يؤكد رؤية نقيضة للرواية “الإسرائيلية” وللمزاعم الصهيونية، بخصوص موقف نخبة متميّزة من يهود العراق التقدميين الذي خاضوا حرباً شعواء من أجل فضح المزاعم الصهيونية، بل وشنّوا كفاحاً فكرياً بين جماهير اليهود لدحض الرواية الصهيونية، فلم يكن يهود العراق وعلى العموم يهود العالم العربي في غالبيتهم يؤيدون الحركة الصهيونية، بل كان معظمهم يعتزّ بوطنيته وعروبته، وقد اقتُلعوا بأساليب ماكرة وخبيثة قامت بها الحركة الصهيونية بهدف هجرتهم إلى “إسرائيل” وساهمت بعض التوجهات القصيرة النظر والتي تعرّضت لهم لإجبارهم على الهجرة دون أن ننسى التواطؤ الصهيوني الرجعي الذي قاد إلى النتيجة العملية وهو تغذية المشروع الصهيوني بالعنصر البشري الذي كان شديد الحاجة إليه والذي يستمرّ بالبحث عنه كلّما عصفت به أزمة دولية، والأمر لا يتعلّق بفترة التأسيس حسب، بل شهدت ثمانينيات القرن الماضي وما بعدها صفقة اليهود الفلاشا في أثيوبيا والسودان والأخطر منها خطة هجرة اليهود السوفييت عشية إنهيار الاتحاد السوفيتي.
ووصف شامير هجرة اليهود السوفييت ﺑ “المعجزة اليهودية الثانية” وهو يعني بالمعجزة الأولى “قيام دولة إسرائيل“، لأنه يدرك الأهمية البالغة لعملية الهجرة التي تستهدف مواجهة القنبلة الديموغرافية الفلسطينية التي تهدّد بالإنفجار وتغيير التركيب السكاني لدولة “إسرائيل”. [11]
دور ريادي
تعرّض اليهود المعادون للصهيونية إلى حرب مزدوجة ومركّبة، الأولى من الحركة الصهيونية ذاتها التي ناصبتهم العداء، بل حاولت أن تُفشل خططهم في معاداة الصهيونية، بإثارة يهود ضدّهم والتشكيك بنواياهم وأهدافهم، ناهيك عن محاولة إثبات العكس، خصوصاً من خلال القيام بتفجير محال تجارية وبيوت وأماكن عبادة يهودية، لخلق حالة من الرعب والفزع والخوف في أواسط عموم اليهود، وبالتالي إظهار لا واقعية الحديث عن مهمات وطنية وعربية عامة، تلك التي كانت جماعة عصبة مكافحة الصهيونية تدعو لها، بالضدّ من الصهيونية ربيبة الإمبريالية.
ومن جهة ثانية تعرّض اليهود المعادون للصهيونية لحملة قمعية من جانب الحكومات الرجعية لاتهامهم بالتواطؤ المباشر وغير المباشر مع الصهيونية عدوّتهم الأساسية، بل افتعال قضايا وكيل اتهامات لدمغهم بالعداء للعرب باعتبارهم طابوراً خامساً، وحاولت تلك الحكومات قمع حركتهم الاحتجاجية وكبت أصواتهم، بل وعرّضتهم للاعتقال والسجن وحكمت على عشرات منهم بأحكام ثقيلة، بتهم الترويج للصهيونية، بهدف ذر الرماد في العيون ومحاولة تضليل الشارع واسترضائه، خصوصاً استدرار عواطفه المؤيدة لحقوق عرب فلسطين التي كان يتطلّع إلى تحريرها من ربقة الانتداب البريطاني ومحاولات الصهيونية الاستيلاء عليها.
وتعتبر عصبة مكافحة الصهيونية أحد النماذج المشرقة ذات البعد الأممي والتضامن الإنساني في فضح الرواية الصهيونية وفي الانتصار لعرب فلسطين، باعتبار أن قضية الحريّة والتحرّر لا تتجزّأ، وأن الصهيونية هي عدوة العرب واليهود في آن، وهي محاولة جريئة وشجاعة ورؤيوية، خصوصاً حين نستعيد بعض تفاصيلها لنرى كم كانت مبادرة رائدة ومقدامة؟ وكم كان القائمون عليها يمتلكون حسّاً وطنياً عالياً وإنسانية راقية ونظرة تقدمية؟
التاريخ وسبل المواجهة
الزمن يسير منتصب القامة حسب شكسبير، ولكن التاريخ ماكر حسب هيغل، بل ومراوغ أيضاً، ولهذا لم تكتفِ الحركة الصهيونية بالرواية التاريخية وتزوير الحقائق، بل امتدّت إلى التراث ورسم الخرائط وأعمال المسح الميدانية محاولة عبر الصورة والمعلومة والأسطورة والخرافة والكتابة تأكيد الوجود اليهودي وشرعيته في فلسطين، بغضّ النظر عن اختلاق وتلفيق بعض “الحقائق” التي حاولت تعميمها عبر وسائل متنوّعة وبلغات متعدّدة، الأمر الذي أصبح من الواجب عدم الاكتفاء بالثقة في النفس عربياً وفلسطينياً باعتبار فلسطين عربية في الوجدان والضمير والواقع والتاريخ، بل مواجهة آلة التضليل الإعلامي والأيديولوجي والتاريخي الصهيوني، بفضحها وتقديم الرواية الفلسطينية والعربية على نحو مقنع وعلمي وبمنهجيّة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار وسائل الحرب النفسية وأساليب الدعاية وجميع عناصر الحرب الناعمة، فالحقيقة تخجل حتى الشيطان على حدّ تعبير شكسبير، وذلك بالتوجه إلى الرأي العام العالمي لإزاحة القناع عن الصهيونية وأعمالها العدوانية وسياستها العنصرية الشوفينية الاستيطانية الاجلائية.
لم يعد الاكتفاء بالردّ باللغة العربية ومخاطبة أنفسنا كما يقال لإقناعها بعروبة فلسطين، بل نحن نحتاج إلى جهد فلسطيني وعربي منظّم دبلوماسياً وقانونياً وتاريخياً وسياسياً وإعلامياً واقتصادياً وثقافياً وفنياً ورياضياً وفي جميع المجالات واللغات، وكان في مبادرات المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد وعدد من المثقفين والمؤرخين الفلسطينيين والعرب بمن فيهم عبد الوهاب المسيري دوراً في ذلك، فالحقائق مهما تكن دقيقة وصحيحة، لكنها تحتاج إلى ترويج وإقناع ووسائل للوصول إلى عقول الناس وقلوبهم، ليس للأصدقاء حسب، بل لمن يقفون على الحياد أو حتى من يؤيدون الطرف الآخر، أولاً لنقض ما يقال ودحضه بالوقائع الملموسة والحسيّة والمنطقية والمدعومة علمياً وإنسانياً، وثانياً لتأكيد صحة الرواية العربية والفلسطينية، أي استخدام ما يسمّى “بالضدّ النوعي” لتأكيد حقوق عرب فلسطين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
ومنذ ثيودور هرتزل الأب الروحي للحركة الصهيونية، فإن الرواية التي كان يتم الترويج لها تقدّم أشياءً وتؤخّر أخرى تقول ما تريد وتخفي ما تريد بما يخدم هدفها التضليلي. ويعتبر ذلك نهجاً للحركة الصهيونية سار عليه ورثته من بعده لمواصلة مشواره ، بل زادوا عليه أحياناً في تضخيم مزاعمه وترويج أكاذيبه ليس تاريخياً حسب، بل شمل كل ما هو قائم من تقدّم وتطلّع إلى الحداثة في فلسطين قبيل اغتصابها، بادعاء أنه من عمل المستوطنين الإسرائيليين، لدرجة أن الحركة الصهيونية تجهد نفسها حتى في سرقة التراث الفلسطيني وإنسابه إليها بما في ذلك “صحن الحمص” و”قرص الفلافل” و”الثوب الشعبي” وصولاً إلى “قبور الموتى” وهو ما تحاول الحفريات الإسرائيلية إثباته، وهكذا تريد مصادرة كلّ شيء.
لم تنشر الرواية الإسرائيلية صور 650 ألف فلسطيني عاشوا في الخيام وفي بيوت الصفيح ينتظرون الإعانة بعد تشريدهم من فلسطين العام 1948، وتزعم أن الفلسطينيين هاجروا من فلسطين بمحض إرادتهم وبناءً على نداءات الحكومات العربية كي يتم إخلاء المواقع للقتال ضدّ قيام دولة إسرائيل. ولم تنشر الرواية الإسرائيلية صور عدوانها على البلدان العربية مصر وسوريا والأردن العام 1967، وضم القدس وكامل فلسطين التاريخية إليها خلافاً لجميع قرارات الأمم المتحدة.[12] ولم تنشر صور اللّاجئين الجدد الذين انضموا إلى من سبقهم ليصبحوا من فلسطين الشتات، ناهيك عن مخالفتها للقرار.
ومن المزاعم الصهيونية أن هجرة يهود البلاد العربية هي بسبب “معاناتهم” من أجل الحريّة والكرامة ليكونوا على أرضهم “أحراراً”، في حين أن تشريد الشعب العربي الفلسطيني من أرضه إلى المنفى واللجوء ليس سوى عمل يجسّد استبدال ثقافة بثقافة وشعب بشعب وامتثالاً لأمر الله في أرض كنعان التي مثلها “حق” المستوطنين في الاضطلاع بذلك، وليس مهماً أن يتم التعامل مع سكّان البلاد الأصليين بقسوة ودون الخضوع للمعايير الأخلاقية والقوانين الدولية والإنسانية العامة.
تلك هي النظرية التي استند إليها هرتزل [13] وحسب وجهة نظره: “فإذا أردتم فإنها ليست خرافة” أي تحويل الخرافة إلى واقع يتجسّد بادعاءات وتلفيق تاريخ واغتصاب أرض وتحويل المتخيّل إلى واقع مفروض أو حقيقة ثابتة.
المبادرة في تأسيس العصبة
“لطالما كانت قضية فلسطين هي قضية البلاد العربية بأسرها،
فلا يمكن إذن أن نقف إلّا بجانب عرب فلسطين ونؤيدها…
ونحن إذ نتصدّى لمكافحة الصهيونية علانية وعلى رؤوس الأشهاد،
ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت”
من رسالة العصبة الموجهة إلى وزير الداخلية
لم تكن المبادرة بتأسيس “عصبة مكافحة الصهيونية” بمعزل عن سياسة الحزب الشيوعي ومواقفه إزاء القضية الفلسطينية، وذلك قبل تغيير القيادة السوفيتية رأيها وانتقالها من الدعوة إلى إقامة دولة ديمقراطية مستقلّة موحدّة في فلسطين بإنهاء صكّ الانتداب البريطاني إلى تأييد قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، وهو الموقف الذي أثار ارتباكاً في أواسط الحركة الشيوعية واليسارية بشكل خاص ولدى الجمهور العربي بشكل عام، حيث انقلب الموقف بنسبة 180 درجة، وهو ما ظلّت الأحزاب الشيوعية العربية تعاني منه وتتراوح مواقفها بين التمسك بالماضي وبين غضّ الطرف عنه في بعض الأحيان أو تجاهله أو مسّه بالنقد على نحو خفيف باستثناءات محدودة، تلك التي ذهبت إلى نقده والدعوة إلى إعادة قراءته لتصحيح المسار والتوجّه[14].
وكان تأسيس العصبة يعود إلى تقدير نظري سليم قبل تغيير الموقف السوفييتي باعتبار “أن للمشكلة اليهودية جذور عميقة في النظام الاجتماعي، وهي ليست كما تبدو لمن ينظر إليها نظرة سطحية على أنها وليدة اختلاف ديني أو تمايز عنصري أو عدم ائتلاف في العادات والأخلاق…” ولطالما كانت قضية فلسطين هي “قضية البلاد العربية بأسرها، فلا يمكن إذن أن نقف إلّا بجانب عرب فلسطين ونؤيدها …” [15]
ولتأكيد هذا الموقف عملياً، خصوصاً بعد الدعوات التي تردّدت في الأواسط الدولية بشأن الدعوة إلى تقسيم فلسطين، وجّهت العصبة رسالة إلى ستالين أمين عام الحزب الشيوعي السوفيتي جاء فيه: ” إننا نتضرّع إليكم أيها الرفيق ستالين أن تؤيّدوا قضية فلسطين عندما تطرح أمام الأمم المتحدة…لا التباس في حق شعب فلسطين العربي بالاستقلال، وقضيّتهم لا علاقة لها بمخاوف اليهود المعتدلين” وجاء فيها “إننا واثقون أن حكومتكم التي تعتمد مبادئها وسياستها الخارجية على احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، ستقف إلى جانب العرب في محنتهم.”[16]
ويمكن تحديد أهم ما جاء في العريضة (المذكرة) الموجّهة إلى وزير الداخلية من مطالب أساسية:
- العداء للصهيونية عداءً صميمياً كما ورد في النص.
- الدعوة إلى تعاون العرب واليهود على دعم قضية فلسطين.
- منع الهجرة اليهودية.
- إيقاف إنتقال الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة.
- (إقامة) دولة ديمقراطية عربية مستقلة إستقلالاً تاماً.
- ضمان حقوق المواطنين كافة عرباً ويهوداً.
إن الأساس في هذا التوجّه الإيجابي يقوم على رفض الانعزالية التي حاولت الصهيونية بثّها بين اليهود، بهدف فصل اليهود ( عن مجتمعاتهم العربية)، وبالمقابل سعي النخبة اليهودية المتقدمة والمؤمنة بمبادئ التضامن والعيش المشترك إلى الفصل بين اليهودية كدين وبين الحركة الصهيونية كحركة عنصرية رجعية، وهو الأمر الذي فات على الكثير من “القوميين”، ولاسيّما المتعصّبين الذين لم يفرقوا بين اليهود وبين الصهيونية، وظلّ مثل هذا الالتباس قائماً وشمل في الكثير من الأحيان توجّهات دينية، نظرت من موقع عدائي وكأنه صراع بين الأديان والمقصود بين الإسلام واليهودية، وهو ما حاولت الرواية الصهيونية أن تعزف عليه، باعتباره صراعاً إقصائياً إلغائياً لا يمكن حلّه، وأن اليهود محاطون بالمسلمين من كلّ حدب وصوب وهم “أغلبية” عددية على المستوى العالمي، في حين أن اليهود “أقلية”.[17]
الصهيونية وأكثر من حجر
تحاول الصهيونية أن ترمي أكثر من حجر لتصيب ذات الهدف، والمقصود بذلك إثبات صحة روايتها بشأن أحقيّتها في فلسطين، وهي دائماً تريد الترويج إلى عدد من القضايا بقصد لفت الأنظار عالمياً لتصديق روايتها من خلال ما يأتي:
أولاً – أن اليهود مهدّدون بالإبادة من جانب المسلمين ، وأن الصراع إلغائيّ إقصائيّ لا مجال إلى حلّه، في حين أن المشكلة هي اغتصاب حقوق شعب ومنعه من تقرير مصيره بطرده خارج أراضيه وإحلال مستوطنين محلّه من كلّ بقاع الأرض. أي أنه صراعٌ على الحقوق في الأرض وليس حول قيم السماء أو تعاليم الأديان.
وثانياً – الزعم بأن الصراع ديني والهدف من ذلك هو فصل المسيحيين عن المسلمين، في محاولة لمنعهم من المشاركة في النضال ضدّ الصهيونية ونظام الأبرثايد الجديد، بل والعمل على إجلائهم وتهجيرهم كي يظهر الصراع بوجهه الديني اليهودي – الإسلامي وليس بوجهه الوطني الفلسطيني العربي ضدّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي وضدّ الصهيونية.
وثالثاً – أن الصهيونية تمثّل يهود العالم وتنطق باسمهم، وذلك بتأسيس كيانية سياسية لها تمثّل جوهر العقيدة الصهيونية والمقصود (إسرائيل) التي تأسست بقرار من الأمم المتحدة، وينبغي حمايتها، وظلّت تغزل على هذا المنوال منذ قيامها وإلى الآن، على الرغم من عدوانها المتكرّر واحتلالها للأراضي العربية وتوسّعها وتنكّرها لجميع قرارات الأمم المتحدة وما يسمّى بالشرعية الدولية وبينها القرار 242 لعام 1967 و338 لعام 1973، ناهيك عن تجاوزها على القرار 181 باحتلال كامل فلسطين وضمّها القدس الشرقية، والقرار 194 الخاص بحق العودة للّاجئين.[18]
أهداف العصبة وأساسها القانوني
حدّدت المادة الثانية من عصبة مكافحة الصهيونية أهدافها ﺑ :
- مكافحة الصهيونية.
- فضح أعمالها ونواياها بين جماهير الشعب العراقي، ولاسيّما اليهود.
- الوقوف ضدّ الصهيونية ودعايتها.
- القضاء على النعرات الطائفية التي تمزّق الشعب العراقي.
- خلق جو من التفاهم بين مواطني الشعب العراقي.
- بث روح الديمقراطية بين سائر أفراد الشعب العراقي.
أما الأساس القانوني، فقد أختار مؤسّسوها والحركة الشيوعية التي تقف خلفها نقطة مفصلية في تاريخ العراق، وهي ما نطلق عليه “اللحظة الثورية” (مجازاً) أي تناسب الظرف الموضوعي مع الظرف الذاتي، خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتشار الأفكار الديمقراطية وإبداء الأمير عبد الإله الوصي على العرش استعداد المملكة العراقية للانفتاح وذلك في خطابه يوم 27 كانون الأول / ديسمبر 1945 الذي أعلن فيه موافقته على تأسيس الأحزاب “التي لا يصحّ بقاء البلاد خاليةً منها”، الأمر الذي التقطته الوزارة التي شكّلها توفيق السويدي بتاريخ 23 شباط/ فبراير 1946 وكان لوزير الداخلية سعد صالح (جريو) دوراً مهماً على هذا الصعيد وهو القانوني والأديب القريب من الحركة الوطنية فأقدم على عدد من الخطوات الجريئة منها إجازة العصبة قانونياً بعد الاطلاع على منهاجها وانسجامها مع الدستور والقوانين والأنظمة المرعية بتشكيل الجمعيات.[19]
وقد اتُخذ قرار إجازة العصبة في 16 آذار / مارس 1946، وسُمح لها بإصدار جريدة علنية أطلقت عليها إسم “العصبة“، وقد صدر عددها الأول في 7 نيسان (أبريل) من العام ذاته، واستمرّت في إصدار أعدادها التي وصلت إلى العدد 51، ثم توقفت عن الصدور بسبب قرار حكومي بعد استقالة وزارة توفيق السويدي.
في مؤتمرها الأول انتخبت العصبة هيئة إدارية ضمّت يهودا صديق [20] الذي أُعدم في العام 1949 بعد أن أصبح مسؤولاً أولاً للحزب الشيوعي مع مالك سيف إثر اعتقال فهد أمين عام الحزب وكان قد ترأس هيئة الرقابة في العصبة؛
- يوسف هارون: رئيس العصبة؛
- يعقوب مير مصري: سكرتير العصبة؛
- يوسف زلوف ومسرور صالح قطان ويوسف هارون زلخا ويعقوب قوجمان : أعضاء.
وكلّفت قيادة الحزب زكي بسيم ( عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي) العلاقات والتنسيق والإشراف على العصبة، وقيادة الفراكسيون الحزبي ( المكتب الحزبي الخاص بتنظيم العصبة)، وكان للأمين العام فهد دوراً مهماً في نشاطها، بما فيها كتابة بعض افتتاحيات جريدة العصبة. وقد تمّ جمع مقالاته لاحقاً بكراس سمّي “رسائل العصبة“، وكراس آخر بعنوان: نحن نكافح من أجل من؟ وضدّ من نكافح؟ وعالج في العديد من كتاباته المشكلة الفلسطينية بفصل الصهيونية عن اليهودية وربطها بالاستعمار بما فيه الاستعمار الأمريكي الصاعد.[21]
لم تقتصر عصبة مكافحة الصهيونية على الشباب اليهودي، بل ضمّت عدداً من الوجوه الوطنية العراقية مسلمين ومسيحين وقامت بتنظيم اجتماعات حاشدة في بغداد والبصرة بلغ عددها 22 إجتماعاً واستفادت من العمل العلني لتعبئة الرأي العام ضدّ الصهيونية ومشاريعها العنصرية.
وساهمت العصبة في كسر التردّد الذي كان ينتاب بعض أفراد المجموعة الثقافية اليهودية من المشاركة في العمل السياسي وكان من أبرز التوجهات الإيجابية التي اعتمدتها هو في الذكرى 28 لصدور وعد بلفور، فأصدرت أعلنت فيها استنكارها لوعد بلفور.
ومما جاء في البيان: ” أن الإستعمار يستطيع أن يتكرّم بفلسطين مئات المرات، طالما أنها ليست بلاده وطالما أنه يجد في ذلك ربحاً له ومغنماً لأن غايته وعميلته الصهيونية هي تحويل “نضال العرب الموجه ضدّ الاستعمار نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، ولو كان المستعمرون يعطفون حقاً على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوروبا”.[22]
كان خطاب العصبة جامعاً وموحداً ووطنياً، وقد بادرت إلى التظاهر في 28 حزيران / يونيو 1946[23] بدعم وتوجه من الحزب الشيوعي، وتعرّضت تلك التظاهرة إلى قسوة وقمع شديدين من جانب الأجهزة الأمنية، فسقط أول شهيد شيوعي يهودي هو شاوول طوّيق (عضو العصبة) وجُرح عدد غير قليل في هذه التظاهرة السلمية المتضامنة مع فلسطين. وعلى أثر التظاهرة اتخذت السلطات الحكومية قراراً ﺑ :
- حظر نشاط العصبة.
- إيقاف صحيفتها.
- إحالة المشاركين في التظاهرة ممن ألقي القبض عليهم إلى القضاء.[24]
وأصدرت محكمة الجزاء يوم 15 أيلول / سبتمبر 1946 قرارها بالحكم على كلّ من : يعقوب مير مصري ومسرور صالح قطان بالحبس الشديد لمدّة سنة واحدة، وعلى كل من خليل نصيف بالحبس لمدة ستة أشهر، وعلى سامي ميخائيل وعمانوئيل بطرس بالحبس البسيط لمدة ثلاثة أشهر وفقاً للمادة 89 بدلالة المواد 53 و 54 و 78 من قانون العقوبات البغدادي.
وأصدرت المحكمة حكماً بالسجن المؤبد على يوسف هارون زلخا رئيس العصبة، بزعم أنه يترأس عصبة للكفاح من أجل الصهيونية وليس ضدّها.
وكان من أبرز ما قامت به العصبة هو التنبيه إلى العدو المشترك للعرب واليهود وأهمية التضامن إزاء المخاطر المشتركة وسلّطت ضوءًا على نشاط الوكالة الصهيونية وبعض أركان الحكومة العراقية الموالية لبريطانيا، لتهجير اليهود العراقيين إلى فلسطين.[25]
كانت مبادرة تأسيس العصبة إحدى مآثر الحزب الشيوعي وزعيمه “فهد”، إضافةً إلى الدور المتميّز للشيوعيين اليهود الذين وقفوا ضدّ الصهيونية وعارضوا منطلقاتها الفكرية وكشفوا زيفها بادعاء تمثيل اليهود بغضّ النظر عن بلدهم الأصلي وميّزوا بين الصهيونية كعقيدة عنصرية واليهودية كدين، وهو ما جاء في كتاب أوريت باشكين. [26]
جدير بالذكر إن عدد الشيوعيين اليهود في الحزب الشيوعي العراقي كان حينها حوالي 300 عضواً كما تقول تشلسي سيمون ماي[27] التي سلّطت ضوءًا على الشيوعيات اليهوديات اللواتي كن ملتزمات بمستقبل العراق من خلال برامج الحزب، فضلاً عن معاداتهم للصهيونية والفاشية، حيث استطاع الحزب استقطاب عدد غير قليل منهن لمواقفه من تأييد حقوق المرأة.
وحسب سجلات التحقيقات الجنائية (أجهزة الأمن العراقية) واستجوابات العديد منهن فقد برز عدداً منهن مثل: إلين يعقوب درويش ودوريس وأنيسة شاؤول ونجيّة قوجمان وسعيدة ساسون مشعل (سعاد خيري – زوجة زكي خيري) وعمومة مير مصري (عميدة مصري) ومارلين مائير عيزرا (زوجة بهاء الدين نوري) وكامن سعيدة سلمان وألبرتين منشّي وراشيل زلخا. وكانت النساء اليهوديات الشيوعيات فخورات بهويّتهن العراقية بشكل عام مثل اليهود الشيوعيين. ومثلما نشطت الحركة الشيوعية داخل الوسط اليهودي ، ولاسيّما النسوي، فقد نشطت الحركة الصهيونية على نحو واسع مستقطبةً عدداً أكبر من النساء اليهوديات، حيث بلغ عدد الناشطات نحو 600 إمرأة صهيونية قبل الهجرة الجماعية (1951) كما ورد في Encyclopedia of Jewish Women [28].
الموقف السوفيتي
انعكس تغيير الموقف السوفيتي من القضية الفلسطينية سلباً في الشارع العربي، فبعد أن كان موقفه ضدّ قرار التقسيم تحوّل إلى تأييد له، وتحضرني مفارقة نقلها منير شفيق في مذكراته، ومفادها أن فؤاد نصّار (أبو خالد) الذي كان حينها مسؤولاً عن الجريدة وعضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الأردني قبل أن يصبح أميناً عاماً له، وكان ينام في مطبعة الحزب، وفي الساعة الرابعة صباحاً جاء مصفّف الحروف وقال له استيقظ يا رفيق فقد أيّد المندوب السوفيتي قرار التقسيم، فنهض كمن لسعته أفعى، فطلب منه التقاط محطّة راديو موسكو للتأكّد من الخبر، وبعد أن اطمئن إلى أن الخبر صحيح، قام بسحب المقالة التي كتبها للتنديد بقرار التقسيم والدعوة إلى دولة ديمقراطية موحّدة، واستبدلها بمقالة أخرى كتبها بالضدّ من مقالته الأولى أعرب فيها عن تأييده لقرار التقسيم كما أشاد فيها بالموقف السوفيتي، ، وهو ما سارت عليه الغالبية الساحقة من الأحزاب الشيوعية العربية، بل إنه يمثّل نموذجاً لطريقة التفكير التعويلية والعلاقة التبعيّة بالمركز الأممي. [29]
وظلّ موقف الحزب الشيوعي العراقي متحفّظاً في البداية، وهو ما يمكن تلمّسه من توجيه داخلي للحزب جاء فيه:
“إن موقف الاتحاد السوفيتي بخصوص التقسيم وفّر للصحف المرتزقة ومأجوري الإمبريالية فرصة لا للتشهير بالاتحاد السوفيتي فقط، بل أيضاً بالحركة الشيوعية في البلدان العربية… ولذلك على الحزب الشيوعي تحديد موقفه من القضية الفلسطينية حسب الخطوط التي انتمى إليها والتي يمكن تلخيصها بالتالي:
- إن الحركة الصهيونية حركة دينية رجعية ومزيفة بالنسبة للجماهير اليهودية.
- إن الهجرة اليهودية.. لا تحلّ مشكلات اليهود المقتلعين من أوروبا، بل هي غزو منظّم تديره الوكالة اليهودية.. واستمرارها بشكلها الحالي… يهدّد السكان الأصليين في حياتهم وحريّتهم.
- إن تقسيم فلسطين عبارة عن مشروع إمبريالي قديم… يستند إلى استحالة مفترضة للتفاهم بين اليهود والعرب.
- شكل حكومة فلسطين لا يمكن أن يتحدّد إلّا من قبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في فلسطين فعلاً، وليس من قبل الأمم المتحدة أو أي منظمة أو دولة أو مجموعة دون أخرى.
- إن التقسيم سيؤدي إلى إخضاع الأكثرية العربية للأقلية الصهيونية في الدولة اليهودية المقترحة.
- إن التقسيم وخلق دولة يهودية سيزيد الخصومات الوطنية والدينية وسيؤثر جديّاً على آمال السلام في الشرق الأوسط.
ولكلّ هذه الأسباب فإن الحزب الشيوعي يرفض بشكل قاطع خطة التقسيم.[30]
ولعلّ هذا الموقف هو الذي كانت تتبناه العصبة قبل قرار حلّها وتحريم نشاطها وإغلاق صحيفتها، ولكن هذا الموقف بدأ يتغيّر بعد الكراس الذي وصل من باريس باسم “الرابطة العربية الديمقراطية” والذي صدر بتاريخ 11 حزيران / يونيو 1948 وقد جلبه يوسف اسماعيل البستاني إلى العراق وقد تمّ توزيعه على الشيوعيين تأثّراً بالحزب الشيوعي الفرنسي والمرجعية السوفيتية بتأييد قرار التقسيم.
وقد تمّ إيصال الكرّاس إلى سجن الكوت وعندما بدأ أحد أعضاء تنظيم السجن بقراءته بصوت عال حسب العادة الجارية في مناقشة بعض الأمور العامة أمره فهد بالتوقف عن ذلك، وبعد سماعه فقرات قليلة منه لم تعجبه لأنها تتعارض مع توجّه الحزب الشيوعي، خصوصاً بعد قيام “إسرائيل” في 15 مايو / أيار 1948 على أساس قرار التقسيم ، وذلك في تحفّظ كبير على بيان باريس.[31]
وقد صاغ عامر عبد الله التقرير النهائي المقدّم إلى الكونفرنس الثاني للحزب أيلول / سبتمبر 1956 والذي جاء فيه ” إن بعض العناصر المشكوك بها نجحت في أن تدسّ في صفوف حزبنا وحركتنا مفاهيم خاطئة بالنسبة إلى الصهيونية… من بينها الأفكار التي وجدت صداها في بيان عنوانه “أضواء على القضية الفلسطينية“.[32]
إعدام فهد
لعلّ موقف فهد من القضية الفلسطينية، خصوصاً تحفّظه على قرار التقسيم كان وراء إعدامه، فبعد أن اضطرت حكومة صالح جبر إلى إبدال حكم الإعدام بالسجن المؤبد، إلّا أن ذلك لم يرض المخابرات البريطانية فلجأت إلى التحريض ضدّه بدعم من الصهيونية، خصوصاً بعد وثبة كانون 1948 واعتبرته مسؤولاً عن التحرك الشيوعي خارج السجن، لاسيّما بعد فشل الحكومة من إمرار معاهدة بورتسموث (معاهدة جبر – بيفن)، ولذلك أصرّت حكومة نوري السعيد التي تشكّلت في 6 كانون ثاني / يناير 1949 على إعادة المحاكمة وصدر حكم الإعدام بحق فهد ورفاقه، وتم تنفيذه على جناح السرعة ليلتي 13 – 14 شباط / فبراير 1949، حيث أُعدم كلّ من فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي ويهودا صدّيق، وعُلّقت جثثهم في الساحات العامة.
وكان نوري السعيد الأكثر ميلاً إلى استخدام العنف ضدّ المعارضة باعتبارها الحلّ الأمثل لفتّ عضدها وتشتيت صفوفها. وحسب عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) الصحافي الشيوعي البارز الذي أعدم بعد انقلاب شباط / فبراير 1963 أن السفير البريطاني شخصياً كان يتابع محاكمة فهد، وشجّع إصدار حكم الإعدام ضدّه، علماً بأن ثلاث جهات كانت مستفيدة من إعدامه هي الإمبريالية العالمية وخصوصاً البريطانية والصهيونية العالمية والرجعية العربية، الأمر الذي أجهز على الحركة اليسارية والوطنية وكمّم الحريات بحجّة الحرب العربية – “الإسرائيلية” والقضية الفلسطينية.
ويستعرض عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)[33] الإجراءات القمعية التي اتخذتها الحكومة فبعد “… وثبة 1948 وخلال هجوم 1949 … وبعد ارتكاب مجزرة سجن الكوت وسقوط 18 شهيداً و 200 جريح وصدور أحكام متفاوتة ضدّ 118 سجيناً انتزعت السلطات الحكومية خمسة عشر مناضلاً يهودياً منهم، وكان بعضهم مصاباً بجروح خطيرة، فشحنتهم بالسيارات إلى سجن نقرة السلمان لحجزهم هناك مع المجرمين العاديين والصهيونيين، ودبّرت إدارة سجن نقرة السلمان هجوماً غادراً عليهم وعلى السجناء السياسيين الآخرين مستعينة بعصابات من السجناء العاديين المجرمين والصهيونيين وعلى رأسهم الصهيوني البريطاني الجنسية رودني.
وفي أواخر 1949 انتقل المجلس العرفي العسكري بكامل هيأته إلى سجن نقرة السلمان، حيث أجريَ محاكمة أربعة وأربعين سجيناً بتهمة ترويج الشيوعية لأنهم قدموا إلى السلطات الحكومية عريضة يحتجّون بها على اختطاف قادة الحزب الشيوعي من سجن الكوت وإعدامهم.[34]
وكانت الوكالات الصهيونية قد نظّمت حملة مضادة لتوجّهات العصبة، وجمعت بعض مئات من التواقيع المطالبة بالهجرة، ولكن نشاط هذه الأخيرة توسّع بعد إغلاق صحيفة العصبة ومنعها من العمل القانوني الشرعي فاستغلّت هذا الغياب تحرّض اليهود على الهجرة وزاد الأمر سوءًا ما تعرّض له اليهود وأماكن العبادة إلى أن أقدمت الحكومة العراقية على إصدار قانون يسهل أمر تهجيرهم[35] في عمليات تخريب وتفجيرات نفذت بعضها منظمات صهيونية إرهابية بهدف دفع اليهود إلى الهجرة.
حاولت الحركة الصهيونية وبالتواطؤ مع بعض أركان النظام الملكي على تهجير اليهود من العراق مقابل المال، وعندما كانت تفشل في مخطّطها لعدم الاستجابة الكافية من جمهور اليهود، كانت تضع المتفجرات لهم في أحيائهم وأماكن العبادة لتخويفهم ودفعهم إلى الهجرة إلى “إسرائيل” على نحو قُضيَ على أقدم طائفة يهودية في العالم خارج فلسطين، وألحق ضرراً بالنسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي وتعدديته الدينية والعرقية.[36]
العصبة والإشعاع العربي
كانت مبادرة عصبة مكافحة الصهيونية التي تأسست في العراق رافعة للنضال ضدّ الصهيونية، وهو ما لفت الإنتباه إليها عربياً، فقد عملت إحدى التنظيمات الشيوعية المصرية وهي المعروفة باسم “الشرارة” على تكليف الفرع اليهودي في المنظمة العمل على تأسيس :الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية” في أواسط العام 1946، وكانت أهدافها مقاربة لأهداف العصبة. ويمكن تلخيصها ﺑ “محاربة العنصرية ومكافحة الاستعمار وربيبته الصهيونية”.
وأكّدت على العمل من أجل “إيجاد شرق عربي حر مستقل يضلّله التسامح وجو من الإخاء المطهّر من العنصرية العصبية المقيتة التي لن يكسب من ورائها سوى الغاصب المحتل”، وكان لها فروعاً في القاهرة والإسكندرية. وكان رئيسها عزرا هاراري الذي ألقي القبض عليه وعلى أعضاء الهيئة المؤسسة في العام 1947 وتم حلّ المنظمة في العام 1948.
إضمامة: الصهيونية – من لينين إلى بوتين[37]
قد تبدو هذه الإضمامة مقحمة على عنوان البحث، لكنني أعتقد أنها متمّمة ومكمّلة وضرورية لمعرفة سياق الحركة الصهيونية وتوجهاتها وتغلغلها داخل الحركة الشيوعية، فضلاً عن تذبذب الموقف إزاءها، ولعلّ ذلك يعطي صورة بانورامية عن طبيعة إتخاذ القرار في أعلى القيادات بتجاوز المبدئي والإستراتيجي والبعيد المدى نحو التكتيكي والطارئ والقصير النظر.
نشأت الحركة الصهيونية أساسًا في روسيا وبولندا وكانت أولى الهجرات اليهودية إلى فلسطين العام 1880 من روسيا وبولندا ودول البلطيق[38]. وكان العديد من المهاجرين ممن تأثّر بالنضال الثوري الروسي، بالرغم من صهيونية البعض منهم.
كانت روسيا القيصرية في بداية القرن العشرين تضم بولندا ويقطنها جالية يهودية هي الأكبر في العالم ، حيث يبلغ تعدادها نحو 5 ملايين إنسان وهو يوازي ثلثي يهود العالم يومها. وعلى الرغم من استقلال بولندا لاحقًا واتساع نطاق الهجرة، إلّا أن عدد يهود الإتحاد السوفيتي ظلّ كبيراً، كما أنهم احتلوا مواقع مهمة في الحزب الشيوعي والمواقع الرسمية في الدولة تفوق كثيرًا نسبتهم العددية؛ وقد حاول العديد منهم الإندماج في العشرينيات والثلاثينيات، لكن أهوال عمليات التطهير النازية أيقظت مشاعرهم، علمًا بأن العديد منهم لم يسجّل في هويّته الشخصية كونه يهوديًا.
أضاء لينين منذ وقت مبكّر الفوارق الجوهرية بين الماركسية والصهيونية واعتبر الأولى نقيضًا للثانية التي لا تجتمع معها، فالثانية حركة عنصرية “حتى لو كانت الأكثر عدلًا وتطهّرًا وتحضّرًا”؛ مؤكدًا على تعارض الأممية مع تلك النزعات الضيقة، وقد تبنّى البلاشفة موقف لينين، وأصبح بمثابة سياسة رسمية للإتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية، بما فيها الأممية الثالثة، التي أسسها لينين العام 1919، فضلًا عن الممارسة الفعلية على مستوى الدولة، حيث اعتبر مبدأ المساواة بين المواطنين الأساس الذي ينبغي اعتماده بغض النظر عن الدين والقومية والجنس واللون والأصل الإجتماعي، بالرغم من استمرار بعض الإنتهاكات والممارسات الإستعلائية، لكن ما كان معمولًا به وقائمًا قانونيًا هو المساواة، حيث اعتبر الترويج للتفرقة العنصرية والدينية بمثابة جريمة تستوجب العقاب[39] .
وكان لينين من قبل قد سفّه فكرة الأمة أو القومية اليهودية التي حاول زعماء الصهيونية التعكّز عليها، مؤكداً على ضرورة اندماج اليهود في الشعوب التي يعيشون فيها، وعارض بشدّة فكرة البوند ومطالبه باعتباره ممثلاً وحيداً للبروليتاريا اليهودية، كما رفض اشتراطات الاتحاد العام للعمال اليهود في ليتوانيا وبولونيا وروسيا، بشأن الاستقلال الثقافي ورأي البوند بخصوص تقسيم التنظيم الحزبي حسب القوميات ودافع عن وحدة البروليتاريا وجميع الكادحين في حزب موحّد وحارب انعزالية البوند وانحرافه القومي، وعلى هدى ماركس أجاب على السؤال التالي: الإندماج أم الإنغلاق؟ فأشار إلى ضرورة الإندماج والتمثّل، وإلى أن فكرة القومية اليهودية تتسم بطابع رجعي جلي. [40]
جدير بالذكر أن الكثير من قادة ثورة أكتوبر كانوا من اليهود، ومن أبرزهم تروتسكي الشخصية الثانية بعد لينين وسفيردلوف (رئيس اللجنة التنفيذية المركزية 1917 – 1919)، وهو المنصب الموازي لرئيس الدولة، وكامينيف وزينوفيف وآخرين. وكان الكثير من اليهود محيطين بستالين، حيث تعاونوا معه خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه انقلب عليهم إثر ما عرف بمؤامرة الأطباء وأعدم ونكّل بالكثير منهم[41]، علمًا بأن تلك القضية ماتت بموت ستالين، حيث تم الإفراج عن المعتقلين العام 1953 وعادت العلاقات مع “إسرائيل” التي تم وقفها العام 1952 إثر تفجير قنبلة في مقر البعثة السوفيتية في تل أبيب.
وبالعودة إلى موقف ستالين من اليهود والصهيونية والعلاقة مع “إسرائيل” فقد كان معقداً ويتسم بالصعود والهبوط واللين والشدّة، فضلاً عن مزاجية عالية وقضايا مبهمة وغير مفهومة أحياناً، فخلال الحرب العالمية الثانية أسس ستالين في العام 1942 “اللجنة اليهودية للنضال ضدّ الفاشية” وترأسها سليمان ميخائيل ( الذي أعدم لاحقًا في إطار عملية التنكيل).
وإذا أردنا إخضاع الموقف السوفيتي للتحليل والقراءة المتأنية فيمكن القول أنه تقلّب بين عدد من الاعتبارات السياسية المتعارضة وابتعد في الكثير من الأحيان عن الاعتبارات المبدئية باستثناء الفترة الأولى، ولذلك تراوح بين التراخي والتشدّد، وهو موقف خضع لطبيعة ستالين ومزاجه وتقديراته، ففي حين تمّ الإعتراف باليهود والتعامل معهم رسميًا كمجموعة ثقافية “أقلية”، إلّا أنهم لم يتمتعوا بحكم ذاتي يضمن حقوقهم السياسية والثقافية مثل باقي المجموعات الثقافية[42]. وقد انعكس ذلك الموقف غير المتوازن والمضطرب سلبًا على القضية الفلسطينية، وقاد لاحقًا إلى استخدام تكتيكات خاطئة على حساب قضية استراتيجية إنسانية عادلة، واستمر هذا الموقف المتذبذب بالرغم من المساعدات القيمة التي قدمها السوفييت للعرب في دعم قدراتهم القتالية لاحقًا، خصوصًا مصر وسوريا والعراق، أو في دعم موقفهم في المحافل الدولية، الأمر الذي توّج بعد الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982 وفي عهد أندروبوف الأمين العام للحزب إلى تأسيس “اللجنة الإجتماعية لمناهضة الصهيونية” (1983)، ثم انقلب إلى السماح لليهود بالهجرة ودعم المشروع الصهيوني في أواخر الثمانينيات.
و إذا كان هناك نوع من التردد وعدم اتخاذ موقف قاطع، مع الميل إلى اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، إلّا أن ثمة تقلبات منظورة وغير منظورة في السياسة السوفيتية قادت إلى تبدّلات في الموقف إزاء اليهود ومعاناتهم من جهة، ومن ثم إزاء الصهيونية، وهو ما حصل لاحقًا خلال الحرب العالمية الثانية على الرغم من أن الشرق الأوسط لم يحظ بالإهتمام المطلوب من جانب الإتحاد السوفيتي، وقد حصلت تلك الإنعطافة في مؤتمر يالطا العام 1945 ، وهي إحدى اتفاقات الحلفاء عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية والفاشية.
وثمة مفارقة لم تُلحظ تأثيراتها حينها، لكنها ظهرت لاحقًا والمقصود بها إتفاق الزعماء الثلاثة الأمريكي والبريطاني والسوفيتي على “تجميع اليهود في موطن لهم في فلسطين والسماح بهجرتهم إلى هذا البلد من جميع البلدان”[43].
وبالطبع لم تكن القضية الفلسطينية تشغل موسكو حينذاك، وكانت الأخيرة تنظر إلى البلدان العربية بوصفها مناطق نفوذ للإستعمار البريطاني والفرنسي. وكان الإتحاد السوفيتي قد طالب العام 1946 إنهاء الإنتداب البريطاني على فلسطين والإنسحاب منها وإعلان إستقلالها، ثم تبنى في وقت لاحق ولمدة قصيرة شعار دولة موحدة (عربية – يهودية) ، لكن هذا الموقف لم يستمر.
يقول المؤرخ والباحث الروسي ألكسي فاسيليف “لقد جذبت الحرب التي خاضها الصهاينة في فلسطين من أجل إنشاء دولتهم إهتمام ستالين فقرّر تقديم الدعم لهم؛ وكان منطقه بمنتهى البساطة: العالم العربي وقع تحت هيمنة نُظم رجعية موالية لبريطانيا وفرنسا، وانتصار الصهيونية في فلسطين يعني هزيمة بريطانيا ..”، ولذلك قرّر دعم الصهيونية، حيث تم إرسال السلاح والجنود الذين كانوا في الأساس يهودًا ذوي قدرات قتالية[44].
وبالطبع لم يكن هذا الموقف خاطئًا فحسب، بل ومناقضًا لأسس الماركسية ومشاركًا فعّالًا في قيام دولة “إسرائيل”.
وفي نوفمبر / تشرين الثاني 1947 أعلن غروميكو المندوب السوفيتي في الأمم المتحدة تأييد قرار التقسيم رقم 181 وأطلق عليه “القرار الأكثر قبولًا” والذي نصّ على تقسيم دولة فلسطين إلى دولتين. وبرّر أن القرار ليس موجّهًا ضدّ العرب وأنه يتوافق مع المصالح الوطنية الأساسية لكلا الشعبين، سواء مصالح الشعب اليهودي أو الشعب العربي [45]. وقال غروميكو “إن اليهود والعرب في فلسطين لا يرغبون ولا يستطيعون الحياة في نطاق واحد، ومن هنا نصل إلى نتيجة منطقية… فلم يبق أمامنا إلّا أن ننشئ دولتين.[46]
وحين أُعلن عن تأسيس “إسرائيل” في 15 مايو / أيار 1948، بادر الإتحاد السوفيتي على الفور إلى الإعتراف بها مباشرة، ولم يكن يفكر بمعاناة شعب فلسطين. وكان أول وفد “إسرائيلي” تم استقباله برئاسة السفيرة غولدا مائير (مايرسون).
لكن هذه المواقف تغيّرت في الخمسينيات والستينيات، وانعقدت صداقة عربية – سوفيتية، منذ أن بادر الزعيم المصري جمال عبد الناصر إلى شراء صفقة سلاح من تشيكوسلوفاكيا العام 1955، ولعلّ موقف السوفييت كان مشرّفًا خلال العدوان الإنكلو – فرنسي “الإسرائيلي” على مصر العام 1956، ويبقى ما عُرف ﺒ “إنذار بولغانين” في الذاكرة التاريخية كأحد الصفحات المشرقة على التضامن مع العرب، علمًا بأن العلاقات السوفيتية – “الإسرائيلية” تصدّعت أكثر من مرّة، وشهدت فتورًا وانحسارًا، كما تمّت الإشارة إليه في تفجير البعثة السوفيتية وحادثة الأطباء، وقد قطع الإتحاد السوفيتي علاقته “بإسرائيل” مرة ثالثة بعد عدوان العام 1967 على البلدان العربية، وظلّت العلاقات مقطوعة حتى أواخر الثمانينيات، حيث جرى تطبيع العلاقات التي عادت والتأمت وشهدت تطوّرًا كبيرًا قبيل انحلال الإتحاد السوفيتي بشهرين (ديسمبر / كانون الأول 1991)، ثم استمرت مع روسيا. علمًا بأن العلاقات قطعت لفترات قصيرة العام 1953 و 1956.
وشهدت الحركة الصهيونية إنتعاشًا كبيرًا باستغلال أجواء إعادة البناء والشفافية وما أسماه غورباتشوف “البريسترويكا والغلاسنوست” ، في أواسط الثمانينيات، حيث توّجت الضغوط الخارجية والداخلية بفتح باب هجرة اليهود السوفييت إلى “إسرائيل” في أواخر الثمانينيات، وذلك تمهيدًا لإعادة العلاقات الدبلوماسية[47] .
لا يمكن ونحن نتناول في مبحث خاص “روسيا والصهيونية” ألّا نتوقّف عند خطاب غروميكو في جلسة 2 مايو / أيار 1947 أمام اللجنة التوجيهية، ففيه تلخيص للموقف اللّامبدئي والمفاجئ والتي تمت المساومة عليه في مؤتمر يالطا، حيث شهد هذا البرزخ التاريخي المتعرّج تواطؤات خطيرة.
يقول غروميكو: “لقد سمعنا مندوبي الدول العربية منذ البدء يعرضون وجهة نظرهم على أتم الوجه، ولكننا لم نستمع إلى مندوبي الهيئات اليهودية. ويجب علينا أن نستذكر أن قضية فلسطين ليست إلّا قضية وعود أٌعطيت لليهود، ولذلك فلا سبيل لبحث هذه القضية بغير مراعاة مصالح اليهود وقلقهم، فليس من العدل أن نتجاهل ذلك الصالح اليهودي، ليس فقط بالنسبة لليهود في فلسطين، ولكن لليهود في كلّ مكان” [48].
ويُفهم من كلام غروميكو أن مشكلة فلسطين متعلّقة بيهود العالم، وعلى الفلسطينيين أن يتحمّلوا أعباء حلّها، والأمر لا يتعلّق بالوعود (المقصود وعد بلفور 1917)، بل بوضع ذلك موضع التنفيذ، وفقًا لمنطق العدالة الذي يتبناه لصالح اليهود، دون أن يكون في حسابه مصالح الغالبية الساحقة من سكّان فلسطين العرب، وهكذا كان المنطق يبتعد عن الجوانب الإنسانية لغالبية السكان، ناهيك عن ابتعاده عن الإعتبارات المبدئية الفكرية والأخلاقية والقانونية، وهو الموقف ذاته الذي اتخذه مندوب بولندا جوزيف ويليوتز في جلسة 29 إبريل / نيسان 1947 في الأمم المتحدة[49]. ولم يكتف غروميكو بما ذكره في خطابه، بل ذهب أبعد من ذلك حين ردّ على المندوب المصري وبقية المندوبين العرب وذلك في الجلسة المشار إليها.
لعلّ مواقف روسيا في عهد بوتين، خصوصاً العلاقات الروسية – “الإسرائيلية” تعيدنا إلى عشية تفكّك الإتحاد السوفيتي وما بعده، فخلال فترة غورباتشوف كان عدد من المحيطين حوله يسعون لإقناعه بأن هناك قوة كبيرة تدعم الصهيونية والماسونية، وللحصول على اعتراف من جانب واشنطن وأوروبا الغربية فلا بدّ من إنهاء الحملة المعادية للصهيونية والسماح للماسونية والصهيونية بفتح فروع لهما في الإتحاد السوفيتي وفيما بعد روسيا. وقد تم افتتاح الفرع الأول لمنظمة بناي بريث[50] في العام 1988، ثم تلته مكاتب وفروع أخرى، وقد صوّت الاتحاد السوفيتي على إلغاء القرار 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية والذي صدر عن الأمم المتحدة في 10 نوفمبر / تشرين الثاني 1975. وفي يونيو / حزيران 1992 وبعد أن فقد غورباتشوف جميع مناصبه استقبل في “إسرائيل” على أعلى المستويات، وحسب فاسيليف فإن الاعتقاد الذي كان سائداً: لكي نكون جزءًا من الغرب فلا بدّ أن نفتح قناة جديدة مع “إسرائيل”، أي أن تتحوّل العلاقة من عدو إلى حليف وشريك، لكن ذلك كان أقرب إلى بعض الأماني الساذجة والفهم المشوّش حسب ب. ف. ستيجيني [51]، وهكذا بدأت صداقة روسية – “إسرائيلية”، خصوصاً بعد عودة العلاقات الروسية – “الإسرائيلية” وطويت شعارات مكافحة الصهيونية والعنصرية وكان أول سفير لروسيا في تل أبيب أ. بوفين الذي قدّم أوراق اعتماده في 23 ديسمبر / كانون الأول 1991، وبلغ في هذه الفترة عدد المهاجرين الروس إلى “إسرائيل” نحو مليون مهاجر.
وعلى الرغم من العلاقة المميزة مع “إسرائيل” التي سبق لبوتين أن تحدث عنها، إلّا أنه رفض الوساطة “الإسرائيلية” في حل الأزمة مع أوكرانيا، وكان رئيس الوزراء “الإسرائيلي” نفتالي بينيت قد زار موسكو في شباط/ فبراير الماضي لعرض وساطة “إسرائيلية” لكن موسكو رفضت ذلك.
جدير بالذكر أن أول زيارة قام بها بوتين إلى “إسرائيل” كانت في نيسان / إبريل 2005، وألغيت تأشيرات الدخول بينهما في 2008، وحاول بوتين إجراء توازن في علاقاته العربية وعلاقاته “الإسرائيلية”.
وتوضّح هذه الفقرة الفوارق الكبيرة والمبدئية بين اليهود الشيوعيين العراقيين المعادين للصهيونية والذين استمروا في موقفهم هذا، سواء في سجنهم أم بعد تهجيرهم إلى “إسرائيل” أم في المنافي وبين مصالح الدولة الكبرى التي تتغيّر طبقًا لأهواء القادة وبعيدًا عن مصالح الشعوب وتطلّعاتها، ناهيك عن مبادئ العدالة والإنصاف، وهو الأمر الذي استمر في العهد الشيوعي وما بعده.
عوضاً عن الخاتمة
أخلص إلى القول من عرض حيثيات عصبة مكافحة الصهيونية ونضالها على الصعيد اليهودي بشكل خاص، فضلاً عن دورها في نقض الرواية “الإسرائيلية” بجميع أركانها ومقوّماتها والأسس التي قامت عليها في إطار سياقها التاريخي، باستشراف بُعد مستقبلي يمكن أن يكون جزءًا من حركة كونية واسعة ومنتشرة على امتداد العالم، وخصوصاً الاستفادة من القرارات الدولية والتطوّر الذي حصل على صعيد المجتمع الدولي.
ولا شكّ أن مواقف بعض المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو سيكون مفيداً حين تنفي بعض ادعاءات الصهيونية، ولاسيّما بشأن “قضية القدس” التي تمثّل لبّ القضية الفلسطينية بما لها من مكانة رمزية إنسانية وروحية شديدة الالتصاق والتلاحم بالمكانة الثقافية والتاريخية والأثرية.
جانبان في نقض الرواية “الإسرائيلية” ، أحدهما دبلوماسي وله علاقة بالتحرّك في المحافل الدولية، سواء الحكومية أو غير الحكومية، وثانيهما ثقافي وله امتداد دولي حكومي وغير حكومي بما فيه ما يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني، وتعتبر الحلقات الدبلوماسية والثقافية جزء من حركة مقاومة سلمية مدنية ضرورية لاستكمال سبل المواجهة الأخرى، خصوصاً باستخدام القوة الناعمة لصالح الحق والحقيقة في مواجهة الباطل والتزوير، بما فيه من جوانب اقتصادية وتجارية وفنية ورياضية وغيرها، وهو الأمر الذي يحتاج أن يولى اهتماماً خاصاً نظراً لتأثيرها الفعّال، لاسيّما إذا أُحسن استخدامها على نحو حيوي في إطار توازن المصالح وتبادل المنافع والمشترك الإنساني.[52]
إن تجربة العصبة على الرغم من تاريخيتها فإنها ما تزال حيّة، خصوصاً وأن أعداداً من اليهود اليساريين وغير اليساريين أخذت تتلمّس خطر الصهيونية على اليهود أنفسهم، لاسيّما بطلان ادعاءاتها بتمثيل اليهود، ناهيك عن ممارساتها العدوانية وارتكاباتها مجازر دموية، فضلاً عن تشريعها قوانين تمييزية عنصرية ولا إنسانية بحق عرب فلسطين، ويضاف إلى ذلك تمييزها ضدّ اليهود الشرقيين (السفرديم) ويهود الفلاشا (يهود إثيوبيا) لصالح اليهود الغربيين التي تعود أصولهم إلى أوروبا الغربية: ألمانيا وفرنسا وأوروبا الشرقية (الأشكيناز)، بل إن أوساطاً عالمية واسعة أخذت تدرك أكثر فأكثر بأن رهانها على دولة “إسرائيل” باعتبارها “واحة للديمقراطية” ليس له ما يبرّره ، بل إنها أصبحت عبئاً على الغرب نفسه في ظلّ التعصّب والإنغلاق والتطرّف وإثارة حروب مستمرّة، لدرجة أنها أصبحت بؤرة مستديمة للعدوان.
إن إعادة قراءة وثائق وأدبيات عصبة مكافحة الصهيونية تعطي الباحث أكثر من دليل وبرهان مادي ومعنوي على أن ما حصل من تهجير لليهود العراقيين وغير العراقيين إلى “إسرائيل” كان جزءًا من مؤامرة كبرى استهدفت الأمة العربية لصالح الحركة الصهيونية التي مارست تضليلاً واسعاً ودعاية سوداء، بتواطؤها السابق مع النازية أو بتقديم خدمات لصالح الدول الغربية أو بالتأثير على زعماء الكرملين خلال الحرب العالمية الثانية أو من خلال زعمها تمثيل يهود العالم، ناهيك عن ادعاءاتها التاريخية.
ملحق
العريضة (المذكرة) التي رفعتها الهيئة المؤسّسة
لعصبة مكافحة الصهيونية
بغداد 12/ 9/ 1945[53]
إلى معالي وزير الداخلية
تحية واحتراماً
نحن لفيف من الشباب اليهودي جئنا نتقدم إلى معاليكم بطلب لتأليف “عصبة مكافحة
الصهيونية” وتجدون نظامنا الأساسي مرفقاً طي طلبنا هذا.
يا صاحب المعالي:
نحن نعتقد، إخلاصاً، بأن الصهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب وعلى وحدتهم القومية. ونحن إذ نتصدى لمكافحتها علانية وعلى رؤوس الأشهاد إنما نعمل ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت. إن للمشكلة اليهودية جذوراً عميقة في النظام الاجتماعي، وهي ليست كما تبدو لمن ينظر إليها نظرة سطحية على أنها وليدة اختلاف ديني أو تمايز عنصري أو عدم ائتلاف في العادات والأخلاق وغيرها. فقد أثبت التاريخ أن اليهود كانوا دائماً كبش الضحية لأولئك الذين يصرون على المحافظة على امتيازاتهم وعلى العيش متطفلين على دماء أبناء الشعب. وهم بتحويلهم غضب الجماهير الموجه نحوهم إلى اليهود، يحاولون إنقاذ أنفسهم وما يتمتعون به من امتيازات، كما يكافحون بهذه الوسيلة كل حركة تقدمية حرة. وما حصل في ألمانيا والأقطار الفاشستية الأخرى من اضطهادات. مثلا، يثبت ذلك بصورة لا تقبل للشك.
أما الصهيونية فشأنها شأن كل حركة استعمارية استغلالية، ترمي إلى جر المغانم
والأرباح لنفسها، وإن كان في ذلك تضحية بجماهير اليهود، التي تتبجح “بأنها تكافح من أجل
إنقاذهم من الظلم” ولذلك فإنها راحت تستغل شعور المظلوم لدى الجماهير اليهودية (ذلك الشعور الذي يخلقه أصحاب الامتيازات لتحويل نقمة الجماهير عنهم وتضليلها كما قلنا)، لتتاجر بهم وبمصالحهم، وها أننا نراها تسخرهم كالأنعام في المزارع التي خلقتها في فلسطين، يكدحون ليلاً ونهاراً وليس لهم من وراء ذلك غير وجبات من الطعام تكاد تكون غير كافية لسد الرمق، شأنهم في ذلك شأن الماشية.
هذه هي الصهيونية سافرة عارية، ولكن الصهيونية ككل حركة استعمارية رجعية تشعر
ببشاعة شكلها وقبح معالمها فتقنّع نفسها بأقنعة جذابة وأثواب جميلة فضفاضة تخفي وراءها
بشاعتها وقبحها، ولذلك فنحن بوصفنا يهوداً وطنيين واعين نتقدّم بطلبنا هذا لغاية السماح لنا
بتمزيق القناع عن وجه الصهيونية الحقيقي أمام الجماهير اليهودية وغير اليهودية.
ثم نحن نعتقد اعتقاداً جازماً، نتيجة درس واختبار، بأن المشكلة اليهودية لا يمكن أن
تُحلّ إلاّ بحل مشكلة البلاد التي يعيش فيها اليهود. وإن الصهيونية يعاونها في ذلك الرجعيون
والمستعمرون يعملون دوماً على الخلط بين اليهود والصهيونية، فيذهب ضحية دعاياتهم المغرضة هذه كثير من السذج والمخدوعين، وبذلك يحاولون تمزيق وحدة البلاد وضرب الحركة الوطنية التحررية.
ونرجو أن تسمحوا لنا بإيراد كلمتين تكونان بعض الدلائل الكثيرة على صواب ما ذهبنا
إليه، وتفصحان عن جوهر الصهيونية والنازية بنفس الوقت.
قال هتلر للهر رواشينج “إن الدعاية اللاّسامية هي وسيلة لا يمكننا الاستغناء عنها في مد حملة دعايتنا السياسية إلى جميع الأقطار في العالم”.
وقال أحد الرأسماليين اليهود، قبل مجيء النازيين إلى الحكم، لا ير كارمورد في صدد
إيضاح مساعدته لهتلر، على أنه مستعد لأن يساعد حتى الشيطان إذا كان باستطاعته قيادة
الكفاح ضد الحركات الشعبية التحررية.
هذا هو جوهر الصهيونية المقيت وخطرها الداهم على جماهير اليهود وعلى البلاد العربية وحركاتها الوطنية. ولما كنا نحن يهودا وعرباً بنفس الوقت كان عداؤنا لها هو عداء مزدوج، يستمد قوته من الواقع والعلم والإخلاص والوطنية، ومن إيماننا الذي لا يتزعزع بخطر الصهيونية على اليهود وعلى الحركات التحررية الوطنية في جميع البلاد العربية التي على تحقيق استقلالها التام والناجز يتوقف القضاء الكامل على التفرقة بين الطوائف في البلاد العربية.
ولما كانت قضية فلسطين هي قضية البلاد العربية بأسرها، فلا يمكن إذن أن نقف إلا
بجانب عرب فلسطين. ويؤيدنا في نظرتنا الواقعية العلمية هذه (وهي التعاون بين العرب واليهود
في حزب وطني واسع شعبي، ظهر في نفس فلسطين، يعادي الصهيونية عداء صميماً، ويدعو إلى
التعاون بين العرب وبين جماهير اليهود لحل قضية فلسطين على أساس منع الهجرة اليهودية
وإيقاف انتقال الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة وتأليف دولة ديمقراطية عربية مستقلة
استقلالا تاماً، تضمن فيها حقوق المواطنين كافة عرباً ويهوداً).
يا معالي الوزير
مما سبق يتبين بجلاء بأن السماح بتأليف عصبتنا هذه ضرورة وطنية مستعجلة وواجب
وطني مقدس، ولذلك فكلنا أمل بأنكم ستلبون طلبنا وتمنحوننا رخصة تأليف عصبتنا هذه.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
سليم منشي، نسيم حسقيل يهودا، مسرور صالح قطان، ابراهيم ناجي، يعقوب مصري، مير يعقوب كوهين، يعقوب اسحاق، موشى يعقوب.
منهاج عصبة مكافحة الصهيونية
المادة الأولى: تسمى عصبتنا عصبة مكافحة الصهيونية ومركزها العام بغداد، ولها أن
تؤسس فروعاً ونوادي في جميع أنحاء العراق، على أن تستحصل موافقة وزارة الداخلية على ذلك.
المادة الثانية: أهداف العصبة، مكافحة الصهيونية وفضح أعمالها ونواياها بين جماهير
الشعب العراقي لا سيما بين اليهود. وتلك قضية حيوية لها خطورتها في حياتنا الوطنية. ولذلك
تستهدف العصبة القضاء على نفوذ الصهيونية ودعايتها بالوسائل التالية:
أولا – الطرق المباشرة:
أ – إصدار صحيفة تكون لسان حال العصبة، وإصدار النشرات والكراريس والكتب العلمية
لغرض تحقيق أهدافها.
ب – إقامة الاجتماعات والحفلات الخطابية وإلقاء المحاضرات وعرض الرقوق
السينمائية.
ج – التعاون مع المؤسسات التي تتفق وأهدافها في العراق وفي البلدان العربية الشقيقة.
د – الاشتراك في المؤتمرات العالمية المعادية للصهيونية وإصدار النشرات باللغات
الأجنبية لفضح الصهيونية وشرح قضية فلسطين العادلة.
ه – فضح عملاء الصهيونية أمام جماهير اليهود.
و – محاربة النفوذ الاقتصادي الصهيوني الذي يحاول السيطرة على البلاد العربية
اقتصادياً والقضاء على الصناعات الوطنية الناشئة فيها.
ثانياً – الطرق غير المباشرة:
ولما كانت الصهيونية تستغل شعور المظلوم لدى جماهير اليهود، فلا بد لمكافحة
الصهيونية من مكافحة الأسباب التي تؤدي إلى قيام هذا الشعور. ولذلك تسعى العصبة بالتعاون مع الوطنيين الآخرين:
أ – للقضاء على النعرات الطائفية التي تمزق وحدة الشعب العراقي
ب – خلق جو من الود والتفاهم بين مواطني الشعب العراقي كافة وذلك ببث الروح
الديمقراطية بين سائر أفراد الشعب العراقي.
ج – معالجة مشاكل اليهود الاجتماعية التي تخلق التذمر والاستياء وتفسيرها تفسيراً
علمياً صحيحاً، وفضح أولئك الذين يريدون استغلالها لبث الدعاية الصهيونية، كمشكلة
البطالة بين الشباب ومشكلة الدوطة في الزواج وغيرها.
نشرت في مجلة قضايا سياسية Political Issues (مجلة فصلية محكمة) الصادرة عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، كلية العلوم السياسية ، جامعة النهرين (العراق)، العدد 69، نيسان / أبريل – أيار / مايو – حزيران / يونيو 2022.
[1] أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – له أكثر من 70 كتاباً ومؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني. وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.
[2] أنظر: عباس شبلاق، “هجرة أو تهجير – ظروف وملابسات هجرة يهود العراق” وهو أطروحة دكتوراه دافع عنها في لندن العام 1986 وأصدرها في كتاب نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، بيروت، 2015.
[3] أنظر: عبد اللطيف الراوي، “عصبة مكافحة الصهيونية في العراق: دراسة ووثائق اليسار العراقي والمسألة الفلسطينية“، دار الجليل، دمشق، 1986.
[4] تعرّفت على يعقوب مير مصري (عادل – أبو سرود) في براغ في العام 1974، وكان قد وصلها من يريفان التي أمضى فيها عدّة سنوات بعد أن كان قد هرب من العراق العام 1967، حيث ظلّ مختفياً فيه من العام 1963 إثر انقلاب 8 شباط / فبراير حتى العام 1967 وكان قد قضى قبل ذلك 10 سنوات في السجن 1948 – 1958 خلال فترة العهد الملكي. وقد عمل في براغ في الإذاعة التشيكية القسم العربي، وخلال فترة وجودي لدراسة الدكتوراه (1974 – 1977) استمعت إليه وهو يسرد تفاصيل تشكيل عصبة مكافحة الصهيونية أكثر من مرّة، وأجريت معه أكثر من حوار ولقاء بشأن العصبة ومشاعر جمهور اليهود بشكل عام المناوئة للصهيونية والمتمسّكة بالوطنية العراقية والتي حاولت الدعاية الصهيونية التأثير عليها بوسائل تضليلية متعدّدة لدفعها إلى الهجرة.
قارن: حوارات متقطّعة ومتّصلة مع عادل مير مصري (يعقوب) – سكرتير عصبة مكافحة الصهيونية، (يعقوب الذي استبدل اسمه إلى عادل بعد أن أشهر إسلامه العام 1958). وتلك قصة أخرى تستحق التوقف عندها، إذ جاء ذلك (القرار– الإضطرار) بناءً على طلب من قيادة الحزب الشيوعي، لكي يتم الإفراج عن اليهود الشيوعيين وإخلاء سبيلهم وشمولهم بالعفو بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، وقد تناولت هذا الموضوع أكثر من مرّة واستعدت حواراً مع يعقوب قوجمان بشأن ما حصل مع شقيقه حسقيل قوجمان الذي كان اليهودي الوحيد من بين السجناء اليهود الذي رفض تغيير دينه ولاقى ما لاقى من عنت وعزل وتهميش بسبب ذلك، علماً بأن حواره مع هادي هاشم الأعظمي (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي حينها) كان ينصبّ على أن لا علاقة له بالدين والإيمان الديني، ولا باليهودية ولا بالإسلام، فلماذا يغيّر ديناً بدين، وهو الذي يضع مسافة واحدة بين الأديان، وللقصة ذيول وملابسات أخرى سبق أن تعرّضت لها في أكثر من مناسبة .
قارن: أحاديث متفرّقة مع عادل مصري (أبو سرود) بين العام 1974 – 1977
قارن: حديث خاص مع يعقوب قوجمان، لندن، 1992 و 1994.
[5] عميدة مير مصري (عمّومة التي استبدلت اسمها من عمّومة إلى عميدة) وهي الأخرى ناضلت في صفوف الحزب الشيوعي وسجنت مثل شقيقها عادل (يعقوب) لعشر سنوات بسبب كفاحها ضدّ الصهيونية كجزء من نضالهما الوطني، وكنت قد رويت حكاية عميدة التي ألقي القبض عليها في العام 1963، وعذّبت في “قصر النهاية” وخلال التحقيق اكتشف المحققون أن أصلها يهودية فأرادوا تهجيرها إلى “إسرائيل” عنوة، وبالفعل فقد استخرج لها جواز سفر – مرور Laissez–passerوطارت من بغداد إلى بيروت ومنها إلى روما، لكي تأخذ طائرة العال “الإسرائيلية” وتتوجّه إلى تل أبيب، لكنّها رفضت ذلك ومكثت في مطار روما لأكثر من يومين وفيما بعد خيّرتها سلطات المطار بالسفر إلى أي بلد آخر فاختارت براغ (جمهورية تشيكوسلوفاكيا) باعتبارها مقرّاً للحركة الشيوعية العالمية حينها وفيها العديد من المنظمات الدولية المحسوبة على ملاك الحركة الشيوعية (إتحاد الطلاب العالمي، اتحاد نقابات العمّال العالمي ومجلة “الوقت” قضايا السلم والإشتراكية) لكن السلطات التشيكية لم تسمح لها بالدخول لعدم وجود فيزا لديها، واضطرت إلى المبيت في مطار براغ ليومين أو ثلاثة ، ثم أعيدت إلى روما التي اضطرت للبقاء في مطارها لثلاثة أيام ومنها عادت إلى بيروت التي بقيت في مطارها ليومين ومنه أعيدت إلى بغداد ومن مطار بغداد إلى قصر النهاية مرّة أخرى، ويومها فوجئ المعتقلات والمعتقلون بعودتها، حيث لم يكونوا يعرفون أين ذهبت وأين كانت؟، وحين أخبرتهم بحكايتها، ظنوا أن مسّاً من الجنون أصابها، فكيف لمعتقلة “في سجن الموت والعذاب” كما يسمّى (قصر النهاية) تصل إلى بيروت وروما وبراغ وتعود القهقري إلى بغداد وقصر النهاية.
أنظر بالتفصيل: عبد الحسين شعبان ” المثقّف في وعيه الشقي: حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان” ، دار بيسان، بيروت،2014، ص (187 – 188).
قارن: حديث مع عميدة مصري في براغ 1971 وموسكو 1974 ودمشق 1981.
[6] أنظر: كلمة الياس نصر الله في تأبين يعقوب قوجمان، لندن، 19 كانون الأول / ديسمبر 2015 .
قارن: كذلك: حديث خاص مع يعقوب قوجمان، لندن، 2000.
[7] أنظر: عبد الحسين شعبان، “مذكرات صهيوني“، دار الصمود العربي، دمشق، 1986.
[8] أنظر: عبد الحسين شعبان – “جورج حبش: الاستثناء في التفاصيل أيضاً“، جريدة السفير، 1 شباط/ فبراير 2008.
[9] أنظر بالتفصيل: محمود عباس (أبو مازن) – الوجه الآخر: العلاقات السرية بين النازية والصهيونية، دار إبن رشد، عمان، ط: 1، شباط / فبراير 1984. المقدمة أ – ح و ص: 2 (الفصل الأول)
يذكر الرئيس محمود عباس أبو مازن أن بداية الإتصالات السرية بين قيادة الحركة الصهيونية وألمانيا النازية بدأت حين أصبح هتلر مستشاراً للرايخ الألماني الثالث في كانون الثاني / يناير 1933 وأصبحت السياسة العرقية العنصرية سياسة رسمية للدولة، وهو ما تم الكشف عنه العام 1966 في لقاء نظّمته جريدة معاريف “الإسرائيلية”، وشارك فيه أليعازار ليفنا الذي كان يشغل منصب رئيس تحرير المجلة الناطقة باسم الهاغانا إبان الحرب العالمية الثانية، حيث التقت مقاصد النازية في التخلص من اليهود ورغبة الحركة الصهيونية في هجرتهم إلى فلسطين، وكانت الضحية هي الغالبية العظمى من اليهود لحساب أقلية صغيرة وعرف الإتفاق الصهيوني النازي هعفارا (النقل).
[10] أنظر: مذكرات صهيوني، مصدر سابق، مقدمة الطبعة الثانية ( قيد الطبع)، التي تكشف بعض الألغاز عن التحرك الصهيوني في الدول الإشتراكية السابقة ومنها تشيكوسلوفاكيا.
[11] حين أنشئت “إسرائيل” هتف بن غوريون قائلاً: “حدثت المعجزة المزدوجة” ويقصد بها (إحتلال الأرض وطرد السكان العرب)، ولذلك فإن عملية الهجرة هي بمثابة إنعاش للمشروع الصهيوني، وسبق لي أن كتبت منتقداً الموقف السوفيتي بدعوته إلى “إعادة النظر بموقفه الخاطئ من الهجرة وعدم السماح بتحويلها لصالح المشروع الصهيوني الذي بفتقد إلى العنصر البشري، والذي طالما ظلّت تعاني منه “إسرائيل”…
انظر: يوسف علي (ع. الحسين شعبان) “هجرة اليهود السوفييت والمشروع الصهيوني الجديد”، جريدة المنبر (الشيوعي)، العدد 9، السنة 4، تشرين الثاني / نوفمبر 1990.
[12] قارن: القرار 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، والمعروف بقرار التقسيم، والقرار 194 بشأن حق العودة للّاجئين ووضع القدس في نظام دولي دائم الصادر في 11 كانون الأول / ديسمبر 1948.
والقرار 478 بشأن لا قانونية وعدم شرعية ضم القدس التي اعتبرها مجلس الأمن الدولي باطلاً ولاغياً وفقاً للشرعية الدولية 20 آب / أغسطس 1980، والقرار 497 الصادر في 17 كانون الأول / ديسمبر 1981 بشأن ضم الجولان، الذي اعتبر “قرار إسرائيل” بفرض قوانينها وولايتها وإدارتها على الجولان السوري المحتل لاغٍ وباطل.
[13] يعتبر ثيودور هيرتزل عرّاب الحركة الصهيونية، وهو مؤلف كتاب “دولة اليهود” The Jewish State الذي صدر العام 1896 عشية مؤتمر بال (سويسرا) الصهيوني العام 1897 الذي تبنّى فكرة إقامة وطن يهودي في فلسطين، والتي كانت تمهيداً لإصدار وعد بلفور العام 1917 من جانب بريطانيا بعد توقيع اتفاقية سايكس – بيكو السريّة بين بريطانيا وفرنسا العام 1916 والتحضير لذلك بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني العام 1920 في مؤتمر سان ريمو والذي أقرته عصبة الأمم العام 1922 .
[14] أنظر: عبد الحسين شعبان – مقاربة لرؤية جديدة للموقف السوفيتي من قرار التقسيم: إشكالية الأيديولوجيا والسياسة، ندوة مركز الدراسات الفلسطينية، دمشق 7- 9 كانون الأول / ديسمبر 1987 بمناسبة الذكرى السبعين لصدور وعد بلفور ومرور 40 عاماً على قرار تقسيم فلسطين، وقد نشر البحث كاملاً في جريدة الحقيقة (اللبنانية).
[15] أنظر: الرسالة الموجهة إلى وزير الداخلية (العراقي) بهدف الحصول على الترخيص بالعمل القانوني العلني لعصبة مكافحة الصهيونية في 12 أيلول / سبتمبر 1945. وجاء في المذكّرة الموجّهة إلى وزير الداخلية: “ونحن إذ نتصدّى لمكافحة الصهيونية علانية وعلى رؤوس الأشهاد، ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت“.
[16] النداء الموجه إلى جوزيف ستالين (الزعيم السوفيتي) يوم 29 آيار / مايو 1946. وقع النداء: يوسف هارون زلخا رئيس العصبة وكان في الوقت نفسه عضو الهيئة المؤسسة لحزب التحرّر الوطني الواجهة للحزب الشيوعي العراقي.
[17] وقّع المذكرة ثمان شخصيات شيوعية يهودية عراقية، وهم كل من: سليم منشّي، نسيم حسقيل يهودا، ومسرور صالح قطان، وابراهيم ناجي، ويعقوب مير مصري، ومير يعقوب كوهين، ويعقوب اسحاق وموشي يعقوب.
[18] أنظر: عبد الحسين شعبان، “أغصان الكرمة : المسيحيون العرب”، مركز حمورابي، بغداد/ بيروت، 2015.
[19] أنظر: عبد الحسين شعبان – سعد صالح: “ الوسطية والفرصة الضائعة”، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009 ، و ط2 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد، 2010 . وخلال فترة لا تزيد عن 97 يوماً وهي فترة الوزارة قبل استقالتها، أجازت 5 أحزاب سياسية بينها حزبيين ماركسيين (هما حزب الشعب بقيادة عزيز شريف وحزب الإتحاد الوطني بقيادة عبد الفتّاح ابراهيم) وحزب قومي عربي (بزعامة محمد مهدي كبّة) وحزب وطني ديمقراطي ( بزعامة كامل الجادرجي) وحزب وطني عام أصبح رئيسه سعد صالح بعد استقالة الوزارة (حزب الأحرار) الذي كان قد بادر إلى إلغاء الإدارة العرفية وإغلاق المعتقلات ورفع الرقابة عن الصحافة.
[20] ولد يهودا ابراهيم صديق في محلة البتاوين ببغداد العام 1920 وانتسب إلى الحزب الشيوعي العام 1941 بعد حركة رشيد عالي الكيلاني حين كان يدرس في دار المعلمين العالية وعمل في مجال التعليم الذي فصل منه العام 1946. وقد انعقد الكونفرنس الأول في منزله بمنطقة الكرخ في بغداد العام 1944 والذي حضره 25 كادراً ، وقد انتدبه الحزب للإشراف على العصبة وتنظيم صلة الحزب بها من خلال زكي بسيم عضو المكتب السياسي. بعد اعتقال قيادة الحزب أوكلت مهمة إدارته له وقبيل اعتقاله إلى مالك سيف الذي تعاون لاحقاً مع الأجهزة الأمنية وظلّ لديها حتى أواخر السبعينيات متخصّصاً في كشف تنظيمات الحزب الشيوعي والرد على سياسته. أعدم يهودا صدّيق العام 1949، كما أعدم بعده ساسون دلال الذي تولّى إدارة الحزب بعد اعتقالهما.
[21] أنظر: فهد (يوسف سلمان يوسف) – نحن نكافح من أجل من؟ وضدّ من نكافح؟ مؤلفات الرفيق فهد، بغداد، 1973. يقول فهد “إن مكافحة الصهيونية توجب مكافحة الإستعمار حتماً في فلسطين وكلّ البلاد العربية، ومن يزعم مناهضتها ولا يناهض الإستعمار يخدمها، أي الصهيونية في الواقع أراد أم لم يرد… ”
[22] بيان العصبة في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1945.
[23] جدير بالذكر إلى أن حنا بطاطو أورد بتوثيق دقيق التظاهرة التي شارك فيها يساريون وماركسيون ووطنيون ضدّ زيارة الداعية الصهيوني الفريد موند إلى بغداد في 8 شباط / فبراير 1928 تضامناً مع الشعب العربي الفلسطيني.
أنظر: حنا بطاطو – العراق: “الطبقات الإجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق” ، ترجمة سعد الحسني، 3 أجزاء، دار بابل ، بغداد، ط 3، 2018.
[24] قامت وزارة أرشد العمري التي تشكّلت إثر استقالة وزارة توفيق السويدي بحظر العصبة وإغلاق صحيفتها.
[25] انظر: قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود رقم (1) لسنة 1950، وقد وضعت هذه اللّائحة القانونية في 2 آذار / مارس 1950 من قبل مجلس النواب، وشرعها مجلس الأعيان في 4 آذار / مارس من ذات الشهر وذات السنة أي بعد يومين فقط. وجاء في الأسباب الموجبة ” لوحظ أن بعض اليهود العراقيين اخذوا يتذرّعون بكلّ الوسائل غير المشروعة، لترك العراق نهائياً كما وأن البعض الآخر سبق أن غادر العراق بصورة غير مشروعة، من حيث أن وجود رعايا من هذا القبيل مرغمين على البقاء في البلاد، ومكرهين على الاحتفاظ بالجنسية العراقية مما يؤدي حتماً إلى نتائج لها تأثير على الأمن العام، وإلى خلق مشاكل اجتماعية واقتصادية، فقد وجد أن لا مندوحة من عدم الحيلولة دون رغبة هؤلاء من مغادرة العراق نهائياً وإسقاط الجنسية العراقية عنهم. وقد سنت هذه اللائحة لتأمين هذه الغاية”.
[26] أنظر: Orit Bashkin – Impossible Exodus: Iraqi Jews in Israel, Stanford University Press, 2017
[27] أنظر: May, Chelsie Simone. “Jewish Women in the Iraqi Communist Party.” Shalvi/Hyman Encyclopedia of Jewish Women. 23 June 2021
[28] أنظر: المصدر السابق
[29] أنظر: منير شفيق – “من جمر إلى جمر”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2021.
[30] أنظر: حنّا بطاطو، الكتاب الثاني – الحزب الشيوعي، مصدر سابق، ص 356 – 357.
[31] أنظر: سمير عبد الكريم – “أضواء على الحركة الشيوعية في العراق، 5 أجزاء، دار المرصاد، بيروت، 1979. جدير بالذكر الإشارة إلى أن إسم الكاتب هو إسم وهمي، وحسب المعلومات المتوفّرة الكتاب أنجز في دائرة المخابرات العراقية في ظلّ النظام السابق وقامت هي بنشره وتوزيعه على نطاق واسع عبر دار نشر وهمية أيضاً.
[32] في حديث خاص مع عامر عبد الله (1981) قال لي أنه وسلام عادل اتفقا على التمهيد لتصحيح موقف الحزب، وكان لهما ما أرادا دون ضجة تذكر، وهو ما ورد في وثائق الكونفرنس الثاني (1956).
[33] أنظر: عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)، “من أعماق السجون“، إعداد محمد علي الشبيبي، مطبعة النبراس النجف / العراق، طبعة جديدة 2012.
[34] كان رودني أخطر من كشفت عنه المحاكمات حول فضيحة الأسلحة التي اكتشفت مدفونة في بعض أماكن بغداد وثبت أنه جاسوس صهيوني وأنه كان يجمع المعلومات والحقائق عن العراق، وكان ينوي الاتصال بشخصيات عراقية كبيرة لإقناعها بعقد الصلح مع حكومة “إسرائيل” الصهيونية، وكان قد خدم في الجيش البريطاني وهو معروف بقسوته ووحشيته في تعذيب المناضلين. ولعلّ هذا الدور ظلّ قائماً منذ ذلك الحين ولحد الآن، بل ازداد كثافة وسفوراً بعد احتلال العراق العام 2003، حيث يتم الإتصال بجهات وشخصيات عراقية لدعمها مقابل تبنّيها فكرة إقامة علاقات مع “إسرائيل” تمهيداً للإعتراف بها.
[35] أنظر: قانون استرداد الجنسية عن اليهود رقم (1) العام 1950، مصدر سابق.
[36] أنظر: كلمة الياس نصر الله في تأبين يعقوب قوجمان في أربعينيته، مصدر سابق. وللأسف فإن التاريخ يعيد نفسه وإن كان في المرة الأولى كمأساة ففي المرة الثانية كملهاة وهو ما تكرّر بخصوص المسيحيين في العراق وسوريا، لاسيّما بعد موجات الإرهاب والعنف على يد الجماعات التكفيرية الإسلاموية مثل تنظيمات القاعدة وداعش وجبهة النصرة (جبهة فتح الشام) وأخواتهم ، إضافةً إلى لبنان وغيرها من البلاد العربية، فضلاً عن التهجير القسري المنظّم للمسيحيين من فلسطين، ويكفي أن نشير إلى أن عدد المسيحيين في القدس وحدها قبل قيام “إسرائيل” كان يتجاوز على 50 ألف مسيحي ، في حين أن عددهم اليوم هو أقل من 5000 .
أنظر: عبد الحسين شعبان – أغصان الكرمة: المسيحيون العرب، مصدر سابق.
[37] أنظر: الكسي فاسيليف – “من لينين إلى بوتين: روسيا في الشرق الأوسط والأدنى”، ترجمة د. محمد نصر الدين الجبالي، دار أنباء روسيا، ط 1، القاهرة، 2018، ص: 375.
[38] خلال زيارتي الأخيرة إلى موسكو العام 2018 بدعوة من مفتي مسلمي روسيا راوي عين الدين الذين يبلغ عددهم 20 مليون نسمة لإلقاء محاضرة حول “الإرهاب الدولي”، نشرت أربع مقالات هي الآتية: “روسيا المسلمة ” و”روسيا العربية” و”روسيا اليهودية” و”هل روسيا دولة عظمى؟” ، وقد نشرت جميعها في جريدة الخليج (الإماراتية) على التوالي 26 سبتمبر / أيلول و 7 أكتوبر / تشرين الأول و 31 أكتوبر / تشرين الأول و 7 نوفمبر تشرين الثاني 2018.
[39] في العام 1927 تمّ تضمين مادة في قانون العقوبات السوفيتي تعاقب بالسجن لسنتين كل من يدان كونه يروّج لإثارة النعرات القومية والدينية.
[40] أنظر: فلاديمير إيليتش لينين – المختارات، 10 أجزاء، دار التقدم، موسكو، 1979 – 1985 .
أنظر كذلك: عبد الحسين شعبان – القضايا الجديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي، دار الكتبي، بيروت، 1987، ص: 183.
[41] كان الزوج الأول ﻟ سفيتلانا (إبنة ستالين) هو غريغوري موروزوف يهوديًا وزوجة إبنه ياكوف يهودية وزوجة شقيق زوجته يهودية. وزوجة مولوتوف يهودية وهي صديقة غولدا مائير وغيرهم.
أنظر: أليكسي فاسيليف – “من لينين إلى بوتين”، مصدر سابق، ص: 380 -381.
[42] أنظر: أليكسي فاسيليف، مصدر سابق، ص: 392.
[43] التقى ستالين وروزفلت وتشرشل في يالطا (4 – 11 شباط / فبراير 1945) واتفق الثلاث على تقسيم ألمانيا ومحاكمة أعضاء الحزب النازي (كمجرمي حرب) وكذلك تم الإتفاق على تقسيم برلين، علمًا بأن المؤتمر كان صفقة سياسية بين المنتصرين في الحرب وتثبيت قواعد السلم، خصوصًا بتأسيس الأمم المتحدة ونظام الأمن الجماعي.
وكان المؤتمر هو المؤتمر الثاني بين ثلاث مؤتمرات أساسية انعقدت وقت الحرب أولها – مؤتمر طهران (نوفمبر / تشرين الثاني 1943)، ثم مؤتمر يالطا المشار إليه، وآخرها مؤتمر بوتسدام (يوليو / تموز 1945).
[44] أنظر: أليكسي فاسيليف، المصدر السابق، ص: 384.
[45] نقلًا عن جريدة البرافدا 30 نوفمبر / تشرين الثاني 1947. يلاحظ أنه منح نفسه حق التعبير عن مصالح الشعبين.
[46] أنظر: أهرون كوهين – “إسرائيل” والعالم العربي، ترجمة خاصة، القاهرة، ج 2، 1970، ص: 674 وما بعدها. جدير بالذكر الإشارة إلى أن هذا الإنقلاب في الموقف هو ناجم عن عدّة أسباب، فإضافة إلى ما ذكرنا هناك وهم خاطئ جرى ترويجه هو أن “إسرائيل” ستنتقل إلى طريق الديمقراطية مقابل حكومات عربية غير مستقلة يتحكم فيها عملاء الإستعمار، فضلاً عن الدعاية الصهيونية الصاخبة حول المجازر التي تعرّض لها اليهود في أوروبا، ناهيك عن الوهم من إمكانية تحوّلهم إلى أمة أو أنهم أمة في طور التكوين وبالتالي تطبيق حق تقرير المصير لهم.
قارن: ناجي علوش – الماركسية والمسألة اليهودية، دار الطليعة، بيروت، ط: 3، 1980، ص: 47 – 48.
[47] أنظر: عبد الحسين شعبان (يوسف علي) – “هجرة اليهود السوفييت: والمشروع الصهيوني الجديد”، جريدة المنبر (الشيوعي)، العدد التاسع، تشرين الثاني / نوفمبر 1990. جدير بالذكر أن علاقات “إسرائيل” تقلّصت دولياً للفترة ما بعد عدوانها العام 1967 وحرب أكتوبر العام 1973، حيث بادرت دول أوروبا الشرقية والإتحاد السوفيتي إلى قطع العلاقات معها باستثناء رومانيا، وكذلك قطعت العلاقات معها نحو 30 دولة إفريقية ودول أخرى، لكن ذلك الأمر لم يستمر واستعادت “إسرائيل” علاقاتها لاحقاً، بل حصلت على امتيازات باعتبارها “الدولة الأكثر رعاية”، وذلك بسبب تصدّع الوضع العربي والتنازلات التي تم تقديمها في كامب دايفد 1978 بعد زيارة الرئيس السادات القدس العام 1977 ومن ثم توقيع اتفاقية الصلح المنفرد المصرية – “الإسرائيلية” تمهيداً لاتفاقية أوسلو العام 1993، يضاف إلى ذلك تفكّك الكتلة الإشتراكية في أواخر الثمانينيات، وكانت هذه صديقة للعرب.
[48] أنظر: محاضر جلسات الأمم المتحدة (الجلسة الإستثنائية الأولى) المجلّد الثاني، ص: 108.
[49] قال المندوب البولندي “إن الطلب العربي حين يستهدف إنهاء الإنتداب البريطاني وإعلان إستقلال فلسطين، إنما يتجاهل تجاهلًا كلّيًا حاجتنا الملحّة لمعرفة رأي من هم أبرز وأهم طرف في المأساة الفلسطينية، وهم اليهود الذي حدّد الإنتداب لهم مزايا خاصة، ولذلك إننا لا نقبل طلب العرب ونلحّ على اللجنة إلحاحًا شديدًا بأن تقوم بأسرع وقت ممكن بالسماح لممثّل اليهود بالمثول أمام هذه الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويلاحظ أنه جوزيف ويليوتز وغروميكو يشدّدان على ضرورة سماع رأي الهيئات اليهودية، وبسبب عدم وجودها وقد تطوّعا ليعبّرا عمّا تريد، ويزيد عليها موقف دولتيهما.
أنظر: المصدر السابق، المجلّد الثاني، ص: 16.
[50] بناي بريث – B’NAI B’RITH International تعرّف عن نفسها بأنها أقدم منظمة خدمات يهودية في العالم. تقول بناي بريث أنها ملتزمة بأمن واستمرارية الشعب اليهودي ودولة إسرائيل ومكافحة معاداة السامية، تأسست في 13 أكتوبر / تشرين الأول 1843 في نيويورك، ولها مقر أمريكي حالياً في واشنطن وآخر أوروبي في بروكسل.
[51] أنظر: أليكسي فاسيليف – من لينين إلى بوتين، مصدر سابق، ص: 444.
[52] اتخذت منظمة اليونيسكو قراراً في مدينة كراكوف (البولونية) بوضع مدينة الخليل (الفلسطينية) والتي ما تزال تحت الاحتلال “الإسرائيلي” على لائحة التراث الإنساني العالمي، وذلك في 7 تموز / يوليو 2017، ويشمل ملف التسجيل البلدة القديمة والحرم الابراهيمي العتيق ، حيث دفن فيه الأنبياء ابراهيم واسحاق ويعقوب، وهذا القرار هو امتداد لقرارات سابقة، فقد اتخذت اليونيسكو قراراً باعتبار الأماكن المقدّسة في القدس من تراث العرب والمسلمين (18 تشرين الأول / أكتوبر 2016). وكانت اليونيسكو قد أعلنت عدم أحقية “إسرائيل” في الأماكن التاريخية في القدس (13 تشرين الأول / أكتوبر 2016) ويشمل الأمر المسجد الأقصى والحرم المقدسي وحائط البراق. وكان مجلس الأمن الدولي قد اتخذ قراراً في 23 كانون الأول / ديسمبر 2016 رقم 2334 بخصوص وقف الإستيطان “الإسرائيلي” في الأراضي العربية المحتلّة واعتبره جريمة دولية.
أنظر: منتدى الفكر العربي، سلسلة الحوارات العربية، وسلسلة “القدس في الضمير”، عمان، شباط / فبراير 2019.
[53] أنظر: أيوب، سمير، “وثائق أساسية في الصراع العربي الصهيوني، الجزء الثالث، مرحلة سطوة الوعي بالخطر”، ط 1
(بيروت: دار الحداثة، 1984)، ص 333 – 337 (عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت)