الإنتليجنسيا المغاربية في مواجهة التمزّق
ما يحدث في البدان المغاربية يدعو إلى تفكير حقيقي من النخب المغاربية أو الإنتليجنسيا Intelligentsia لتجاوز المعضلات التي تتراكم وتعمق الشقاقات التي لا تفيد أحداً. الخلاف المغربي الجزائري يجب أن يجد حله في أقرب الآجال، إذ لا شيء يمنع الحوار والتواصل مع وضع مصلحة البلدين والتكامل الاقتصادي في المقدمة، بعيداً عن التشفّي الذي يدل دلالة واضحة على الخيارات السهلة وغياب أي مشروع مغاربي. تونس تحتاج إلى تضامن مغاربي حقيقي يأخذ بعين الاعتبار احترام خياراتها، وليبيا تحتاج إلى سحب البساط من الدول العظمى، رهينة المصالح، ووضع ليبيا داخل منظور الاندماج الاقتصادي المغاربي، وأعتقد أن الأطراف الليبية المتصارعة قد تجد ضالتها في هذه الحلول المغاربية، وكذا مساعدة موريتانيا على تسويق منتجاتها في الأسواق المغاربية الواسعة. لهذا العمل المغاربي على التقريب بين وجهات النظر المغربية-الجزائرية أكثر من ضرورة تاريخية واقتصادية واستراتيجية.
من هنا يصبح طرح فكرة دور النخب المغاربية أكثر من حاجة عاجلة في ظل ما أفرزه التاريخ من إمكانات تستحق أن يتم تأملها من جديد، ربما أعطتنا درساً حقيقياً لحل مشكلات الزمن الذي نعيشه. هناك جهود ورؤى بُلوِرت عبر التاريخ المعاصر والحي، يمكنها أن تفيد كثيراً في تلحيم هذه النخبة المغاربية وإعادة توحيدها حتى خارج أطروحات الأنظمة. التاريخ يمنحنا فرصاً كبيرة لإعادة قراءة هذه الجهود التي أهملت في التحليلات الحديثة، مع أنها هي من شكل تجربة مغاربية نموذجية انصهرت فيها كل الجهود والممارسات السياسية التي قادت البلدان المغاربية نحو الاستقلالات الوطنية، وكان يُفترض أن يكون لها الدور الفعال بعد هذه الاستقلالات نحو الوحدة المغاربية أو على الأقل التفكير في أشكالها. وهو ما لم يحدث، إذ ظهرت إلى السطح الكثير من الخلافات المطمورة.
ندرك اليوم، بحرقة، الوقت الذي ضاع في النقاشات الوطنية الضيقة غير المفيدة. في فترة الثورات الوطنية ضد الاستعمار، كانت الرهانات المغاربية ركناً أساسياً في خطابات النخبة، بل حتى في مواثيق أحزابها. نجم شمال إفريقيا مثلاً الذي تأسس في 1921 كان مدرسة جمعت الفعاليات المغاربية المغترية. حاول هذا الحزب أن يجند حول مشروعه التحرري كل الجهور المغاربي، لخلق قوة مواجهة للدولة الاستعمارية. لقد حاول مصالي الحاج في 1927 أن يجعل من هذه الحركة الوطنية سلاحاً سياسياً مغاربياً. هذه الحركة دفعت بشخصية مهمة مثل المحامي الشيوعي روبرت جون لونغي Robert-Jean Longuet الذي دافع باستماتة عن العمال المغاربة، إلى إنشاء، في 1932، المجلة المغاربية la revue Maghreb ودافع مع الجمعية الحقوقية الدولية عن مناضلي نجم شمال إفريقيا. كل الوثائق التاريخية اليوم تبين الدور الحاسم الذي لعبه المثقف المغاربي بانخراطه في الجهد الموحد دفاعاً عن الحق في التعبير والتنظيم والاستقلال. ظلت المغاربية هاجساً نضالياً وليس مجرد يوتوبيا، وهذا ناتج عن إدراك مسبق أن الفاعلية لا تتأتى إلا من القوة المنظمة. محاربة آلة استعمارية منظمة عسكرياً ودعائياً، كانت تحتاج إلى جهد ثقافي أوسع من الأنتليجنسيا يتجاوز القطرية الضيقة. تطور هذا الهاجس بشكل متدرج قبل أن يكتمل. فقد بدت الرهانات المغاربية واضحة في أطروحات لجنة تحرير المغرب الكبير التي تم تأسيسها في سنة 1927 في القاهرة وكان هدفها، مثل نجم شمال إفريقيا، تحرير البلدان المغاربية من نير الاستعمار والدفع بها نحو تحقيق مسار يجمعها ويحولها إلى قوة جهوية. لم تكن ندوة الحركات الوطنية في إفريقيا الشمالية أقل قيمة، بل كانت النواة الجادة قبل أن تُجسّد أطروحاتها في 1958 في مؤتمر طنجة الذي تحول إلى مساحة واسعة جمعت بين قادة مناضلي الحركات الوطنية لكل من المغرب والجزائر وتونس. كان الهدف الأسمى هو خلق نواة فكرية بإمكانها أن تفكر في المشروع المغاربي التحرري قبل أن يتجسد ذلك بعد الاستقلالات الوطنية على الأقل من حيث الهياكل، عندما تم الإعلان في 17 فبراير في سنة 1989 الذي وقعه الخمسة رؤساء وملوك المغرب العربي، ويتعلق بالاتفاقية التأسيسية لاتحاد المغرب العربي التي سبق التحضير لها في اجتماع 10 جوان 1988 بزرالدة.
هناك مسار واضح كانت فيه الإرادات المغاربية السياسية والثقافية حقيقية على الرغم من الخلافات التي كانت تعطل، ولكنها لم توقف حركية العجلة والرغبة في الاتجاه دوماً نحو ما يجمع وليس نحو ما يفرق. وقد لعب المثقفون المخضرمون في ذلك الوقت أدواراً مهمة في صياغات المواثيق والتحضير بقوة للمشروع المغاربي الذي استجاب له الجميع. الدولة كيفما كانت توجهاتها، حتى في سلطانها المتفرد، والقمعي أحياناً، تستجيب عندما تجد نفسها وجهاً لوجه أمام قوة ثقافية فعالة وأنتليجنسيا تعرف جيداً رهاناتها ومسؤولياتها التاريخية.
يبدو واضحاً أن هذه الفعالية Cette dynamiqueالتي أفرزتها الثورات لم تستمر وتوقفت، أو على الأقل تعطلت لأسباب سياسية واضحة لم تساعد على التطور؛ إذ ساد مناخ من الريبة والشك بين إخوة الأمس الذين جمعهم المصير الواحد. الخلاف الجزائري المغربي جمد كل الجهود المغاربية المستقبلية. وعدم وضوح الرؤية الليبية لم يسهل مهمة التواصل، ونداءات القذافي بتقسيمات جديدة في البلدان المغاربية، ومنها تأسيس دولة طوارقية وتمويله للحركات الممزقة للنسيج التاريخي في المنطقة، لم تسعف تنامي فكرة المغاربية في مناخ صحي. غرق الجزائر على مدار عشر سنوات في حرب أهلية مدمرة ضد إرهاب التطرف الديني دمر جزءاً مهماً من البنى التحتية، في غياب كلي لأي تضامن مغاربي في الظرفيات الصعبة، تماماً كما حدث ويحدث مع جامعة الدول العربية التي لا تحرك ساكناً. يضاف إلى ذلك كله انتشار خطاب ديني مغاربي متطرف يتبنى إسلاماً منغلقاً ومتطرفاً- AQMI تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، والذي نادى بتشكيل قوة مغاربية إسلاماوية في مواجهة للغرب الاستعماري. ونزع بذلك، أو حاول على الأقل، تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي، فكرة الوحدة المغاربية من النخب الحداثية التي تبنت هذا الخيار في وقت مبكر كما رأينا سابقاً من خلال «نجم شمال إفريقيا». استحوذ لفترة على الخطاب المغاربي ووضعه من ضمن رهاناته السلفية. الطبيعة ترفض الفراغ. كل ما تتخلى عنه النخب العقلانية، تحتله المجموعات الأخرى وتستثمره سياسياً. لقد تسببت القاعدة في المغرب الإسلامي في تفكيك جزء من النسيج المجتمعي المستقر منذ قرون متتالية، في المناطق الجنوبية على وجه الخصوص، وعلى مرأى من الجميع وبدون أية حركة من المسؤولين المغاربيين وكأن الأمر لا يعنيهم، مع أن المسألة تطرح بشكل خطير جداً ومهدد للاستقرار العام. ما حدث من توطؤات في تلك المناطق بكل امتداداته الإفريقية، يجعل من الحاجة إلى تفكير الإنتليجنسيا المغاربية أكثر من ضرورة، بحثاً عن حلول استراتيجية، فالوحدة المغاربية أكثر من مجرد رغبة راودت الأجيال المتعاقبة، فهي أفق استراتيجي ممكن التحقق، ولا بد أن تلعب فيه النخب دورها التاريخي الحيوي.