انفجار مرفأ بيروت لن يخمد أبداً في قلوب الأمهات… وطفلان يوثقان تاريخ القرى الفلسطينية
بيدر ميديا.."
انفجار مرفأ بيروت لن يخمد أبداً في قلوب الأمهات… وطفلان يوثقان تاريخ القرى الفلسطينية
الموت لا يريح إلا صاحبه. أما الأم فلا تنسى، بل تزداد مع الأيام شوقاً وحرقة وألماً وتصدعاً وانهياراً. لا شيء أقسى من فراق ابن أو ابنة. ذلك الفراق يطفئ قلب الأم ويحيله صليباً يمسمر كاهلها. مشوار عذاب لا نهاية له. يكرره الزمن أبداً في قلبها المفتوح على الذكريات. وتبقى روح فلذةِ كبدها شعلات صغيرة تتراقص لتضيء قناديلها الساهرة.
يشتد الليل عليها، مطبقاً على أنفاسها وعلى ذاكرة الأماكن، التي جمعتها بابنها او ابنتها الراحلة. قد تفتح باب بيتها حافية وتهرول في الشوارع لتعود منهزمة مكسورة. إنه الحنين الذي تشتد روائحه ليعيد الأم إلى لحظة الولادة الأولى، فتنجب طفلها الراحل يومياً مع كل شروق جديد.
هذه هي حال كل الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن في انفجار مرفأ بيروت. وجعهن يخنق المدينة ويعيد مشهد الحرائق حية من جديد، ولكن قادتنا لم يخجلوا من دموعهن بعد. تلك الدموع التي تنهزم لها حتى الملائكة في السماء.
ويبقى السؤال، الذي يحير العالم: كيف يمكن بعد مرور ما يقارب السنتين على الانفجار، الذي أصاب بيروت في قلبها أن لا يلقى القبض على متهم واحد!؟
من بين القصص الكثيرة التي تدمي القلب، والتي انتشرت مؤخراً وبكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي قصة لارا حايك، التي ما تزال تغط في نوم عميق منذ لحظة الانفجار في 4 آب/أغسطس 2020 وهي على سريرها في منزلها، الذي لا يبعد كثيراً عن مرفأ بيروت.
لقد أجرى موقع «درج» مقابلة فيديو مع والدة لارا، السيدة نجوى حايك، التي لا يمكن لإنسان طبيعي الاستماع إلى كلماتها من دون أن ينهار بالبكاء.
تقول وهي تغص بكل أوجاع الدنيا: « أتعرفون رحلة العذاب حين تجلس الأم بجانب ابنتها لساعات طويلة ولا ترى سوى قلبها ينبض وجسمها ما زال موجوداً ولكنها بلا روح. ما زلت أتأمل وأقول لا بد أن تصحو من جديد. ما ذنبها المسكينة؟ كانت تجلس في منزلها وفجأة دخلت في غيبوبة عميقة. هل حكمتم عليها بالغيبوبة؟»!
لقد أصيبت لارا في رأسها مما أدى إلى نزيف حاد في الجهة اليسرى وفي العين. امتلأ رأسها بالدماء وتوقف الأوكسجين عن الصعود إلى الرأس فتلفت كل الخلايا ونامت لارا نومها الطويل.
بدأت رحلة العذاب كما تقول أمها. كان من الصعب على والدتها أن تصدق أن ابنتها التي كانت تملأ البيت حياة وحيوية رحلت فعلياً من دون سابق إنذار. رحلت والمجرمون ما زالوا ينعمون بأيامهم التي يعيشونها طولاً وعرضاَ.
بعد مرور سنتين على نومها في المستشفى بدأ الأطباء بتحضير أم لارا نفسياً بأن الأسوأ آت. لكن قلب الأم لن يستوعب الحقيقة، فهي ما زالت تنتظر عودتها إلى البيت، حتى وإن كانت مشلولة أو مصابة في مكان معين في جسدها. ما زالت تزورها يومياً، تقبلها. تدللها. تشمها. تنظر إليها بحنان وتتكلم معها طويلاً. وتتأمل بأن لارا تسمعها وتشعر بوجودها.
أم لارا تحاول التماسك وتشكر الله لأن ابنتها ما زالت تتنفس وتستطيع رؤيتها ولو في السرير نائمة. تشكر الله أنها ما زالت قادرة على أن تمسك بيدي ابنتها.
تقول: «عشت أبشع أنواع الوحدة. أدخل البيت لأسمع صوتها بين جدرانه. أستعيد أحاديثنا. وحين أشتاق إليها أدخل غرفتها وأشم أشياءها وأقبل أغراضها وأعيد ترتيب جواريرها».
كلمات هذه السيدة ذكرتني بكلمات كتبتها لابني الصغير بعد موته، في أول صباح من عام 2013. يومها لم أكن أرغب بمغادرة المستشفى والعودة إلى البيت. كيف أترك المكان الذي جمعنا قبل رحيله. لقد كان العقاب الأكبر أن أعود إلى البيت بدونه. لا أحمل معي سوى حذائه الصغير. عدت في ذلك اليوم وأنا أردد:
ها أنا أعانق حذاءك الصغير
فأمشي به خلف ذكراك
يأخذني إلى موسم الدفء والحنين
فأشعر بآلام المخاض من جديد
وأنتظر ولا تأتي الساعة
أنتظر يوماً.. شهراً.. سنة.. دهراً
وآلام الولادة تشتد
والعمر يمر
وحذاؤك الصغير يعانقني.
أمهات كثيرات حرمن من رؤية أبنائهن بسبب الطغاة والمتآمرين واللصوص ومشعلي الحروب. بعضهن لم يتمكن حتى من انتشال أحذية أطفالهن الصغيرة من تحت الأنقاض، وبعضهن الآخر ما زال ينتظر عجيبة إلهية تعيد البريق إلى عيني أبنائهن أو بناتهن.
لارا، هي ضحية طبقة سياسية عفنة دمرت لبنان وقتلت أبناءه وما زالت تحكمه!
نصلي علّ السماء تمطر يوماً عدالة فتستفيق الأرض.
هذه فلسطين
ومن انفجار بيروت إلى قصة منعشة تعيد لنا شيئاً من الأمل الضائع. قصة شقيقين فلسطينيين يوثقان تاريخ القرى الفلسطينية المهجرة.
لقد انتشرت قصتهما بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد نشر تقرير تلفزيوني عن نشاطهما الرائع عبر إطلاق مبادرة «هذه فلسطين».
إنهما الطفلان الفلسطينيان علي وأحمد. فرغم صغر سنيهما، علي 14 سنة وأحمد 10 سنوات، قررا أن يعرفا العالم على قصة فلسطين بطريقتهما المثيرة. فبدآ بنشر فيديوهات عن تلك القرى والمدن الفلسطينية التاريخية الرائعة على مواقع التواصل الاجتماعي للتعريف بتاريخها، مركزين على تلك القرى، التي تم تهجير أهلها منها عام 1948 . وبذلك ضربا عصفورين بحجر واحد، كما يقول المثل: فهما لم يظهرا للعالم تاريخ تلك القرى وجمالها وحسب، بل أيضاً فضحا كذب ونفاق اسرائيل واغتصابها لبلدهما بحجج واهية.
يقول أحمد: بدأت مبادرتنا قبل سنتين حين كنت أدرس في المدرسة عن القرى المهجرة تحديداً عن قرية لفتا، وصار حلمي أن أزور هذه القرية الجميلة.
ثم يكمل علي الحديث قائلاً: بالليل أعطيت أحمد المعدات حتى يصور هذه القرية وننشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
ثم توسع نشاطهما ليشمل كل القرى الفلسطينية. وبدأ المشروع يزدهر مع التفاعل والإعجاب الكبيرين اللذين أظهرهما رواد الـ«سوشيال ميديا».
ما فعله هذان الطفلان يمنحنا الأمل بوجود جيل جديد قادم يدافع عن حقوقنا وهوتنا العربية. بوجود أمثالهما لا خوف على بلادنا، التي لا بد أن نستعيدها من جديد.
كاتبة لبنانيّة