سكوت فيتزجيرالد وزيلدا ساير: حب على حافة الجنون
كان الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد، وزوجته وملهمته الدائمة زيلدا ساير، تجسيدا حقيقياً لعصر الجاز. قرأ العالم الغربي كله الروائع الروائية لفيتزجيرالد عن النجاح والثروة والحب، لكن حتى هذه الروايات تبدو باهتة مقارنة برواية حياته، وحبه لزيلدا ساير. فقد كان الزوجان يعشقان بعضهما لدرجة الهيام، ويعذبان بعضهما من الغيرة حتى البكاء. سعادتهما الغامرة، سرعان ما تحولت إلى مأساة.
التقى سكوت فيتزجيرالد وزيلدا ساير عام 1918 في إحدى حانات بلدة مونتغومري في ولاية ألاباما. كان سكوت آنذاك ضابطا في الجيش برتبة ملازم ثان، مدفوعا بالرغبة في قضاء أمسية أخرى مع زملائه الجنود. وكانت زيلدا تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، وأجمل فتاة في الولاية، تستمتع بالسهرة في هذه الحانة وسط العديد من الشبان المعجبين بها. وقع سكوت فيتزجيرالد في الحب من النظرة الأولى. وتذكر الكاتب لاحقا: «أجمل فتاة قابلتها في حياتي. أدركت على الفور: إنها يجب أن تكون لي فقط!». لم يكن انطباع زيلدا الأول عن اللقاء قوياً، لكن كان هناك شيء ما في الشاب الوسيم يجذبها ويجبرها على صرف النظر عن الشبان المحيطين بها. وحسب قولها، بدا لها آنذاك أن «بعض القوة الغامضة، وبعض البهجة الملهمة تميزه عن الآخرين».
كانت زيلدا الطفلة السادسة والأخيرة في العائلة. قرأت والدتها العاطفية في أثناء حملها رواية عن الغجرية زيلدا، لذلك حصلت الفتاة على اسمها النادر. كانت مدللة بعاطفة والدتها وأموال والدها، محمية من جميع المتاعب بتأثير نفوذ والدها، الذي كان قاضياً في محكمة آلاباما العليا. عاشت زيلدا حياة نموذجية للشباب الذهبي ـ درست الباليه، ومارست الرسم، وقضت أوقات فراغها في الحفلات. وأدركت حتى في ذلك الحين، أنها لا تريد أن تعمل، وتخشى التقدم في السن. كانت بحاجة إلى شخص يجعل حياتها كلها تبدو وكأنها عيد دائم، وفي الوقت نفسه يدفع ثمن مثل هذه الحياة.
الكاتب المستقبلي
كان سكوت أكبر من زيلدا بأربع سنوات. بحلول الوقت الذي التقيا فيه، لم يكن لديه سوى طموحات هائلة وإدمان على الكحول.. الدراسة في جامعة برينستون، انتهت بالطرد كان والدا الكاتب المستقبلي يخافان بشدة على مستقبل ابنهما، لكن سكوت نفسه كان سعيدا بهذا الطرد. دخل برينستون ليمثل على مسرح الجامعة ويكون ضمن فريقها في كرة القدم. كان الممثلون على مسرح الجامعة من الطلبة المتفوقين ولم يكن سكوت ضمنهم، وكان رياضياً فاشلاً.، لذلك أصبحت الدراسة بالنسبة إليه بلا معنى. قرر سكوت الالتحاق بالجيش، لكنه لم يصل إلى الجبهة، بل تم إرساله للخدمة في بلدة مونتغومري، وبفضل ذلك حدث شيء أكبر ولا يقل تدميرا عن الحرب في حياته ـ التقى الفتاة التي كان يحلم بها والتي ظلت حبه العارم طوال حياته.
كان الملازم سكوت في انتظار أوامر المغادرة مع وحدته إلى جبهة الحرب في خارج البلاد، وكان محل اهتمام فتيات البلدة. والعبارة المفضلة لديه هي: «أي نوع من البطلات تريد الآنسة أن تصبح في كتابي المستقبلي؟». كان لهذا السؤال تأثير سحري في جميعهن باستثناء زيلدا ساير. ومع ذلك، كان سكوت واثقا من نفسه، وسرعان ما تمكن من جذب انتباه زيلدا. وإثارة اهتمامها بما يكفي للسماح له بالدخول إلى دائرة أصدقائها، لكن زيلدا لم تكن في عجلة من أمرها للموافقة على اقتراح الكاتب بالاقتران بها. بالطبع، اعترض والدا زيلدا لأن مثل هذا المرشح العاطل من عائلة غير ثرية لم يكن مناسبا للاقتران بابنتهما. لكنهما وافقا أخيراً، شريطة أن يجد سكوت على الفور وظيفة لائقة. وأوضحت زيلدا لأصدقائها «إذا نشر سكوت كتابا ناجحاً، فسوف أتزوجه، لأنه لطيف».
انتهت خدمة سكوت في الجيش، وذهب إلى نيويورك للدخول في عالم الأدب، وتلقى من زيلدا رسائل دعمت فيها بشدة مساعيه الأدبية، لكنها في الوقت نفسه أغاظته بوصف بارع لـحفلاتها مع أبناء أثرياء الجنوب. وردا على ذلك، كتب لها سكوت رسائل حب لا نهاية لها، وغالبا ما قارن زيلدا بأميرة مسجونة في برج. كانت زيلدا مندهشة بعض الشيء من هذه المقارنة وعاتبته في إحدى رسائلها، لأنه كتب الجملة نفسها في ست رسائل متتالية. وقد أفادت هذه المراسلات ونار الغيرة رواية سكوت الأولى، «هذا الجانب من الجنة» وبعد مفاوضات طويلة مع الناشرين وتحسينات مهمة أجراها سكوت على روايته، نجح في نشرها عام 1920. حققت الرواية نجاحا كبيراً، وبالمكافأة التي حصل عليها اشترى ساعة ماسية لزيلدا من إنتاج شركة كارتييه الشهيرة، بعد أن شعرت زيلدا بالزهو من حقيقة أن بطلة الرواية روزاليندا، مستوحاة منها، واقتنعت بأن صديقها يمكنه حقا كسب المال من خلال الكتابة، وافقت أخيرا على الاقتران به، وانتقلت إلى نيويورك، وقضى الزوجان شهر العسل في فندق نيويورك بلتيمور الفاخر. كان سكوت سعيدا. وفي مقابلة مع الصحافيين، قال إنه تزوج من بطلة روايته. في عام 1922، اشترى سكوت قصرا جميلا. عاش فيه مع زوجته لمدة عامين، وكتب الفصول الثلاثة الأولى من رواية «غاتسبي العظيم» حتى مغادرتهما إلى أوروبا.
بعد نشر روايته الأولى أصبح سكوت وزيلدا من الشخصيات المعروفة في المجتمع المخملي وعاشا في بحبوحة واستمتعا بحياة غنية مبهجة تتخللها الحفلات والرحلات إلى المنتجعات الأوروبية. كتب سكوت: «لقد نشأ جيل، ماتت في نظره جميع الآلهة، وانتهت جميع الحروب، وتقوض كل الإيمان، ولم يتبق سوى الخوف من المستقبل وعبادة النجاح». مع هذا الجيل جاء «عصر الجاز» المجنون، وكان سكوت وزيلدا يمثلان هذا العصر أصدق تمثيل. تصدرت أخبارهما عناوين الصحف بسبب تصرفاتهما الغريبة: اليوم يركبان على سطح سيارة أجرة. وغدا يذهبان إلى المسرح في ملابس لا تكاد تستر جسديهما، ثمّ يختفيان عن الأنظار تماما. وبعد بضعة أيام يتم العثور عليهما في فندق رخيص بعيدا عن المدينة. صدمت زيلدا الجمهور بالسباحة في النوافير والرقص المجنون على الطاولات. لم يكن سكوت يعترض على تصرفاتها الغريبة، التي أعطته دفقا لا نهاية له من المواد لقصصه. لطالما شوهد سكوت مع قصاصات من الورق، وهو يكتب بشكل محموم عبارات وتعليقات زوجته البارعة. التي نشرت لاحقا في «ساتردي إيفينينغ بوست» لقاء مكافأة مالية خيالية لكل قصة وهي 2500 دولار، أو ما يعادل 25000 دولار في أيامنا هذه.
رواية غاتسبي العظيم
حتى ولادة ابنتهما سكوتي الصغيرة، التي سميت على اسم والدها، لم يتوقف هذا العبث. زعم البعض، أن زيلدا تم إحضارها إلى المستشفى وهي في حالة سكر. أول ما قالته عندما أفاقت من التخدير: «أعتقد أنني ثملة… ماذا عن طفلتنا؟ آمل أن تكبر جميلة وغبية». وردت هذه الجملة لاحقا على لسان بطلة «رواية» غاتسبي العظيم».. ديزي بوكانان. بعد التعافي من ولادة صعبة، عادت زيلدا، مع زوجها وابنتهما، إلى نيويورك، وواصلا حياتهما البوهيمية. وسرعان ما انتشرت من جديد شائعات كثيرة حول الكاتب وزوجته، التي، على ما يبدو، لم تحرج الزوجين الشابين على الإطلاق. وعاشا هذا الجنون، ولم يفكرا في تغييره، ولم يكن بوسعهما تغييره، حتى لو أرادا ذلك. كانت قصص سكوت مطلوبة بشدة من المجلات. لكن أصبح من الصعب أكثر فأكثر على الكاتب الجمع بين الكتابة والجرعات العالية من الكحول. لم يكن في إمكانه العمل إلا في حالة الصحو، لكن فترات الصحو أصبحت أقصر فأقصر، بالإضافة إلى ذلك كانت زيلدا تشعر بغيرة شديدة من زوجها لمجده الأدبي.
أزمة سكوت الإبداعية، ونوبات غضب زيلدا المتزايدة، أجبرتا كلاهما على المغادرة والهروب إلى الريفييرا الفرنسية. هناك، بعيدا عن صخب نيويورك، ران عليهما الهدوء قليلا. كان سكوت منهمكا في استكمال رواية «غاتسبي العظيم». وزيلدا تمضي أيامها على الشاطىْ. وبدا كأن الأمور تتحسن، لكن ذلك كان مجرد هدوء يسبق العاصفة. أخذت زيلدا تشعر بالضجر، وبدأت علاقة غرامية مع طيار فرنسي وسيم، بدافع الملل، وإثارة غيرة سكوت، وتذكيره بأنها قد تكون ذات أهمية ليس فقط كمصدر لكتبه. في البداية لم يتدخل سكوت لمنع هذه العلاقة. وقد اعترف لاحقا بأنه أراد معرفة كيفية تصرف زيلدا مع حبيبها الفرنسي من أجل وصف علاقة ديزي وغاتسبي بدقة أكبر. لم تدم هذه العلاقة العاطفية طويلاً، ولم تهدد بانفصام عرى الزواج، لكن مع ذلك برز الخطر على حياة زيلدا المفرطة التأثر عندما تخلى الطيار فجأة عن حبيبته، تناولت زيلدا حبوبا منومة ونجت فقط لأن سكوت سارع إلى إنقاذها في الوقت المناسب.
كانت زيلدا في سن السابعة والعشرين عندما قررت ان تجرب حظها في فن الباليه. كانت تحلم بأن تصبح إيزادورا دنكان الجديدة. وكان ذلك أمرا مستحيلا نظرا لسنها وافتقارها إلى الخبرة تقريبا. بدأت زيلدا في التدريب. بشوق وعزيمة قوية، وأرهقت نفسها جسديا وذهنيا، ولم تر سكوت تقريبا في هذا الوقت. احتقر سكوت بصراحة محاولاتها أن تصبح راقصة باليه، واعتبرها مضيعة للوقت. ومع ذلك، فإن تدريب زيلدا آتى ثماره، وعرض عليها دور منفرد في الإنتاج الإيطالي لباليه «عايدة». كان هذا دورا يمكن أن يجعل منها راقصة باليه، غير أنها رفضت العرض لأسباب غير معروفة. بعد ذلك بوقت قصير، أثناء سفرها على طول الريفييرا مع سكوت، أمسكت زيلدا، التي كانت تجلس في مقعد الراكب، بعجلة القيادة وحاولت توجيه السيارة نحو أسفل الجرف. لكن رد فعل سكوت كان سريعا، وتفادى الكارثة بمهارة. أصبح سلوك زيلدا مقلقا أكثر فأكثر، حاولت الانتحار عدة مرات: مرة عن طريق ابتلاع الحبوب المنومة، ومرة أخرى عن طريق رمي نفسها من الدرج. ولحسن الحظ لم تصب بأذى كبير. وكانت تغار من إيزادورا دنكان، وتحلم في أن تكون مشهورة مثلها.
عكس سكوت فيتزجيرالد إلى حد كبير ملامح عصره، ورسم في أعماله عالم الطبقة الأرستقراطية ورجال الأعمال الذين أثروا فجأة في العشرينيات. العديد من بطلاته يشبهن إلى حد بعيد زيلدا، وتصف رواياته أحداثًا من حياتهما.
في عام 1930، شخَّص الأطباء حالة زيلدا بأنها انفصام الشخصية. الآن لا يوجد إجماع حول ما إذا كانت حالتها قد تم تحديدها بشكل صحيح. ويعتقد بعض الباحثين بأنها كانت مصابة باضطراب ثنائي القطب، ويعتقد آخرون أن زيلدا عانت من اكتئاب طويل الأمد، وأن طرق العلاج المعتمدة في عيادات الطب النفسي في ذلك الوقت (بما في ذلك حقن الأنسولين والعلاج بالصدمات الكهربائية) أدت إلى تفاقم مرضها. منذ أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، ذهبت معظم أرباح سكوت من رواياته وقصصه لمعالجة زيلدا في أفضل المشافي والمصحات في أوروبا وأمريكا. في عام 1932 بينما كانت زيلدا في المشفى، كتبت روايتها الأولى «أنقذني، الفالس» لكنها أدرجت فيها أفكار زوجها، الذي شاركها أثناء عمله في رواية «رقيق هذا الليل». كما استعارت اسم أحد أبطاله. وبعد شجار نشب بينهما وافقت زيلدا على حذف المقاطع المقتبسة. وأصابت الرواية نجاحا عند نشرها، وتحسنت صحة زيلدا لبعض الوقت. وكما يقول المثل: «المصائب لا تأتي فرادى» نزلت على سكوت مصائب جديدة الواحدة تلو الأخرى: أصيب بكسر في عظمة الترقوة ولم يستطع الكتابة لفترة طويلة، وتوفيت والدته، ابنته لا تريد أن تدرس، وتطلب المزيد والمزيد من المال للترفيه. قام سكوت بمحاولات لتغيير مصيره: بدأ علاقة غرامية في هوليوود مع الناقدة السينمائية شيلا جراهام. وقد ألهمته علاقته بشيلا كتابة آخر رواياته وأكثرها نضوجا وهي «عشق آخر أباطرة المال» إلا أن الجمهور تجاوب ببرود مع روايته الجديدة، ودور النشر لم تجدد العقود معه، وخانه أصدقاؤه. وقيل عنه إنه أصبح عتيقاً.
سيرة ذاتية
وفي عام 1934 نشر رواية «رقيق هذا الليل» وهي رواية سيرة ذاتية إلى حد كبير، يصف فيها فيتزجيرالد ألمه، وكفاحه من أجل الحفاظ على الزواج، والجانب الآخر من حياتهما الباذخة. ومع ذلك، لم يحظ الكتاب بنجاح كبير في أمريكا. تمادى سكوت في السكر، وأخذ يتناول جرعات كبيرة من الحبوب المنومة والأدوية. كان حسابه المصرفي يتضاءل، وغير قادر على تحمل تكاليف علاج زيلدا، ودفع أجور التعليم في مدرسة داخلية لابنته سكوتي، وسكره بلا نهاية. لم يتحمل قلب الكاتب كل ذلك، وتوفي بنوبة قلبية في 21 ديسمبر/كانون الأول 1940 في هوليوود عن عمر يناهز 44 عاماً وبالكاد كان هناك ما يكفي من المال لنقل جثمانه إلى وطنه.
قبل وقت قصير من وفاته، تم نقل زيلدا إلى مستشفى هايلاند للمرضى النفسيين في ولاية كارولينا. هناك بدأت في الرسم وكتابة روايتها الثانية «زوجة قيصر» التي لم تكتمل قط. في عام 1948، اندلع حريق في المصح، ما أدى إلى وفاة تسعة مرضى، بمن فيهم زيلدا. وحسب الشائعات، لم تتمكن من الخروج من المبنى المحترق، حيث كانت مقيدة بسرير بعد حقنها بمهدئات قوية، لكن لا يوجد تأكيد دقيق لهذه المعلومة. من الصعب أن نتخيل كيف كان سيكون مصير زيلدا لو لم تكن في ظل سكوت.
عكس سكوت فيتزجيرالد إلى حد كبير ملامح عصره، ورسم في أعماله عالم الطبقة الأرستقراطية ورجال الأعمال الذين أثروا فجأة في العشرينيات. العديد من بطلاته يشبهن إلى حد بعيد زيلدا، وتصف رواياته أحداثًا من حياتهما. كانت زيلدا مصدر إلهامه، وفي الوقت نفسه منعته من التفرغ لكتاباته والكشف عن طاقاته الإبداعية على نحو كامل. على الرغم من المرض والاكتئاب والمشاجرات والصعوبات المالية، التي تفاقمت بسبب الكساد الكبير، فقد استمر زواج سكوت وزيلدا 20 عاما. وتكشف رسائلهما المتبادلة عن علاقة الزوجين أفضل بكثير من كل الكتب والأفلام المكرسة لحياتهما العاصفة.