تحسين معلّة
ربع قرن في “سبيل البعث”
وربع قرن ضدّ سلطة البعث
عبد الحسين شعبان[*]
نشرت في جريدة الزمان (العراقية) على ثلاث حلقات في 22، 30 تموز / يوليو و 5 آب / أغسطس 2022.
استهلال
لا يستقيم فهم التاريخ إلّا باستيعاب الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري، والأمر لا يقتصر على ما تدوّنه الكتب والمخطوطات من أحداث ووقائع، خصوصًا للتاريخ المعيش، أي الراهن من الأحداث والقضايا، وارتباطًا بما هو حاضر بما مضى، وإنما هناك جوانب أخرى مكمّلة ومتمّمة تضيف نكهة خاصة على قراءة التاريخ وفهم أحداثه، لمن شارك وساهم وعمل على صنع بعض تلك الأحداث والوقائع والأحداث أو كان شاهدًا عليها أو قريبًا منها، لاسيّما من جانب بعض الشخصيات الوازنة والمؤثّرة التي تركت بصمة هنا أو هناك فعلًا أو قولًا، لتأتي بعدها شهادات لاستكمال رواية بعض الحلقات كي ما تكون أكثر صميمية ووجدانية، بضمّ بعضها إلى بعض، حيث يتم النظر إليها كوحدة قائمة، وإن كان كلّ واحد يرى في الصورة ما يفيده من زاويته، وهكذا تتداخل محطّات التاريخ وتتفاعل أحداثه في جوانبها المختلفة.
والبحث في التاريخ باعتباره “أب العلوم” يحتاج إلى فلسفة، فهي “أم العلوم“، ولكلّ تاريخ فلسفة، مثلما لكلّ فلسفة تاريخ، والتاريخ والفلسفة يُستحضران في إطار علم السياسة الذي هو “ملك العلوم” حسب أرسطو.
كما يتداخل في البحث التاريخي الفردي بالمجتمعي والخاص بالعام والموضوعي بالذاتي، ولا يمكن إهمال دور الفرد في التاريخ حتى وإن كنّا نتحدّث عن كتل أو جماعات أو أحزاب أو قوميات أو طبقات أو أديان، وهذه هي التي تصنع المشهد الأخير، لكن في هذا المشهد ثمّة إضاءات فردية لولاها لما كان التاريخ الذي نقرأه ونعرفه تاريخًا على ما هو عليه.
أسئلة وقلق
مبرّرات هذا الكلام هو مدخلي للحديث عن شخصية سياسية مخضرمة، شارك في صنع الأحداث، وبقدر ما كان صاحب قرار فقد كان ضحيّته أيضًا، ومن قلب الأحداث إلى هامشها ومن المنصّة إلى الحواشي، بعيدًا ومنفيًا وملاحقًا، تلك هي السياسة في بلادنا، لم تعرف التطوّر التدرّجي والوسطية والاعتدال، فقد كان التعصّب ينتج تطرّفًا وهذا الأخير حين ينتقل من التفكير إلى التنفيذ يصير عنفًا، خصوصًا حين يستهدف إقصاء الآخر أو إلغائه أو تهميشه، والعنف يصبح إرهابًا إذا ضرب عشوائيًا وهكذا.
وحتى حين كان تحسين معلّة في السلطة أو قريبًا منها، فقد كانت الأسئلة إزاء الآخر تداهمه، وظلّ يبحث عن أجوبة لم يكن من السهل العثور عليها في ظلّ صراعات ضاغطة من خارج المؤسسة الحزبية التي عمل فيها ومن داخلها على نحو أشد، وامتدّت أسئلته وقلقه مع وجوده في المعارضة أيضًا، ففي لندن، وخصوصًا بعد غزو الكويت العام 1990 وعشية حرب قوّات التحالف ضدّ العراق (17 كانون الأول / يناير 1991) كان السؤال الكبير: ما السبيل لمواجهة نظام الحكم؟ هل بالانقلاب العسكري؟ ومن يقوم بذلك؟ وأية قوّة تمتلك المعارضة؟ وهل يعوّل عليها؟ وماذا لو أطيح بالنظام من خارج المعارضة؟ فماذا ستفعل؟ وكيف ستتصرّف؟ وما هو مواقف القوى الإقليمية، خصوصًا إيران؟ وبالتالي ما السبيل لعلاقة الداخل بالخارج؟ وانفتحت تلك الإشكاليات والأسئلة على مشاريع خارجية، حيث دخل الأمريكان على خط المعارضة، بقناعة أو تواطؤ أو واقع حال، بعد أن كانت اليد السورية والسعودية وإلى حد ما الإيرانية متوغّلة داخلها، وبدا الأمر واضحًا في مؤتمر بيروت (آذار / مارس 1991).
إن عدم وجود إجابات شافية ومقنعة ومطمئنة زاد من القلق، خصوصًا في ظلّ عدم توفّر معلومات كافية ومحاولات اختراق حكومية مضادة، ناهيك عن ضبابية وتشوّش في الرؤية، بحيث أخذت هذه العوامل تتفاعل في ذهن تحسين معلّة والعديد من الشخصيات المعارضة، بل كانت تصطرع، وأحيانًا تتناقض وتتعارض، وهكذا كان يقدّم خطوة ويؤخّر خطوتين مثل الكثيرين غيره، فلم يكن وحده على هذه الشاكلة، حيث شغل الأمر عدد غير قليل من المعارضين والأحزاب والقوى والشخصيات، ولاسيّما من رفاقه الذين عملوا بالقرب من السلطة أو في داخلها، ويعرفون مصادر قوّتها وهي كثيرة، ومصادر ضعفها وهي غير قليلة، حيث أخذت هذه العوامل الأخيرة تتعاظم وتتضاعف في ظل صراع دولي محموم.
حساسية مفرطة
حين أتناول شخصية مثل الدكتور تحسين معلّة، لا أستطيع أن أوصّف شخصيّته وإن كانت واضحة جليّة، إلّا أنها حملت متناقضات بين جنباتها، وإذا كانت السياسة بنت اللحظة فهي لحظة مفارقة أحيانًا، فحين يكون في السلطة أو بجانبها كان يتعاطف مع معارضتها، خصوصًا الضحايا، لاسيّما ما يخصّ القسوة والعنف في التعامل مع المعارضين، وحين يكون في المعارضة كان يفكّر أحيانًا بعقل السلطة أو من معها من رفاقه مثلما كان يومها يعيش قلقًا وجوديًا، فالسلطة هي لحزب البعث، لكن الكثير من البعثيين هم من ضحاياها، لذلك تراه يتقدّم ويتأخّر تبعًا لمشاعره.
ولحساسية تحسين معلّة المفرطة فلم يحتمل بعض تصرّفات رفاقه أحيانًا ، فقد جمّد نشاطه في العام 1956 وعاد إلى الحزب الذي ساهم في تأسيس لبناته الأولى بعد ثورة 14 تمّوز / يوليو 1958 وبالتحديد بعد أن شعر بأهميّة المواجهة، وذلك بعد يوم من حركة العقيد عبد الوهّاب الشوّاف في الموصل ( 8 آذار / مارس 1959) ، وهي فترة صعبة وقاسية على البعثيين والقوميين حينها بسبب الملاحقة التي تعرّضوا لها.
وتحسين معلّة لم يكن يعرف الاستكانة أو المهادنة وكأنه خُلق للتحدّي، فقد ظلّ طيلة حياته متحمّسًا حتى وهو في عقده الثامن، لكنّه يتصرّف بحماسة شاب في ريعان شبابه ويأخذ مهمات على عاتقه هي أقرب بمهمات الشباب وليس الشيوخ.
في التقدّم والتراجع وما بينهما من هدنة ومساكنة، كان الإنسان في قلب تحسين معلّة يكبر أكثر فأكثر، وكما يقول بحكم مهنته الإنسانية، فالطبّ ليس كبقية المهن، فما بالك حين كان يمتثل لنداء قلبه، فيغامر بمعالجة جرحى عملية اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في 7 تشرين الأول / أكتوبر 1959، وبينهم سمير عبد العزيز النجم وصدّام حسين، الذي يتعرّف عليه لأوّل مرّة والذي سيصبح الشخص الأبرز بعد الرئيس أحمد حسن البكر إثر انقلاب العام 1968، وستكون بينه وبين صدّام أكثر من حكاية ومن قصّة، فقد عرض عليه في الأيام الأولى للانقلاب أن يكون محافظًا للكوت أو للبصرة، لكنه اعتذر، كما يذكر ذلك في حواره مع مهدي السعيد إلى جريدة الحياة اللندنية (حلقتان 18 و19 تشرين الثاني / نوفمبر 2004).
وجاءت هذه الحادثة إثر ردّ بارد من تحسين معلّة على مكالمة “للقائد الفعلي” للبلاد منذ 17 تموز / يوليو 1968 والتي حاول تصحيحها باتصال به وتلطيف الأجواء معه في اليوم التالي، علمًا بأن علاقته كانت وطيدة ومستمرّة مع الرئيس البكر منذ العام 1966، لكنّها تصدّعت وأصابها شيء من الفتور بعد تعيينه سفيرًا للعراق في الجزائر، ثمّ سحبه بعد سنة وشهرين، وهو ما دفع تحسين معلّة حتى بعد تعينه عميدًا لكلية الطب أن يتوجّس خفية فيختار المنفى إثر الضغوط والمضايقات التي تعرّض لها، وهو الذي سيؤسس مع صلاح عمر العلي وإياد علّاوي تنظيمًا معارضًا في لندن يطلقون عليه إسم “الوفاق“.
ومن أسباب توتّر علاقاته مطالبته في العام 1973 كتابة تقرير يفصح فيه عن وجهة نظره بالحكم، وذلك في إطار تعميم حزبي كما يقول، لكنه امتنع عن القيام بذلك فحوسب وطولب بإنجازه، وبعد بضعة أشهر كتب ما مفاده أن التمترسات المناطقية والعشائرية والجهوية تغلّبت على المصلحة الوطنية في الدولة، وضرب بعض الأمثلة كما قال لي في حديث مطوّل معه في لندن العام 1992. وحين سألته ماذا كان جواب القيادة؟ قال لي لم يسألني أحد عن رأيي بعد ذلك ولم يجبني أحد عن التقرير الذي كتبته. وهذا يعني في العرف الحزبي والممارسات التي سادت في التنظيمات الشمولية، عدم الارتياح من الرأي المخالف، بل ووضع علامة حول الاسم تتعلّق بالولاء، أي من دائرة الشك.
الحزب والدولة
يبدو أن التزام تحسين معلّة بمعايير الدولة وإدارتها غلبت على طاعته الحزبية، خصوصًا مناقشة قرارات أو أوامر أو توجيهات أو تعليمات كانت تأتيه من الأعلى، لكنه ألزم نفسه بما تمليه عليه القوانين السائدة، فرفض طلبًا لصدّام حسين نائب الرئيس، بتعيين أحد خرّيجي الطب حديثًا ويحمل دبلومًا عاليًا، كأستاذ في كليّة الطب، وكان من المفروض أن يعيّن مدرّسًا (تدريسيًا كما يسمّى) لكن نائب الرئيس صدّام حسين حينها كتب على أوراقه يُعيّن “أستاذًا”، وربما لا يفرّق كثيرًا بين الأستاذ ولقب الأستاذية والأستاذ المساعد والتدريسي، وهي درجات في السلّم الوظيفي والإداري والأكاديمي في الجامعات.
وقد تخلّص تحسين من الإحراج الذي مرّت به وزارة التعليم العالي ورئاسة الجامعة بأن كتب على الطلب بعد صدور الأمر بتعيينه “أستاذًا”، “يباشر ويُحال ملفّه إلى رئاسة الجامعة لتحديد درجته العلمية…”، وقال لي أنه حين كتب ذلك تحسّس رقبته بيده، مثلما وضع يده الأخرى على قلبه.
وظلّ يحاول التشبّث بالقانون بما فيه بخصوص الراتب، وحسبما يبدو أن المسألة نوقشت في أعلى المواقع، ليس الهدف منها تحديد الدرجة والراتب، بل بتسليط الضوء، كيف يحُقّ لموظّف مخالفة أعلى سلطة في البلاد؟
أمّا القضيّة الثانية، فتتعلّق بتهوّر أحد الإيرانيين المعارضين الذي كان العراق يستضيفهم ويدعمهم، وقد اتخذ تحسين قرارًا بفصله من الكليّة لعدم تصرّفه بما يليق به كطالب، لكن هذا الأخير حاول انتظاره عند مدخل الكلّية، بل همّ باستخدام مسدّسه، فهجم عليه أحد الموظّفين وأخذ المسدّس منه، واتصل بالقصر الجمهوري ليخبر الرئيس البكر بذلك، وشرح الأمر لطارق حمد العبد الله، ثمّ اتصل به هيثم ابن الرئيس البكر وكان سكرتيرًا لوالده، وقال له: اتخذ الاجراءات التي تجدها مناسبة، فاتخذ القرار بترقين قيده. وللحادثة جوانب أخرى، حين اتصل به سعدون شاكر مدير المخابرات، يطلب البحث عن حلّ للقضية، وبعد نحو شهر، اتضح أن هناك من قام بنقله إلى جامعة الموصل بقرار من وزارة التعليم العالي.
بين الكويت ودمشق ولندن
كانت الإشارات الجديدة – القديمة على عدم الرضا تتراكم وتترى بسرعة كبيرة، حيث ازداد عدم الارتياح، وشعر تحسين بحالة من الاختناق قائلًا: كيف أنا أتصرّف أمام الناس وأنا المعروف ببعثيّتي، في حين أن سلطة البعث تحاول تحجيمي والنيل منّي وتحويلي إلى أداة، فاتّخذ قراره بالابتعاد، ولذلك قدّم استقالته حفظًا لكرامته ولكي لا يظهر مسؤولًا بلا مسؤولية، لكن الجماعة كما يقول لم يعجبهم ذلك، فأحالوه على التقاعد بقرار من مجلس قيادة الثورة.
واضطّر بعد ذلك إلى مغادرة العراق (نيسان / أبريل 1976) فتوجّه إلى الكويت، وكان لديه دعوة لحضور مؤتمر الدراسات الطبيّة في طهران، وبدلًا من السفر إليها توجّه إلى الكويت واستقرّ فيها وباشر عمله، وخلال وجوده في الكويت جرت محاولة لاغتياله حسبما أبلغني، لأنه قرّر وقتها أن يعمل على معارضة الحكم في العراق.
وكانت خطوته الأولى الاتصال بالسوريين، وقد استقبله سرًّا الرئيس حافظ الأسد في منزله بدمشق، ويبدو أن الزيارة تسرّبت إلى الأجهزة العراقية، فوضعت قنبلة تحت سيّارته يوم 20 حزيران / يونيو 1977، وهو ما أخبر به الشيخ سعد العبد الله، وبعد تنقّله بين الكويت والشام ولندن استقرّ في لندن وطلب من عائلته الالتحاق به.
ولم يتم الاكتفاء بذلك، والحديث لتحسين معلّة، حيث قال لي أن بعض عناصر المخابرات العراقية في لندن اقتحمت منزله واعتدت على زوجته بالضرب، وكان ذلك يوم 25 أيلول / سبتمبر 1980، أي بعد ثلاثة أيام من بدء الحرب العراقية الإيرانية. وبعدها قام الاسكتلنديارد (الشرطة البريطانية MPS) بتأمين حمايته بنصب جهاز إنذار مبكّر مرتبط بالشرطة وزر تلفون مُشفّر، خصوصًا بعد ان شرح لهم محاولة اغتياله في الكويت، وقد أنجزوا له إقامته التي كانت معطّلة بسبب عدم تمديد جواز سفره وعائلته.
لغة المعارضة
تمرّس تحسين معلّة في العمل السياسي، وفي مواقع سياسية وإدارية عليا، فهو من أقدم القيادات البعثيّة وعمل مع فؤاد الركابي أول أمين قطري لحزب البعث، بعد أن كانت علاقته بعبد الرحمن الضامن الذي لم يستمرّ طويلًا، وكانت قبل ذلك ، أي من العام 1952 مسؤولًا عن المكتب التنفيذي (التنظيمي) ومكتب العلاقات الوطنية للصلة بالأحزاب والقوى الأخرى. أي أنه كان لولب الحزب الفعلي، لذلك أصبح الشخص الثاني بالحزب بعد مؤتمره الأول العام 1954.
وظلّ تحسين معلّة يراكم الخبرة، وفي ما يُكلّف به أو يأخذه على عاتقه من مهمّات مبادرًا وجريئًا وصاحب رأي، فلم يعتد أن يبلع لسانه كما يُقال، وظلّ النقد ممارسة مستمرّة له، نقدًا ثقيلاً وجافًا أحيانًا أم خفيفًا وبسيطًا، بالكلمة والموقف، فهو يمتلك عقلًا ناقدًا، وأعرف أن القليلين من السياسيين امتلكوا مثل هذه الخاصيّة، لذلك كانت مشاكله كثيرة حتى في المعارضة أيضًا، فهو رأس حربة دائمًا. ويمكنني القول أنه من جيل السياسيين الذين كانت الممارسة والعمل الجماهيري تشكّل جلّ حركتهم السياسية.
أعتقد أن لغة الاحتجاج والتمرّد والرفض كانت تسكن تحسين معلّة منذ نعومة أظفاره، وهي سمات رجولة وشموخ وتحدّ. وحتى مفرداته كانت مفردات احتجاج وأحيانًا مشاكسةً لدرجة أن بعض أصدقائه يغفرون له ذلك لمعرفتهم بصدق نواياه وطيبة قلبه. كان التغيير والرغبة في إصلاح الأوضاع قد سكنت عقله الباطن وتمكّنت من لغته بحيث صارت جزء من شخصيّة تحسين.
وأستطيع أن أقول دون خشية من الوقوع في الخطأ أو مجانبة الحقيقة أن تحسين معلّة جمع في شخصيته وسلوكه ودوره السياسي مجموعة من الشخصيات المؤتلفة والمختلفة، المستقرّة والقلقة، الموالية والمعارضة، وهي سمة تكاد تكون استثنائية، وهو ما يختلف به عن الكثير من رفاقه ومجايليه، فقد كان مباشرًا وواضحًا، ولم يكن لديه ازدواجية أو باطنية، وتستطيع أن تتعرّف عليه وعلى رأيه بعد دقائق من اللقاء به والاستماع إليه، مع قوّة شخصيّة وإصرار وإرادة حديدية، خصوصًا إذا اقتنع بقضيّة ما، وكان مجادلًا من الطراز الأول، ولربما عمله في ميدان العلاقات في حزب البعث ولقاءاته مع زعماء سياسيين كبار ومنذ وقت مبكّر أكسبه هذه المواصفات، خصوصًا الاهتمام من أبسط القضايا حتى أرقاها، ومن أصغرها إلى أكبرها. وقد شرح لي في أحد المرّات نظام المرور في بريطانيا، واكتشفت مدى اطلاعه على أمور وقضايا لم أفقه عنها شيء حتى الآن.
إن الخزين الشخصي لتحسين معلّة كان تجربته، أي البراكسيس، وهي أهم لديه من النظريات والكتب والأبحاث، وكان دائمًا ما يفكّر ببعض الجوانب العملية، فهو يمتلك طاقة حيويّة على فهم وتفسير الأحداث متوسّمًا تقريب ما يريد الوصول إليه من أهداف، سواء مع محاوره أم لتعميم وجهات النظر التي يؤمن بها، حتى أن القريبين منه أصبحوا يعرفون ما يهدف إليه عند أول حديثه أو حواره، لأنه يقدّم الرأي والمعلومة دون لفّ أو دوران، وهو تشخيص دقيق أيضًا للسيّد محمد بحر العلوم لشخصيّة تحسين معلّة.
المدرسة القومية
اختار تحسين معلّة المدرسة القومية بحكم نشأته المدينية والعائلية، فشقيقه المحامي المعروف فاضل معلّة “والد حسنين” كان من أركان العمل القومي وأحد أقطاب حزب الاستقلال الذي يتصدّره قوميون عرب كبار مثل الشيخ محمد مهدي كبّة وصدّيق شنشل وفائق السامرّائي وآخرين، وقد انخرط هو في وقت مبكّر في هذا التيّار لأنه أقرب إلى مزاجه وتكوينه، لكنّه ظلّ يبحث عمّا هو أكثر جذرية وعمقًا منه، حتى اهتدى إلى حزب البعث العربي الذي أصبح اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي بعد اتفاق ميشيل عفلق مع أكرم الحوراني على اتحاد مجموعتيهما.
ولأن ميله عربيًا بسمة إسلامية، لذلك لم يستهوه التيار اليساري والماركسي، بل احتجّ كما قال لي على الرئيس أحمد حسن البكر في حوار معه، في الستينيات وقبل انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 على التأثر بالاشتراكية العلمية الماركسية، التي أكثر البعثيون الحديث عنها وبمبالغات أحيانًا بعد انهيار نظامهم الأول في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963، وازداد الأمر إثر هزيمة 5 حزيران / يونيو 1967.
والواقع فإن ما يطلق عليه “اشتراكية علمية” من منظور حزب البعث، كان مجرّد اختصارات وانتقاءات واقتباسات من الماركسية أُلبست ثوبًا عاطفيًا أحيانًا وبمسحة دينية إسلامية في أحيان أخرى، بهدف التميّز عن الشيوعية والتفريق عن الاشتراكية الماركسية، وهذه الأخيرة كانت خصمًا معلنًا أو مستترًا لحزب البعث منذ بداية تأسيسه في إطار منافسة مشروعة وغير مشروعة أحيانًا، علمًا بأن ما أطلقنا عليه “اشتراكية علمية” من منظور المدرسة الماركسية السوفيتية كان أقرب إلى تعويذات وأدعية وكليشيهات كانت تردّدها الأحزاب الشيوعية، فقد اتسمت بتسلّطية وبيروقراطية لا يربطها في كثير من الأحيان أي علاقة مع روح الماركسية أو جوهرها.
وتمّ تعليب النظرية واختزالها إلى شعارات بعيدة عن الواقع، مثل ديكتاتورية البروليتاريا والطليعة والتنظيم الفولاذي، إضافة إلى التأميم الشامل لقوى الإنتاج وتذويب القطاع الخاص والاستخفاف بالمبادرات الفردية.
وإذا كان ماركس حلّل بعبقرية واقع الرأسمالية وكشف عيوبها الجوهرية والقوانين التي تحكمها لدرجة يحق لنا القول أن الماركسية هي “علم الرأسمالية” بامتياز، فإنه لم يكن ليستطيع أن يتنبأ بقوانين الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، إلّا بصيغتها العمومية، وعلى من واجه هذه الإشكالية وضع القوانين المناسبة انسجامًا مع درجة تطوّر كلّ بلد اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعلاقاته التاريخية، وليس كلّ ما ذهب إليه ماركس من تعليمات تصلح لعصرنا، فقد كان بعضها صالحًا لعصره، فضلًا عن أن الحياة لم تثبت صحّة العديد من أحكامه، ويبقى فضله كبيرًا على البشرية لاكتشافه قانون التطوّر التاريخي وفائض القيمة.
علمًا بأن ماركسية ماركس (ماركسية القرن التاسع عشر) تختلف عن الماركسية السوفيتية التي أضيف إليها “اللينينية” (ماركسية القرن العشرين) والماركسية الصينية التي أضيفت إليها “الماويّة“، وماركسية السلطة تختلف عن ماركسية المعارضة، وماركسية القرن العشرين تختلف عن ماركسية القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي بحاجة إلى مراجعات جريئة في النظرية والممارسة.
وهدفي من هذه الإضاءة السريعة التي عالجْتُ جوانب مهمة منها في كتابي “تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف” (الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009) القول أن الاشتراكية الماركسية الشيوعية، وخصوصًا تطبيقاتها لم تكن لها علاقة بماركس أو بالماركسية في جدليّتها وفي التمركس بشكل عام (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية)، حيث كان ماركس حلقتها الأولى، فما بالك باشتراكية البعث ذات الشعارات العمومية، فضلًا عن محاولة التميّز فيما يتعلّق بالتهم المتعلّقة بالإلحاد وما شابه ذلك من تقديرات بعضها يجانب الحقيقة ويقوم على فرضيات بعيدة عن الواقع، استخدمت في مرحلة الصراع السياسي مع الحركة الشيوعية.
جيل البعث الأول
كان تحسين معلّة وجيله من البعثيين الأوائل لا يخفون عداءهم للاستعمار، وخصوصًا موقفهم من قضيّة فلسطين وتشريد أهلها، وتطوّر هذا الموقف لمناهضة حلف بغداد العام 1954 – 1955 والتصدّي للتيارات التغريبية، أي محاكاة ما هو غربي من جانب بعض الليبراليين وموقف هؤلاء السلبي من التراث والتاريخ العربي. وقد تأثّر معلّة وجيل البعث الأول منذ انخراطه في التيّار العروبي بالرسالة الخالدة التاريخية وظلّ يشعر نحو شعار “أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” بإخلاص كبير حتى وإن جرى تشويه هذا الشعار في ظلّ الديكتاتورية، وإذا كان رفضه للتقليدية والمحافظة في رؤية التراث، فإنه وقف ضدّ بعض محاولات النيل منه من زاوية مختلفة وبطفولة يسارية أو عدم اهتمام أحيانًا، كما فعلتم أنتم ويقصد الشيوعيين، مادًا إصبعه إليّ.
وجرت المناقشة بيننا طويلًا حول الموقف من التراث وإمكانية توظيفه، وذلك بإعادة قراءته وتفسيره وأخذ ما هو إيجابي ومضيء منه وإهمال ما هو سلبي. فتاريخنا العربي والاسلامي مثل كلّ تواريخ العالم فيه الغث والسمين وفيه الصالح والطالح، وعلينا استلهام المعاني الإيجابية والقيم الإنسانية والدلالات المستقبلية، وبما ينسجم مع قيم العدل والمساواة والكرامة والحريّة والخير والجمال.
وكنت أكرّر معه: علينا لا إعادة التاريخ فهو ماضٍ لن يعود، ولكن علينا استحضاره لأنه يعيش فينا بهدف استلهام ما هو خير وإنساني وعادل وجميل فيه، وتلك ما يُطلق عليه العلاقة بين الأصالة والمعاصرة وبين التراث والحداثة.
أعتقد أن تحسين معلّة كان يشعر بانتماء عميق وهويّة أصيلة من خلال وعيه العروبي الذي دائمًا ما يجد محيطًا أكبر يسبح فيه وهو الدائرة الإسلامية، وهذه رابطة جامعة لا بدّ من التعامل معها لأنها هي الأخرى تمثّل جزء لا يتجزّأ من تاريخنا، مع أنه ليس متديّنًا بالمعنى المعروف للكلمة، بل كان أقرب إلى المدنية والعلمانية بصياغاتها العمومية. وقد كنت دائمًا ما أضيف إليه الدائرة الإنسانية أي الكونية، فالبشر بغضّ النظر عن هويّاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية أو اللون أو الجنس أو الأصل الإجتماعي، خلقوا متساويين في الكرامة الإنسانية، وعليهم أن يتمتعوا بحقوق متساوية.
كان جيل تحسين من البعثيين وعرفت الكثير منهم وربطتني صداقات عميقة مع بعضهم، يربطون وعيهم الأول بهويّتهم العربية باعتبارها رابطة وجدانية تجمع بشرًا يشعرون بهذا الانتماء الموحّد، وذلك خارج دائرة الأيديولوجيا من جهة، بل خارج دائرة الأنظمة التي شوّهت هذه الرابطة الوجودية الإنسانية، وخارج دائرة التأثّر بالفكر الأوروبي ذي النزعة القومية الاستعلائية التي كانت تتسرّب إليهم أحيانًا. إنه شعور غريزي فطري بانتماء طبيعي إلى أبناء جلدتهم. وكان تحسين معلّة بمناسبة أو بأخرى يستذكر علاقاته الأولى برفاقه، وعلى الرغم من الصراعات الحزبية المميتة والقاتلة والتي تترك في النفس مرارات وتُثير عداوات أحيانًا وتخلق كراهية، إلّا أنه ظلّ يتهجى بعض جوانبها الوجدانية ويستعيد ذكرياتها الطيّبة.
النجف وشيء من “حتى” !
تلقّحت البذرة الأولى لتحسين معلّة في النجف وتفتّحت بأجوائها الأدبية وحوزاتها الدراسية الدينية وجدلياتها الثقافية والأدبية بعامّة والشعر بخاصّة، وهذا الأخير كان وما يزال يسكن النجف ويعيش في حاراتها وأزّقتها، فالمدينة لا تتنفّس إلّا بالشعر ولا تستنشق هواءً إلّا بالأدب، ولا تأكل إلّا بالفقه والبيان والنحو والصرف، حتى أن العطّار والبقّال والخيّاط وبائع البقلاء يتحاورون بألفية ابن مالك، وما أنتجته مدرسة الكوفة وبماذا تختلف عن مدرسة البصرة، وما الفرق بين العقل والنقل، بل كان النقاش عن “حتى” يأخذ أيامًا وأحيانًا بضعة أسابيع وما أدراك ما “حتى“، فكان كل واحد يشعر أن الآخر فيه شيء من حتى، ولعلّ في النجف “شيء من حتى” وما يزال.
كلّ ذلك صَهَر تحسين معلّة وكوّن منه شخصيّة عامّة منفتحة ودودة، حتى وإن أبدى أحيانًا حدّة أو خشونة، لكن قلبه كان صافيًا ولم يعرف الحقد. كان أحيانًا يثور بسرعة كالبارود، لكنه يبرد بسرعة ويبتسم ويتراجع بثقة رجل بنفسه مقدّرًا عقل من يقابله.
أسباب واعتبارات
حين طلب منّي أ. حسنين معلّة أن أكتب عن عمّه د. تحسين معلّة، أوّل ما فكّرت به هو ما يجمعني معه، فضلًا عن صحبته، وقد سعدت لعدّة أسباب واعتبارات؛
السبب والاعتبار الأول – أنه يمنحني فرصة للكتابة عن صديق عزيز لم تسنح لي الفرصة لرثائه حينها أو للكتابة عنه، وهي ديْنٌ في عنقي، فحسنين هو الذي سيحرّرني من فكّ ديني، خصوصًا أنني كتبت عن العديد من الأصدقاء، فما بالك بأبي أحمد الذي أكنّ له تقديرًا واحترامًا، وقد اجتمعت وإيّاه في عدد من المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات، فضلًا عن الزيارات الخاصة، وأتذكّر منها دعوتي لعبد اللطيف الشوّاف، وكان من الحاضرين: عبد الكريم الأرزي وعبد الأمير علّاوي وعبد الغني الدلي وأحمد الجلبي وهاني الفكيكي ولطيف رشيد وتحسين معلّة وآخرين.
وكم من مرّة اجتمعنا وتناقشنا مع المفكّر البريطاني اليساري الفريد هوليداي الذي اصطحبه نوري عبد الرزاق ليسمعنا رأيه بخصوص: هل ستبدأ حرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991، أم أنها مجرّد ضغوط وتهديدات، وأن الغرب لا يغامر بشنّ هذه الحرب؟ وكان هذا رأيه، أما رأينا وهو ما جادلنا به هوليداي وهو الرأي الغالب مع بعض الملاحظات ، نوري وإياد علّاوي وصلاح عمر العلي وتحسين معلّة واسماعيل القادري وكاتب السطور، أن الغرب جهّز كل شيء وينتظر الإعلان فقط، وقد دخل في حرب مفتوحة ومعلنة… أمّا نتائجها فكنّا نختلف بشأنها.
أول لقاء لندني
وكان أوّل لقاء لنا في لندن في حفل تأبين الشخصيّة اليسارية سليم الفخري تشرين الأول / أكتوبر 1990، وحين سألني عن وجهتي بعد انتهاء حفل التأبين، قلت له إلى موردن Morden، حيث سكنت أوّل مرة منذ انتقالي إلى لندن، فقال أنّك على طريقي وإذا لم يكن لديك سيّارة سأوصلك معي، وكان هذا ما حصل، واستمرّ الأمر على هذا المنوال بعد كلّ لقاء أو اجتماع يوصلني إلى منزلي، وغالبًا ما كنّا نكمل حواراتنا فيه.
كان اللقاء الأول قد فتح أبواب الصداقة، خصوصًا من خلال المعرفة العائلية، وفي الطريق سألني عن خالي رؤوف شعبان، قلت له أنه النائب الأول لرئيس غرفة تجارة بغداد، فقال لي أنه زميله وكانا في ذات المرحلة الدراسية ومعهما حسن عوينة صديقنا الثالث (في ثانوية النجف)، ثمّ أضاف حتى حين كنت في كليّة الطب وهو في كليّة التجارة كنّا نلتقي أيضًا ومعه ابن عمّه معين شعبان أحيانًا. وسألني إن كان شقيق معين قد تخرّج من كليّة الطب وأين هو الآن؟ فقلت له أن ناهض شعبان أصبح طبيبًا منذ العام 1965 ولديه عيادة في الكاظميّة.
أخبرني أن خالي المحامي جليل شعبان أوصل له رسالة من شقيقه المحامي فاضل بعدم عودته إلى العراق، حيث كان ينوي العودة، وكان جليل قد حصل على قبول دراسي لاستكمال دراسة الحقوق في لندن العام 1962 ، وحين عرف فاضل معلّة شقيق تحسين ذلك يقول جليل شعبان: زارنا في بيت الوالد (الكاظمية – مقابل سوق حمّد) ويبدو أنه كان لديه شغل مع جدّك الحاج حمّود شعبان، فكلّفني بتوصية خاصة وشديدة، إبلاغ تحسين عدم عودته إلى العراق تحت أي سبب كان، حيث كان اعتقل أكثر من مرّة، الأولى بسبب عملية اغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية وحوكم أمام محكمة الشعب (المهداوي)، واعتقل مرّة أخرى بعد كبس أحد الأوكار الحزبية العائدة إلى حزب البعث في منطقة الطوبجي، حيث كان رقم سيارته معروفًا، وكانت زوجته تعمل في مؤسسة قريبة من هناك وهو يتردّد عليها، الأمر الذي أثار شكوكًا، لاسيّما بسبب تاريخه البعثي.
ويقول جليل شعبان، ما أن وصلت لندن حتى سألت عن عنوانه ورقم تلفونه واتصلت به عبر طالب من آل شمسة كان يدرس هناك وقد سبقنا إلى الدراسة في لندن، وأبلغته برأي فاضل وتوصيته الشديدة اللهجة.
وكان عمّي ضياء شعبان صديق تحسين معلّة مع أن الأول يميل إلى اليسار، وكم أبدى أسفه لوفاته وهو شاب، لكنه لم يسمع بخبر وفاة عمّي الدكتور عبد الأمير شعبان، وهو من أقدم الأطباء في العراق وأكبر من شقيقه فاضل الذي كان صديقًا لخالي ناصر شعبان وعمّي ضياء كذلك، وهم من أعمار متقاربة.
سيسيولوجية النجف
للنجف سيسيولوجية خاصة تجمع المتناقضات، فهي على طرف الصحراء بالقرب من نهر الفرات الذي يمرّ بالكوفة، ومن أسمائها “النجف الأشرف” تأكيدًا على قدسيّتها وتقدير الناس لها، “والغري” “ووادي السلام” و “المشهد” و “النجف السعيد“، وتكنّى ﺑ “خد العذراء“، وهي ملتقى الأطراف المحيطة بها من حضر وبدو وقبائل ووافدين ومللٍ ونِحلٍ، وفيها الحرم العلوي لحضرة الإمام علي بن أبي طالب، أي “الروضة الحيدرية” كما فيها أكبر مقبرة في العالم تسمّى مقبرة “وادي السلام” أو “مقبرة الغري“.
ويتجاور فيها الأضداد فتجد في البيت الواحد وفي الزقاق الواحد، متديّنون وشيوعيّون وقوميّون يتجادلون ويتحاورون ويتعايشون خارج دوائر الصراع المعروفة، وبعيدًا عن التخوين والتأثيم.
تمتدّ صحراء النجف إلى البادية الشاسعة الموصلة إلى المملكة العربية السعودية، وفي الوقت نفسه فالنجف هي الحلقة الموصلة إلى العمق العراقي بما يضمّه من حضارات في أور وبابل وآشور وأكد، حيث تمتدّ الحضارات إلى سبعة آلاف عام في التاريخ، وقد ظلّت النجف ميدانًا لصراعات البداوة والحضارة حتى وقت قريب باستعارة تعبير العلّامة الكبير علي الوردي وباستلهام الفكرة الخلدونية التي عمل على تطويرها.
والنجف هي رابع المدن الإسلامية بعد مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والقدس الشريف، وهي دار هجرة الأنبياء ومواطن الأوصياء، وبها نزل النبي ابراهيم الخليل، ودُفن فيها النبي هود والنبي صالح.
وفي النجف تأسست أول الجامعات في العالم، وتضاهي جامعتها جامعة الأزهر (القاهرة) وجامعة الزيتونة (تونس)، وهي امتداد لمدرسة الكوفة الشهيرة، وحسب ابن الأثير أن دراسة العلم في النجف بدأت منذ القرن الثالث الهجري. ووفقًا لبعض الدراسات المعاصرة تُعتبر النجف من أقدم الجامعات العالمية وأعرقها وأكثرها حريّة في البحث العلمي حسب محاضرة ألقاها رئيس الوزراء الأسبق محمد فاضل الجمالي في جامعة أكسفورد العام 1957، فمدرسة بولونيا (إيطاليا) وهي أشهر وأعرق جامعات أوروبا تأسست في العام 1119م، في حين التحق الشيخ الطوسي بجامعة النجف التي كانت قائمة العام 1027 المصادف 448 – 449ﻫ، وحسب تقديرات المؤرخين كانت جامعة النجف نشأت في حوالي العام 250ﻫ، أما الأزهر الشريف فقد شرع بتأسيسه العام 359ﻫ، أي بعد أكثر من مئة عام على قيام جامعة النجف.
في هذه الأجواء الروحانية العروبية نشأت وترعرعت العديد من الشخصيات النجفية التي أصبح لها شأن كبير ومن بينها الدكتور تحسين معلّة.
والشخصية النجفية ومن بينها تحسين معلّة على الرغم من تمسكها بعروبتها وتأثرها بالمناخ الإسلامي بشكل عام إلّا أنها شخصية منفتحة في داخلها ولا ترفض الآخر، وخصوصًا الغريب، بل تقبله وتسعى إلى إقامة العلاقة معه وافدًا أو دارسًا أو زائرًا وقد عبّر السيّد مصطفى جمال الدين في كتابه “الديوان” بوصف أجواء النجف الاجتماعية والثقافية بقوله “الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق“، فعلى الرغم من الطابع الاجتماعي المحافظ، إلّا أن الحريّة الفكرية والجدل والانفتاح على الآخر وقبول الجديد والسعي للتغيير كان دائمًا سائدًا فيها، بل يمثّل جزءًا من حياتها اليومية.
وهذا الجدل لم يقتصر على النخبة فحسب، بل كان لدى العامة أيضًا، ومن تأثيراته كان انتقال بعض دارسي الحوزة إلى الميدان المدني، مثل سعد صالح جريو وأحمد الصافي النجفي والجواهري والخليلي وغيرهم، فضلًا عن بعض اللبنانيين الذين درسوا في الحوزة ومنهم: حسين مروّة ومحمد شرارة وآخرين.
ولهذا لا يمكن اعتبار النجف مدينة دينية فحسب، فهذه نصف الحقيقة، لأنها مدينة مدنية تتطلّع إلى الحداثة والتجديد، على الرغم من الطابع العام الذي يُظهر محافظتها، وتتشابك هاتين الصفتين المتصارعتين (التقليد والحداثة) على نحو متعاشق فيها وفي إطار هارموني منسجم ومتناسق، وبفضل ذلك احتلّت هذه المكانة وتبوأت هذه المنزلة منذ أكثر من 1000 عام، فهي حاضرة للفكر الإسلامي مثلها مثل الأزهر الشريف.
والنجف ككل هي عبارة عن معهد دراسي وسوق عكاظ شعري، حيث يتنزّه الشعر في شوارعها ويندلق من مياه الشرب المنتشرة في أزقّتها وحول مرقد الإمام علي بالقرب من الصحن الشريف. والشعر في النجف فاكهة لكل المواسم والمناسبات في الأفراح والأتراح، وترضعه الأم مع الحليب لأبنائها، وقد أحصى الشيخ محمد رضا الشبيبي نحو 200 شاعر في مدينة لم يكن يزيد عدد نفوسها قبل 200 عام ونيّف عن 30 ألف نسمة، وذلك في موسوعة الغري الشعرية.
حضرة الإمام علي
السبب والاعتبار الثاني – أن العائلتين تنتميان إلى فئة واحدة وهي التشرّف في خدمة الإمام علي منذ قرون في الحضرة العلويّة وهو حقّ حصريّ لعدد من العشائر والبيوتات العربية دون غيرها، وإن كانت كوكبة لامعة من أبنائهما اختارت طريق العلم والدراسة الرسمية والمدارس الحديثة، فأصبح يُشار إليهم بالبنان في شتّى الفروع والاختصاصات. جدير بالذكر أن العوائل العربية المعتبرة والتي تختصّ بالخدمة هي آل الرفيعي ” الكليدارية”، أمّا رئاسة الخدمة فهي ﻟ آل شعبان ، حيث لهم “السر خدمة” (وهي كلمة تركية وتعني رئيس الخدم – أمين السر)، وخدم الحضرة هم من آل الحكيم وآل كمونة وآل شمسة وآل الخرسان وآل زوين وآل القابجي وآل عنوز وآل الخياط وآل شريف وآل الكيشوان وآل معلّة ( وللعائلتين الأخيرتين القيام بمقام الكيشوانية أي تقديم الخدمة للزائرين بحفظ أحذيتهم ومقتنياتهم أثناء زيارتهم لحضرة الإمام علي).
وترتبط عائلتانا بوشائج صداقة عديدة، كما أرتبطُ شخصيًا بصداقة عدد غير قليل من آل معلّة المعروفين بميولهم القومية، في حين أن عائلتنا معروفة بميولها اليسارية. وكانت هذه العلاقات في الحضرة وخارجها، وهي مصدر اعتزاز واحترام متبادل، علمًا بأن الحضرة كانت بعيدة عن تداخلات الحكومة وهي أقرب إلى الاستقلالية وتدير نفسها بنفسها عبر تنظيم متوارث. والخدمة فيها كانت تاريخية وفقًا لفرامين سلطانية منذ قرون من الزمن منذ عهد الدولة العثمانية. وعُرفت مؤسسة الروضة الحيدرية بعمقها الشعبي وهي أحد الروافد المهمة بعد الحوزة الدينية، إضافة إلى الرافد الثالث وهو أصحاب المنابر الحسينية، سواء كانوا خطباء وقرّاء وشعراء.
واستمرّت الحضرة العلويّة والحضرات الأخرى في كربلاء والكاظمية وسامرّاء وغيرها في وظيفتها بتوارث الخدمة حتى الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، حيث جرى نقل العديد من المنتسبين إليها إلى وظائف أخرى في الأوقاف، وتشتّت شمل المجموعة العربية التي تولّت خدمة الحرم العلوي منذ قرون من الزمن، واستعيض عنها بما سمّي مجلس أمناء بعد تقسيم وزارة الأوقاف إلى ديوان الوقف الشيعي وديوان الوقف السنّي ودواوين للأوقاف المسيحية والإيزيدية والصابئة المندائية، حيث عملت الجماعات والأحزاب الإسلامية الشيعيّة والسنيّة للحصول على مواقع نفوذ في المراكز الدينية، وحصلت منافسات لا مشروعة وتجاوزات سافرة بشأن الأوقاف، بما فيها في مقامي سامرّاء (الإمامان علي الهادي والحسن العسكري)، علمًا أن مجلس النواب أقرّ قانونًا لإدارة العتبات المقدّسة والمزارات الشيعيّة في عام 2005، الأمر الذي فتح الشهيّة لضم هذا الجامع أو ذاك إلى هذا الديوان أو ذاك، لاسيّما بالغلبة (القانون رقم 19، 26 كانون الأول / ديسمبر 2005).
وفي وقت لاحق أقرّ قانون جديد وضع عبارة “المرجع الأعلى” للمصادقة على الحق الذي منحه القانون لرئيس ديوان الوقف الشيعي في تعيين كبار مديري العتبات بعد الحصول على موافقته أي موافقة (المرجع الأعلى للطائفة الشيعية دون أن يذكره بالاسم) ، وقد أثير كلام كثير حول الأوقاف ووجّهت إليه اتهامات عديدة بالفساد وغيرها. ويمكن الاطلاع على كتابنا “دين العقل وفقه الواقع – مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي“، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، 2021.
وجدت في هذا الاستطراد توضيحًا لأسئلة كثيرة بشأن حضرة الإمام علي والعاملين فيها تاريخيًا، فهي إحدى الروابط التي قامت بين آل شعبان وآل معلّة، إضافة إلى الامتداد إلى ما هو أبعد من ذلك بين الآباء والأجداد، فقد كان والدي عزيز شعبان صديقًا لصالح معلّة والد الصديق حسين معلّة السفير لاحقًا، وإخوته وهم من الأصدقاء وأبناء المحلّة، وقد ذهبت والدته إلى الحج مع والدتي في حملة واحدة، وهو ما ذكّرني به خلال لقائي به في طهران العام 2001 في المؤتمر الخاص بمناهضة العنصرية، تمهيدًا لمؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا)، وكان هو قادم من بغداد، في حين كنت أترأس وفدًا عربيًا وسُمح لي حينها من بين 5 شخصيات آسيوية أن ألقي كلمة باسم العرب، أمام اجتماع الحكومات الآسيوي الإقليمي الدولي، فشدّدت على عنصريّة الصهيونية وعنصريّة ولا إنسانية الحصار على العراق.
أحزاب شمولية
السبب والاعتبار الثالث – أننا انتمينا إلى أحزاب شمولية، هو إلى حزب البعث وأنا إلى الحزب الشيوعي، وكان ذلك ديدن الجيل الذي سبقنا، وهو جيل معلّة وجيلي الذي سار على ذات الاتجاه، وحسب سيرته وما سمعته منه، فقد تململ كثيرًا وحاول التمرّد وعاد وواصل وانقلب، ثمّ اختار المنفى، حيث لا خلاص ولا إمكانية في الحفاظ على النفس إلّا عبر ذلك، وأنا الشريد كنت أيضًا أطيق ولا أطيق الشموليّة والالتزامات الثقيلة والأوامرية والقرارات الفوقية، وأبحث باستمرار على ما يرضي عقلي وضميري أوّلًا قبل أي اعتبار آخر، وذلك عبر فسحة الحريّة التي أعطيتها لنفسي وللآراء التي أحاول التعبير عنها بما يدعو للنقد والاعتراف بالتنوّع وقبول الآخر، فمن الاعتقال إلى الفصل، ثم الاختفاء، ثم المنفى، وبعدها العودة، والاعتقال والاستدعاءات المتكرّرة، ثم إلى المنفى مرّةً أخرى، ومنها إلى كردستان نصيرًا وكاتبًا ومنشغلًا بالعمل الفكري والحقوقي، ومنه إلى المنفى كذلك.
وفي فترة النفي داهمتنا الحرب العراقية – الإيرانية بتعقيداتها وتفريعاتها وتعارض المواقف بشأنها، ثم غزو الكويت وما رافقه من اصطفافات جديدة للمعارضة وهي الفترة التي توطّدت فيها علاقتي مع تحسين معلّة.
مراجعة التجربة
كان بودّي لو أسعف العمر تحسين ليُجري مراجعات لتجربته، فهو يمتلك جُرأة أدبية وثقة بالنفس وكان قادرًا على قول الكثير من الحقائق بما فيها بعض الخفايا والخبايا عمّا عرفه وما اختزنه وما حصل عليه من معلومات وما اكتنزه من وقائع وما اطّلع عليه من حقائق ما يزال الكثير منها طي الكتمان، لأن كثيرين يحجمون عن قول كلمتهم لاعتبارات كثيرة. ولاحظت ذلك في العديد من المذكرات التي كُتبت، فهناك الكثير من التردّد وعدم الإفصاح بما فيه المرور سريعًا على محطات مهمة.
وبودي أن أنوّه إلى الكتاب الذي أعدّه الصديق سيف الدوري والموسوم “تحسين معلّة – من الذاكرة“، دار الحكمة، لندن، 2018، وردت فيه إشارات أولى هي أقرب إلى عناوين، وكلّ عنوان منها يصلح لفصل أو لكرّاس أو حتى كتاب، فتحسين معلّة يملك الكثير من الأسرار والمعلومات.
دعوة عفلق
عاد تحسين من لندن التي توجّه إليها بعد إطلاق سراحه العام 1962، عبر بيروت إلى بغداد، وذلك إثر انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 والتقى فيها بميشيل عفلق الذي كان يناديه “بالحكيم” كونه طبيبًا على عادة أصحابنا الشوام، وعرض عليه المجيء إلى بغداد، لأن “الجماعة” تجربتهم محدودة وهم ما زالوا شبابًا وسوف يتعرّضون إلى أخطاء كثيرة وربّما خطيرة… وهم لا يقبلون نصيحة أحد سوى من قبلك ، أنت ميشيل عفلق، واقترح عليه فتح منزله للناس في بغداد وتقديم النصح والتوجيه، وهو ما دوّنه في كتابه الخاص بمذكّراته، الذي أعدّه سيف الدوري.
ولعلّ تحسين أدرك ثقل المسؤولية، مثلما كان يعرف حماسة واندفاع رفاقه وربّما رغبتهم في الثأر والانتقام وحكم البلاد بالحديد والنار، فحاول باقتراحه مجيء عفلق الحد من ذلك، لكنّ عفلق كما يقول (خيّب آماله حسب ما دار بيننا من حوار العام 1993 في لندن) ورفض الفكرة وتعذّر بوجود بعض الأمور التي تحول دون ذلك، ولكنه قال في النهاية سأتوجّه إلى بغداد، وسأله إذا كان مناسبًا أن يرافقه صلاح البيطار، فأجابه لا تجلبه معك لأنهم لا يرغبون رؤيته بسبب توقيعه على وثيقة الانفصال (انتهى الاقتباس).
ويتحدّث تحسين عن التجاوزات غير المقبولة من قيادات حزبية كما يسمّيها، ومنها كيف صفع منذر الونداوي، باسل الكبيسي زعيم حركة القوميين العرب، وقد شعر إثر ذلك بحالة من الغضب والاستهجان، وذهب محتجًّا إلى مقر المجلس الوطني لقيادة الثورة والتقى محسن الشيخ راضي وأبلغه بالحادث فنفى علمه، لكنه بعد النقاش قال له ربّما عاد منذر الونداوي من مجلس فاتحة أقيمت للضابط وجدي ناجي الذي قُتل أمام وزارة الدفاع، وكان منفعلًا فضرب الكبيسي سطرتين (كفّين).
حكاية قصر النهاية
لكن القصّة الأهم لم تتم روايتها كاملة، فقد طلب منه حمدي عبد المجيد (أصبح أمينًا لسر القيادة القطرية لفترة قصيرة) أن يتوجّه إلى “قصر النهاية” لفحص المساجين الشيوعيين، والمقصود بذلك “قصر الرحاب” الذي كانت تسكن فيه العائلة المالكة والذي تحوّل بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 إلى دائرة السياحة، ثم إلى مقر مكتب التحقيق الخاص أو “اللجنة التحقيقية العليا” وترتبط بها المكاتب الفرعية مثل مركز تحقيق قاعة الشعب (محكمة الشعب سابقًا)، ومركز المأمون والنادي الأولمبي ونادي النهضة ومركز الجعيفر، وهكذا تحوّلت الكثير من المرافق العامة والنوادي الرياضية إلى مقرّات للتعذيب، وكان أكثرها بشاعةً “قصر النهاية” الذي اعتبر معتقل العذاب والموت وأعدم فيه العديد من القيادات الشيوعيّة وفي مقدّمتهم أمين عام الحزب “سلام عادل“.
جدير بالذكر أن دائرة السياحة (قصر الرحاب) تولّاها رشيد مطلك، صديق الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي كان وسيطًا بينه والضباط الأحرار، وبين الحركة الوطنية العراقية، بما فيها الحزب الشيوعي، حيث كان يتّصل بعامر عبد الله، وتحوّل المكان بعد 8 شباط / فبراير 1963 إلى “قصر النهاية”.
كان المشرف على قصر النهاية مدحت ابراهيم جمعة، أما المسؤول عن مكتب التحقيق الخاص فكان محسن الشيخ راضي يعاونه هاني الفكيكي، وتشكّل هذا المكتب كما عرفت من الصديق القيادي البعثي عبد الستار الدوري، إثر شكاوى كثيرة على مدحت ابراهيم جمعة، لكن الأمور استمرّت في غاية السوء، فقد كان المشهد السائد هو الثأر والإنتقام، خصوصًا بتفشّي ثقافة الكراهية والإقصاء والإلغاء وتحطيم الآخر.
حين ذهب تحسين إلى قصر النهاية وجد العديد من قيادات الحزب الشيوعي، في مقدّمتهم سلام عادل (الأمين العام) وعدد من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية والكوادر المتقدّمة، وهم جميعهم تعرّضوا إلى تعذيب بشع.
يقول تحسين معلّة: وجدت سلام عادل (حسين أحمد الرضي) نائمًا وسط القاعة طاويًا نفسه على الأرض معصوب العينين ومدمّى (وقد لملم بعضه على بعضه)، وعبد الرحيم شريف العاني بنفس الحالة وكذلك حسن عوينة الذي كان صديقه وابن صفّه ومدينته وعبد القادر اسماعيل وحمدي أيوب وآخرين لا يتذكّرهم كما قال لي، وكان الجميع بحالة يرثى لها وينامون بشكل مباشر على أرضية السرداب، كما يذكر في أوراقه التي أعدّها للنشر سيف الدوري.
درس وعبرة
يقول معلّه أنه شعر بالخجل والضآلة، وقد تحاشى الحديث مع حسن عوينة زميله وابن مدينته في الصف الدراسي بثانوية النجف، بل والنظر إليه، ولم يستطع مواصلة الحديث مع عبد الرحيم شريف لأنه عديل عبود معلّة، وعبّر عن شعوره بأنه لم يكن يتمنى رؤية هذا المشهد أو حضور هذه الاستباحة الجماعية للكرامة الإنسانية، حيث اهتزّت كلّ القيم المبدئية التي آمن بها، فما قيمة المبادئ حين يكون الطريق لتحقيقها عبر وسائل دنيئة، وكما أخبرني بأن ثمّة كوابيس كانت تزوره وتكدّر عليه نومه، وظلّت تطلّ عليه بين الفينة والأخرى.
حاول تضميد جراح المعذّبين في الردهات المختلفة وكتب أدوية لبعضهم واستمرّ في زيارتهم لمدّة أسبوع كامل. وحسبما قال لي كان تتنازعه فكرتان أولّهما أنه يقوم بواجبه كطبيب، وثانيهما كيف ينظر إلى المعتقلين؟ ثم كيف كانوا ينظرون له؟ وعلى الرغم من الجانب الإنساني والتعامل الطيّب وتقديم الرعاية، إلّا أن عيون المعتقلين كانت تنظر إليه بريبة، وتعتبره منهم وأنه مسؤول أيضًا، حتى وإن شكره عبد القادر اسماعيل وحمدي أيوب أثناء إجبارهما على الظهور في ندوة تلفزيونية.
يقول معلّة “كانوا جميعهم قد تعرّضوا إلى تعذيب وحشي للغاية، كان رأس أحدهم مضروبًا وقد غطّته الدماء فأعطيته الأدوية، وآخر مجروحًا فقمت بتضميد جراحه ومنهم من يعاني آلام في المعدة، فوصفت له الأدوية الضرورية…”.
ويتذكّر بألم شديد وحزن كبير تلك الأيام العصيبة التي لا يريد أن ينساها، وردّد على مسامعي أكثر من مرّة قوله في لوم نفسه: لماذا لم أترك كلّ شيء وأتّجه إلى الطب فقط، على الرغم من أن السياسة والمبادئ التي آمنّا بها كما يقول لا تتّفق مع ما قام به الحرس القومي، ولات ساعة مندم، وذلك حين التقى د. محمد الجلبي زوج بثينة شريف التي سبق لي أن رويت معاناتها ومأساتها في مقالة بعنوان ” بثينة شريف: سلاماً للروح الحيّة” والتي نشرت في صحيفة الزمان العراقية في 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2018، وكان قد عاد لتوّه من شهر العسل في البصرة وهو أحد قيادي الحزب ومسؤولًا عن ماليته، وكان قد تعرّض لتعذيب رهيب وهو جالس على الأرض ويداه معقوفتان وجروح تنزف منه من الأعلى والاسفل فقال لي: دكتور افحصني لأنني بحاجة إلى غذاء، يجيبه تحسين أنه طبيب وليست لديه مسؤولية في التحقيق، وقضية الطعام من صلاحية المحقّقين وليست من صلاحية عملي، فأجابه الجلبي: عفوًا، وقد أعاد وسرد ذلك في مذكّراته المشار إليها، ولعلّ هذه الحادثة كانت الأكثر ألمًا لديه كما يروي كيف جلبوا هاشم جواد وزير الخارجية الأسبق ووجد وجبة عشاءه، خبز وتمر.
أما الحادثة التي أفقدته رشده كما يقول: كنت عند مدحت ابراهيم جمعة وجيء برفيق منكم اسمه كوركيس وأمر جمعة الحرس بأخذه ولا أعرف إلى أين؟ ثمّ سمعت صراخًا وتوجّعًا بصوت عالٍ فذهبت إلى الغرفة المجاورة ووجدته معلّقًا من يديه بمروحة السقف الهوائية وهم يتناوبون على ضربه دون توقّف وكانت الدماء تنزف من جسمه كالشلال.
يقول تحسين “أصبت بصدمة أفقدتني رشدي واختصمت مع مدحت وتركت المكان بلا عودة وأنا مصاب بالدوار، ولا أتذكّر كيف تمكّنت من الوصول إلى المنزل”. ويستمر تحسين في سرديّته: بعد أن يقرّ بأن عبد الرحيم شريف ومن عالجهم كانوا في غاية الصلابة ومنهم محمد الجلبي، وقد شاهد خلال وجوده حالات تعذيب نادرة وضرب مبرح للمعتقلين وإهانات وإساءات، فقرّر ألّا يعود إلى قصر النهاية، وظلّ الأسبوع الذي قضاه في زيارة المعتقلين “في ذاكرته لا يبرحها”.
وحين يتذكّر قصر النهاية يطلق عليه “المسلخ البشري“، وقلت له في أحد المرّات نحن كنّا من أطلقنا هذه التسمية، فقال وهو بحق مسلخ بشري.
لمن المُشتكى؟
وقد اشتكى ذلك إلى عفلق، بما فيها الأوضاع العامة التي أخذت تزداد سوءًا، لكن عفلق طمأنه بأنها ستتعدّل، وكان هو يعرف ما يجري وبدأ يفقد ثقته بأن الانهيار قادم لا محال، ولم يكن يرغب أن يتورّط في ذلك.
يقول تحسين “قلت لعفلق الذي التقيته مرّة أخرى في أيلول / سبتمبر 1963 في فندق الإمباسادور في بغداد، وكان قد ذهب إليه برفقة محمد محجوب الذي كان يشاطره الرأي بأن الحزب انتهى إلى غير ما دعا إليه وتلك كارثة كبرى، وهنا خاطب عفلق بقوله “إن نوري السعيد حكم العراق أربعين عامًا، ولكنه لم يوصل البلاد إلى المستوى السيء الذي أوصلوه إليه جماعتنا خلال شهرين، وأن هؤلاء لن يطول بهم الأمد في الحكم، وأفضل شيء تفعله هو أن تأخذهم معك إلى سوريا وتجعلهم وزراء أو ملائكة أو أنبياء عندك، لتنقذ العراقيين منهم“.
وكان جواب عفلق: لنرى.. لنرى، و وبالمناسبة فعفلق هو دائمًا قليل الكلام ولا يعطي رأيًا، وإذا اضطّر إلى ذلك فلا يقول شيئًا يُذكر. وكان رأي تحسين أن القيادة القومية وإن لم تكن راضية على سلوك القيادة القطرية والقسوة التي استخدمتها وانتهاك القوانين واعتقال عشرات الآلاف وتعذيبهم، إلّا أنها لم تحرّك ساكنًا، وهي والحالة هذه مسؤولة أيضًا.
وقد نقل لي الصديق صلاح عمر العلي (1991)، الذي كان عضوًا في القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة ووزير الإعلام والثقافة، وفيما بعد ممثل العراق في الأمم المتحدة، أنه ذهب إلى عفلق في باريس أواخر الثمانينيات وطلب منه باسم مجموعة من البعثيين العراقيين والعرب أن لا يذهب إلى بغداد، لأن وجوده فيها سيكون تزكية لصدّام حسين شخصيًا، خصوصًا وأنه ازداد ارتكابًا ودمويّةً، لاسيّما بعد مجزرة “قاعة الخلد” بحق رفاقه، ثم جاءت الكارثة الكبرى، “الحرب العراقية – الإيرانية“، التي راح ضحيّتها مئات الألوف من العراقيين، وقد وعده بذلك على أن يذهب لمرّة واحدة ولا يبقى هناك، ولكن بعد شهرين ألقى عفلق خطابًا في بغداد كان أقرب إلى “الصاعقة التي وقعت على رؤوسنا” حين قال “صدام حسين هبة السماء إلى البعث، وهبة البعث إلى الأمة العربية“، كما ذكر العلي (انتهى الاقتباس).
ولعلّ قبول عفلق بمنصب الأمين العام الشكلي ودون صلاحيات، ومبالغته في تمجيد صدام حسين الذي سبق له أن عيّنه في القيادة القطرية (1964)، وصمته تجاه حكاية المؤامرة التي أُعدم فيها عبد الخالق السامرائي وخمسة من أعضاء القيادة وعدد من الكوادر، وحُكم على قياديين آخرين وكوادر متقدّمة بأحكام غليظة، كانت خطيئته الكبرى، علمًا بأنه أسّس حزبًا على مقاساته وتطلّعات زمنه، واستلم هذا الحزب السلطة في بلديين عربيين، وأصبح مشروعًا قوميًا عربيًا كبيرًا، لكن ذلك لا يمنع من أنه ظلّ أسيرًا طيلة نحو عقدين من الزمن، حتى وإن بقيَ حالمًا ورومانسيًا، وتلك هي صفاته لبعض من عرفه عن قرب، وإن ظلّ البعض الآخر يبرّر له تلك الأخطاء أو الخطايا، ويعتبرها من مفردات تلك المرحلة.
إثنان واجها عفلق
إثنان من القيادة البعثية العراقية واجها عفلق على حدّ علمي:
أولهما – خالد علي الصالح الذي سأله لماذا تخلّيتم عن الحزب في سوريا واتخذتم قرارًا بحلّه؟ أجابه عفلق من أجل الوحدة، فقال له: وما هي ضمانة الوحدة العربية؟ أليس الحزب؟ فكان جواب عفلق: عبد الناصر هو الضمانة، فعلّق الصالح: لا أعرف منذ متى أصبح عبد الناصر رئيسًا للحزب ليكون ضمانة للوحدة، فتكهرب الجو في ظلّ عدم تعليق أحد من أركان القيادة القطرية العراقية.
وحين انتهى الاجتماع الذي انعقد في فندق بغداد بعد أيام من نجاح ثورة 14 تموز / يوليو 1958، اصطحبه سعدون حمادي بسيارته، وعلّق على المجادلة بينه وبين عفلق قائلًا له: أنت الآن أقوى شخص في حزب البعث، فقال له: كيف؟ قال: أنت مسؤول بغداد وهي أكبر منظّمات الحزب، وأنت جادلت عفلق ومن له أن يجادله، وقد حضر ذلك الاجتماع قيادة حزب البعث، من بينهم فؤاد الركابي وفيصل حبيب الخيزران وآخرين في فندق بغداد. وهو ما يرويه في كتابه “على طريق النوايا الطيّبة“، دار رياض الريّس، بيروت، 2001. (ويمكن الاطلاع على تقريضنا للكتاب في مجلّة المستقبل العربي، العدد 349، آذار / مارس 2008)
وثانيهما – تحسين معلّة، حين حمّله مسؤولية السكوت على تصرّفات القيادة البعثية العراقية باللغة المباشرة والصريحة والحماسية التي اتّسمت بها مجادلات تحسين معلّة. ولأن تحسين معلّة من الرعيل الأول، وعضو أول قيادة قطرية، وكان الشخص الثاني فعليًا لأنه مسؤول التنظيمات ومسؤول العلاقات (قبل تجميد نفسه بسبب خلافات داخلية العام 1956)، فقد كان يشعر بمسؤولية أكبر من زملائه من الرعيل الأول: فؤاد الركابي وفيصل حبيب الخيزران وشفيق الكمالي وصالح مهدي عمّاش وعبد الله الركابي وسعدون حمادي وخالد علي الصالح وشمس الدين كاظم وصالح شعبان وآخرين.
البعث: غرام وانتقام
مرّة ثانية أتوقّف بمسؤولية عند أهمية مراجعة التجربة، ﻓ “النهايات مفتوحة دائمًا والبدايات مغلقة” حسب سعدي يوسف فلو سمح الوقت لتحسين معلّة أن يجري مراجعة لمسيرته الطويلة في حزب البعث ولمسيرة الحزب بشكل عام، على الرغم من عمله على معارضة سلطته لاحقًا، لكان أغنى الكثير من الوقائع والمعطيات، بحيث تكون مادة مهمة لدراسة التاريخ السيااجتماعي للعراق، بما فيه تاريخ حزب البعث وصراعاته مع الأحزاب والقوى الأخرى، لاسيّما صراعاته واحتراباته الداخلية.
ومن المفارقة أن تحسين معلّة عمل في حزب البعث مبشّرًا وداعيةً ومنظّمًا وقائدًا لنحو ربع قرن، ولربع قرن آخر عمل ضدّ سلطة البعث معارضًا بهدف تقويضها بما فيه التعاون مع خصوم البعث.
أعتقد أننا بغضّ النظر عن انتماءاتنا السابقة يسارية – شيوعية – ماركسية أم قومية – بعثية – ناصرية أم إسلامية دعويّة أو إخوانية، بحاجة إلى مراجعة التجربة بما لها وما عليها، خصوصًا إذا توقّفنا عند جوانبها الفكرية، فضلًا عن العملية، فلا قيمة للتجربة إلّا بنقدها، وحسب نيتشه: ليس هناك فكر ولا فلسفة إلّا وهي تخضع للنقد، لأن ما يخضع للنقد لا بدّ أن يحتوي على حد أدنى من العقل والمنطق.
لقد أخطأنا أحزابًا وأفرادًا، لاسيّما بالتسليم للفكر الشمولي والنظام الشمولي والترويج له، حتى وصل الجميع إلى طريق مسدود وانكشف وهم الأيديولوجيا وتأثيرها المخدّر وإن كان البعض ما زال متشبّثًا بها وبذيولها بنصيّة وجمود لا حدود لهما، وأحيانًا بابتعاد واغتراب عن روحها وجوهرها وإن ظلّ متمسّكًا بالعنوان واليافطة والإطار دون المضمون والمحتوى والصورة. وكانت المرارة والخيبة والخذلان من نصيب الجميع من دون استثناء، حتى وإن كان البعض يكابر بزعم الحفاظ على نقاوة النظرية وصحّة السياسة التي تثبت الأيام صوابها، الأمر الذي يحتاج إلى مراجعة صادقة وصريحة وجريئة ونقد ذاتي نحن أحوج ما نكون له من جانب من يعنيهم مواكبة روح العصر والتقدّم، خصوصًا الاعتراف بوجود أزمة فكر وأزمة ممارسة وأزمة إدارة (قيادة)، وهذه أزمة مركّبة ومستفحلة ومعتّقة، لأنها أزمة عضوية وبنيويّة، والمعالجة تبدأ من الاعتراف بالأزمة فهي الخطوة الأولى، والإقرار بالفشل والمسؤولية في تحمّل تبعاته وعلينا البحث في سبل مواجهة الأزمة بأدوات جديدة ومنهج جديد ينبذ الواحدية والإطلاقيّة وادّعاء امتلاك الحقيقة واحتكارها، والزعم بالأفضليات على الأخر.
الشرعية والمشروعية
ولا بدّ من الاعتراف بالغير على قدم المساواة والاقرار بالتنوّع والتعدّدية والبحث عن المشترك الإنساني، بما يقرّب من قيام نظام يحظى برضا الناس وقناعاتهم بما يحقّقه لهم من منجز اقتصادي واجتماعي وثقافي في أجواء تطوّر سلمي، فذلك يمثّل ذروة الشرعية.
أما المشروعية، فهي التمسك بحكم القانون الذي ينطبق على الحاكم والمحكوم على حدّ سواء، وإذا ما سارت الشرعيّة والمشروعيّة في خط متوازي، فهذا يعني الاقتراب من مبادئ العدل والمساواة وقيم السلام والحريّة والجمال.
الغاية والوسيلة
لقد بيّنت التجربة الإنسانية أن لا قيمة لأي فكرة نبيلة، سواء العروبة أم الوحدة العربية أم تحرير فلسطين، وهي شعارات البعث الأولى، إذا لم تتبع وسائل نبيلة لتحقيقها، والأمر ينطبق على الآخرين بذات الدرجة، فما قيمة الحديث عن مصالح الكادحين وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان إذا لم تتّبع الوسائل النبيلة للوصول إلى ذلك، لذلك فشلت التجارب الكبرى في بلدان الأصل (الاشتراكية) وفي بلدان النوع (أنظمة التحرّر الوطني) التي اقتفت أثرها ومنها التجارب البعثيّة والناصريّة واليمنيّة والجزائريّة والليبيّة وغيرها، والأمر يمتدّ إلى التيّار الإسلامي، فالدعوة إلى إقامة دولة الإسلام لا يتمّ إلّا بأساليب نبيلة، لأن الوسيلة من شرف الغاية، ولا غاية شريفة دون وسائل شريفة، وهما مثل البذرة إلى الشجرة حسب المهاتما غاندي، لا انفصال بينهما لأنهما مترابطان عضويًا.
وإذا كانت الغاية بعيدة المدى والمنال وغير ملموسة أو قريبة وأحيانًا تكون الغايات متشابهة أو متقاربة بعموميّاتها، فالوسيلة هي التي تواجهنا وهي التي نتعرّف عليها، وهذه إذا كانت قاسية وعنيفة ولا إنسانية، فما قيمة الادعاء بإنسانية وقدسية وسلمية الغاية، طالما الوسيلة خسيسة، وكيف يمكن تحقيق حلم التغيير بالتعذيب والعنف وإلغاء الآخر ومنع حقّه بالتعبير، بفرض الصوت الواحد واللون الواحد والذوق الواحد والحزب الواحد، وبالطبع الزعيم الواحد؟
الاقصاء والإلغاء وعدم الاعتراف بالآخر وحجب حقّه في التعبير تحت أي مبرّر كان، قومي، أممي، إسلامي، لا علاقة له بشرف الغايات وقدسية المبادئ، وهذه الأخيرة لا تثني الإنسان أو تمنعه من ارتكاب المعاصي، خصوصًا إنتهاك الآخر أو حجب حقه وممارسة وسائل لا إنسانية لإذلاله، بما فيها كبت الحريّة والتعذيب والقتل. ومثل هذه الوسائل لا تجبر الآخر على الرضوخ أو الخنوع أو التخلّي عن معتقداته، وإنما تنزع ما تبقّى من إنسانية من يقوم بها، فما قيمة هزيمة الآخر في ظلّ نصر أشدّ عارًا من الهزيمة ذاتها.
لم يكن تحسين دمويًا، حتى وإن عاش في حركة كان طابعها الغالب يميل إلى الانقلابات واستخدام العنف، خصوصًا بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، ولا سيّما بعد العام 1963، وبعد الصراع السياسي والمنافسة غير المشروعة بين الشيوعيين والبعثيين، حيث كان المعيار هو: من أكثر قدرة على ممارسة العنف؟
وليس عبثًا ضم صدّام حسين إلى زمرة التنفيذ باقتراح من عبد الخالق السامرّائي بعد إلغاء شاكر حليوة الذي تمّ فصله عشيّة حادث اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، لأنه عُرف تاريخيًا بالعنف، ولاسيّما اغتيال أحد أقاربه من اليساريين (الحاج سعدون التكريتي)، وكذلك بقدراته العنفيّة التي تعني أحيانًا في العرف السائد “رجولة” و”شجاعة”، في حين أن صفة الشجاعة إيجابية، أما العنف هو صفة سلبية، وقد ضمّت المجموعة كل من سليم عيسى الزئبق وسمير عبد العزيز النجم وحاتم العزاوي وعبد الوهاب الغريري (قتل خلال المواجهة خطأ) وعبد الكريم الشيخلي وأحمد طه العزّوز، كما يذكر الصديق مهدي السعيد في مقابلته المهمة لتحسين معلّة في جريدة الحياة المشار إليها.
ذكريات موجعة
لقد تركت تجربة قصر النهاية ذكرى موجعة في نفس تحسين، وقد عبّر لي أكثر من مرّة عن تبرّمه وألمه وحزنه، فقد عاش حالة صراع بين إنسانيته وبين مصالح الحزب وأهدافه ومبادئه التي آمن بها واعتبرها المنقذ للأمّة العربية، وظلّت هذه الإجابات حائرة حتى بعد مرور سنوات، فتراه يبرّر أحيانًا ردود الفعل العام 1959 وما حصل في الموصل وكركوك من مجزرتين وما تعرّض له حزب البعث من جانب نظام قاسم والحزب الشيوعي، لكنّ حلقه يمتلئ بالمرارة حين يتحدّث عن قصر النهاية. وذكّرتني حيرة تحسين بما عبّر عنه جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي، بقوله: هل يجب أن أقول الحقيقة، فأخون البروليتاريا أم يجب أن أخون الحقيقة بحجة الدفاع عن البروليتاريا؟ وتلك معضلة العقل الحزبي والتصادم بين الضمير والواقع، وبين المصلحي والمبدئي، وبين الرأي والخنوع.
وقد ذكر لي أنه حاول مناقشة محسن الشيخ راضي الذي كان مسؤولًا عن الهيئة التحقيقية العليا، لكن التوّجه العام كان هو العنف باعتباره أقصر الطرق للحصول على الاعترافات وإذلال العدو أو الآخر وإنهاء مقاومة الحركة الشيوعية للانقلاب البعثي وحملها السلاح بوجهه.
ودائمًا في الأحزاب الشمولية لا قيمة لرأي الفرد مهما كان موقعه، فالقرار الصادر باسم الجماعة من أعلى ومن بيده السلطة هو الذي يسود، وتضيع في صخبه النوايا الطيبة والرغبات الصادقة والتوجهات الإنسانية والدعوات المرنة، ولا أحد يسمع بها في ظروف العمل السرّي أو طبقًا لما يسمّى بالمركزية الديمقراطية التي أخذها البعث بحذافيرها تقريبًا من الشيوعيين ومن كتاب لينين – ما العمل؟ الصادر في العام 1902 كما أخذها الإسلاميين أيضًا، وهكذا صارت الأحزاب القومية والإسلامية لينينية، بل ستالينية، حيث التنظيم الحديدي وخضوع الأدنى للأعلى والأقلية للأغلبية والتنفيذ اللّاشرطي لقرارات القيادة، تحت عنوان “نفّذ ثمّ ناقش” لتحقيق وحدة الإرادة والتنظيم.
وحتى لو توفّرت نزعات لاعنفيّة ورغبات حوارية أو مباراة سلمية في الأفكار لدى هذا أو ذاك، فإن ما هو سائد هو الذي شكّل المشهد المهيمن، وكنت قد سألت محسن الشيخ راضي عن تعذيب سلام عادل فأجابني دون أن يبرّر، وهو ما دوّنته في كتابي “سلام عادل – الدال والمدلول“، دار ميزوباتاميا، بغداد، 2019، بأننا كلّنا “مسؤولون ومرتكبون” ولا أبرئ أحدًا من القيادة، لكنه كشف أنه التقى سلام عادل لمدّة عشر دقائق فقط، وكان حينها ينتظر أن يدخل على حازم جواد في غرفة مدحت ابراهيم جمعة (مسؤول قصر النهاية).
وكان قد عرف بخبر اعتقاله حين سافر إلى النجف في ذات اليوم الذي اعتقل فيه سلام عادل (19 شباط / فبراير 1963)، وبعد عودته التقاه كما ذكرت يوم 23 شباط / فبراير، لكنه انفعل وتأثّر كما قال لي وكما دوّن في كتابه لاحقاً “كنت بعثيًا“، دار الكتب العلمية، بيروت ،2021، من هذا المشهد وغادر المكان، وفي المساء سمع أن سلام عادل قد قُتل (استشهد) في اليوم ذاته الذي التقاه فيه (23 شباط / فبراير 1963).
ولم يُعلن عن إعدامه مع رفيقيه محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة إلّا في يوم 7 آذار / مارس 1963، وحين سألته من تعتقد أنه كان في اللحظات الأخيرة في تعذيبه، أجابني: أن مدحت ابراهيم جمعة ومحمد المهداوي وعمار علّوش وبهاء شبيب وصباح مدني وهاشم قدوري. وكان يتردّد على قصر النهاية عبد الكريم الشيخلي وأحمد طه العزوز، وهؤلاء كانوا الفريق الموجود حين استشهد سلام عادل. وقد قدّم الشيخ راضي نقدًا ذاتيًا شديدًا وجريئًا واعتذر عن ذلك إلى الشعب العراقي وهو ما دوّنته، وما كتبه لاحقًا في كتابه.
الوفاق والمعارضة
السبب والمبرّر الرابع – أننا عملنا في صفوف المعارضة، فقد تابعتُ تأسيس “حركة الوفاق” ونشرت لي جريدة بغداد بعض الدراسات والأبحاث التي كنت ألقيها في ديوان الكوفة كاليري في لندن، ومنها على ما أتذكّر عن قضيّة المهاجرين العراقيين وموقف القانون الدولي (نيسان / أبريل 1991)، كما نشرت لي جريدة الوفاق بعد الانشطار مقالات ودراسات وأبحاثًا، وكان المنهج الذي أتّبعه أنني أنشر في صحف عربية مثل الحياة والقدس العربي، وتعيد صحف المعارضة نشرها، ولم أكتب مقالات خاصة بصحف المعارضة، التي كنت أعتبرها نشرات حزبيّة، حتى حين كنت في الحزب الشيوعي، فإن هذا النهج كان هو الذي اعتمدته.
وباستثناء محدود فقد نشرت مقالة واحدة أو اثنتين في صحيفة المنبر الشيوعي التي كنت رئيسًا لتحريرها، باسمي أحدها عن أبو كاطع في ملف خاص، وعدا ذلك مقالاتي كانت باسم حركي أو بدون اسم لأنني لا أفضّل الكتابة إلى صحف المعارضة، وأعتبر قرّائي أبعد من ذلك، فالدائرة العراقية أوسع من دائرة المعارضة، فما بالك بالدائرة العربية التي كنت أتوق إلى مخاطبتها، بما فيها ما يخص الشأن العراقي، ولاسيّما انتهاكات النظام لحقوق الإنسان.
وأستطيع القول أن صداقة ومودّة جمعتني مع الغالبية الساحقة من جماعة الوفاق، وكنت أعرف بعضهم من قبل: إياد علّاوي، صلاح عمر العلي، اسماعيل القادري، تحسين معلّة، صلاح الشيخلي وضرغام كاظم وآخرين، ولاحقًا حامد الجبوري وتوفيق الياسري وسليم شاكر الإمامي وقد حصِلوا على اللجوء السياسي بواسطتي عبر المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
“الأبسو” – التضامن الأفروآسيوي
أتذكّر أنه في بداية تشكيل الوفاق اجتمعنا معهم باسم حركة المنبر الشيوعي، نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وكاتب السطور، ودعانا نوري عبد الرازق إلى القاهرة 1991 بعد انتهاء حرب الخليج لتقديم رؤيتنا إل منظمة التضامن الأفروآسيوي (الأبسو AAPSO).
وسافرنا من لندن: صلاح عمر العلي وأياد علّاوي وكاتب السطور، ومن فيينا وصل مهدي الحافظ، ومن جنيف جاء أديب الجادر ومن الإمارات التحق شكري صالح زكي للقاء بإياد وصلاح، ولم يحضر الاجتماع أو لم يدع إليه أصلًا، وحضر الاجتماع أحمد الحبوبي وفيصل فكري، وكدنا أن نتوصّل إلى توافقات بشأن إعلان موحّد أقرب إلى صيغة تحالف وطني جبهوي مفتوح مع انتظار ضم شخصيات كردية، وكان ذلك بعد مؤتمر بيروت (آذار / مارس 1991)، أساسه كتلة عروبية كبيرة ومؤثّرة بعد أن سيطرت على الساحة التجمّعات الدينية وأخذت التنظيمات الكردية تلعب دورًا كبيرًا، وضاع التيار الوطني العروبي في خضمّ الصراعات.
وكان صلاح عمر العلي بما يمثّله من ثقل وكذلك إياد علّاوي من أكثر المندفعين في هذا الاتجاه، لكن حدوث تصدّع في الوفاق حال دون ذلك، بل أن عملية احتراب بدأت بينهما لاحقًا عشية عقد مؤتمر فيينا العام 1992. وقد بقيت على مسافة واحدة من المجموعتين بما فيها الصداقة التي تعزّزت مع صلاح عمر العلي طيلة الثلاثين عامًا المنصرمة، إضافة إلى صداقتي مع إياد علّاوي وتحسين معلّة وضرغام كاظم وتوفيق الياسري وحامد الجبوري، وإن تغيّرت مواقع بعضهم ومواقفهم، لكن حبل الودّ ظلّ متينًا، بغضّ النظر عن اختلاف المواقف السياسية.
مؤتمرا فيينا وصلاح الدين 1992
اجتمعنا في بيت السيّد محمد بحر العلوم (شباط / فبراير 1992) وشكّلنا لجنة تحضيرية ضمّت: السيّد بحر العلوم وليث كبّة وهاني الفكيكي ولطيف رشيد وتحسين معلّة، على أن يضم إليها هوشيار زيباري الذي لم يكن حاضرًا وكاتب السطور، واقترح هاني الفكيكي وأيّده تحسين معلّة بأن أعدّ التقرير السياسي، ولكن المؤتمر تأجّل من الشهر الرابع (نيسان / أبريل) لغاية الشهر السادس (حزيران / يونيو) وظهرت بعض الخلافات مع لجنة العمل المشترك التي تأسست في دمشق أواخر كانون الأول / ديسمبر 1990، وانعقد بعد عدم مشاركة حزب الدعوة والحزب الشيوعي وتنظيم البعث العراقي الموالي لسوريا والمجلس الإسلامي الأعلى، الذي حضر ممثّله الشيخ محمد محمد علي (أبو حيدر)، فتم فصله.
وجاء مؤتمر فيينا وكأنه تعديل واستكمال لمؤتمر بيروت 1991، وقد كان دور جلال الطالباني كبيرًا في المؤتمر، وتمخّض عن قيام كيان ولجنة تمثّله من 17 عضوًا، أصبح أحمد الجلبي رئيسًا لها، وتقرّر أن يكون له نائبان أحدهما كردي (لطيف رشيد) والآخر عربي (كاتب السطور) الذي حاول الاعتذار دون جدوى.
وتقرّر أن يكمّل المؤتمر اتصالاته مع القوى التي لم تحضر مؤتمر فيينا وبمبادرة من مسعود البارزاني دعا إلى مؤتمر تحضيري، فشارك الحزب الشيوعي بشخص رحيم عجينة وطلب تمثيله لاحقًا بعبد الرزاق الصافي ليكون عضوًا في المجلس التنفيذي وابراهيم الجعفري عن حزب الدعوة، وتم تمثيل الحزب بواسطة سامي العسكري، كما شارك المجلس الإسلامي الأعلى بشخص محمد الحيدري فانضمّ إلى المجلس لاحقًا بيان جبر (باقر جبر صولاغ) ثم استبدل إلى حامد البياتي، كما شارك حزب البعث – سوريا بشخص مهدي عليوي العبيدي (أبو صلاح) وحركة الوفاق (تنظيم صلاح عمر العلي) بشخص راشد الحديثي، وجماعة سعد صالح جبر “المجلس العراقي الحر” بشخص شفيق قزّاز، ومن القوميين شارك مبدر الويس (الحزب الإشتراكي) وآخرين، وانضم حسن النقيب لاحقًا إلى هيئة الرئاسة التي تشكّلت من البارزاني والنقيب وبحر العلوم، أما المجلس التنفيذي فقد تشكّل من 25 عضوًا وبانضمام طالب شبيب أصبح عدده 26 عضوًا.
وعلى الرغم من تردّد “الوفاق” وعدم قناعته بجدوى الصيغة المقترحة، إلّا أنه لم يألوا جهدًا بدعمها وإنْ بعدم اندفاع ، خصوصًا بشأن توزيع المهمات القيادية، حيث كان إياد علّاوي عضوًا في المجلس التنفيذي، وأصبح صلاح الشيخلي ناطقًا رسميًا باسم المؤتمر، لكنه لم يواصل مهمته، وكان تحسين معلّة حسبما أعرف من أكثر المتحمسين للعمل المشترك مع بعض تحفّظاته وميله إلى إحداث تغيير من الداخل وذلك عبر صلات وعلاقات مع مؤسسة الحزب والحكم والجيش.
ولم تواصل مجموعة البعث السوري المشاركة في المؤتمر الذي أعقب المؤتمر التحضيري بشهر واحد وغاب عنه مجموعة الوفاق (صلاح عمر العلي) ومجموعة المجلس العراقي الحر (سعد صالح جبر) وآخرين، كما لم يحضر أديب الجادر ومهدي الحافظ.
وقد كتبت البيان الختامي الصادر عن الاجتماع التحضيري، وكان لجنة الصياغة قد ضمّت: ابراهيم الجعفري ورحيم عجينة وفلك الدين كاكائي وكمال فؤاد وبرئاستي، والبيان هو امتداد لبيان مؤتمر فيينا واستكمل ببيان المؤتمر الموحّد بعد انضمام هذه القوى، وهو ما كُلّفت بصياغته أيضًا.
لحظة افتراق
شهدت المعارضة لحظة عاصفة في تاريخها حين انقسمت لاحقًا إلى مجموعتين،
أولها – الاتجاه الذي قاده أحمد الجلبي للإطاحة بالنظام عبر توثيق التحالف مع الأمريكان وتوريطهم إن جاز التعبير بزجّهم في الشأن العراقي، وقد لعب دورًا كبيرًا في تهيئة الأجواء داخل الولايات المتحدة لإصدار قانون تحرير العراق 1998 في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وهكذا بدأت واشنطن تخصّص مبالغ لدعم المعارضة علنًا بعد أن كانت تمنحها سرّاً لبعض التنظيمات والأشخاص ، فضلًا عن وجود سند عراقي لها بتأييدها لاستمرار الحصار، وكتبت بعض الشخصيات العراقية طلبًا إلى توني بلير يدعوه إلى ذلك.
وثانيها – ترفض الحصار الدولي المفروض على العراق وتدعو إلى الاستفادة من الظرف الدولي وعزلة النظام للعمل داخليًا للإطاحة به، ومن بين أبرز المجموعات التي عملت على هذا الصعيد كان صلاح عمر العلي وحركة الوفاق الموازية وهو الاتجاه الذي كنّا ندعو له في إطار المعارضة، لكنّه مثّل “أقليّة”، وضمّ أديب الجادر ومهدي الحافظ ومجموعة وطنية عراقية متنوّعة وشخصيات شيوعية خارج الإطار الرسمي ومن داخله أيضًا، وبالطبع كان هذا الاتجاه ينسق مع لجنة التنسيق التي تشكّلت في سوريا وضمّت حزب البعث السوري (قيادة قطر العراق) وشخصيات قومية بينها أديب الجادر وعبد الإله النصراوي، ومن خارج لجنة التنسيق أحمد الحبوبي وفيصل فكري وغيرهم.
ولعلّ هذا الانقسام سبق أن شهدته ساحة المعارضة أيام الحرب العراقية – الإيرانية، بين من يدعو إلى الإطاحة بالنظام حتى لو استمرّت الحرب، دون أن يكترث بالمشروع الحربي والسياسي الإيراني، وبين من دعا إلى وقف الحرب دون قيد أو شرط وحلّ الإشكالات بالمفاوضات وبالطرق السلميّة، دون ضمّ أو إلحاق أو مكاسب سياسية، خصوصًا بعد انسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية إثر معركة خرّمشهر (المحمّرة) 1982، واعتبر الدفاع عن الوطن واجبًا وطنيًا ضدّ محاولات اختراق الحدود العراقية وفرض نظام من الخارج، بغضّ النظر عن معارضته للديكتاتوريّة وأساليبها الإستبدادية. وإذا كان صدام حسين قد بدأ بشنّ الحرب العام 1980، فإن إيران واصلتها منذ انسحاب القوات العراقية العام 1982 وحتى العام 1988، حيث توقّفت بعد عام من صدور قرار مجلس الأمن الدولي 598.
والاختلاف أساسًا نشب بخصوص عدم الثقة بالمشاريع الخارجية ومن يقف وراءها، إضافة إلى رفض القرارات الدولية المجحفة والمذلّة والتي ارتهنت العراق، فالطريق إلى مواجهة الديكتاتورية يمرّ عبر رفض الحصار والقرارات الدولية المفروضة من مجلس الأمن الدولي باستثناء القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان. وهي إشكالية جديدة نشأت بين القوى المعارضة.
علمًا بأن القرار 688 الصادر في 5 نيسان / أبريل 1991 لم يصدر ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات، وقد أطلقت عليه حينها القرار “اليتيم والتائه والمنسي” فلا مجلس الأمن الدولي يتذكره ويصر على تطبيقه، ولا الولايات المتحدة مهندس القرارات الدولية تسعى لفرضه إسوة بالقرارات الأخرى، ولا الحكومة العراقية التي وافقت على جميع القرارات الدولية باستثناء هذا القرار، ولا المعارضة العراقية الرسمية التي يفترض بها التشبث به لإحداث التغيير عملت على تعبئة الجهود لتنفيذه.
كنت أعتقد ضرورة التمسك بالموقف الحقوقي والإنساني خارج دائرة المعارضة للنظام، فالحصار وقصف العراق ينال من الناس وليس من النظام، وعلى المعارضة أن تتوحّد لرفض مشروع الحصار الدولي المدمّر الذي استمرّ تأثيره وما يزال لحدّ الآن واستنزف العراق وطاقاته العلمية وقدراته، فضلًا عن تدمير نسيجه الاجتماعي واعتلال صحة وتعليم أبنائه. وقد كان مثل هذا الأمر مثار نقاش وجدل بين النخب العراقية، وقد أسرّ لي تحسين معلّة وبعد ومؤتمر وندسور ( 7 – 8 نيسان / أبريل 1999)، ومؤتمر نيويورك (30 تشرين الأول / أكتوبر 1999)، وعبر حوار هاتفي مطوّل أنه غير مقتنع بما ينوي الأمريكان القيام به بالعراق، على الرغم من حماسته للإطاحة بالنظام الذي لم تتمكّن المعارضة ولن تتمكّن بوضعها الراهن كما قال من القيام به. وهو ما تأكّد في مؤتمر لندن ( 14 – 15 كانون الأول / ديسمبر 2002) عشية احتلال العراق.
ويبدو أن الأمريكان كان لديهم خطّتهم لاحتلال العراق بمعزل عن المعارضة التي حصلوا على تأييدها سلفًا، لكنه لم يرغبوا في إعطائها أي دور يذكر أو وعود ملموسة بشأن موقعها مستقبلًا. وظلّ تحسين متردّدًا بين أمله في إطاحة النظام وبين الحفاظ على استقلال العراق وسيادته ومستقبله، وهذه الرغبة تنازعت الكثير من المخلصين والوطنيين العراقيين، سواءً اختار بعضهم الطريق الصحيح أم الطريق الخاطئ لتحقيق ذلك، لكن التجربة اليوم بيّنت بما لا يدع مجالًا للشك أن الرهان على الأمريكان أو على الإيرانيين أو على غيرهم من القوى الدولية أو الإقليميّة سوف لا يكون في مصلحة العراق، لأن هذه القوى تبحث أولًا وقبل كلّ شيء عن مصالحها وهي ليست جمعيات خيرية تتصدّق على المعارضات بإنقاذها من ديكتاتوريتها، وإنما لديها مصالح يتعارض القسم الأكبر منها مع مصالح العراق وشعبه ووحدته وتنميته، خصوصًا وأن من استراتيجيات واشنطن الأساسية ومنذ سبعة عقود ونيّف من الزمن، حماية أمن “إسرائيل” ووضع يدها على النفط مصدر الصراع السياسي والاجتماعي في المنطقة.
وقد خلق الأمريكان ومعهم النفوذ الإيراني دولة فاشلة ومشوّهة وربطوها بدستور طائفي – إثني بدأ مع مجلس الحكم الانتقالي الذي هندسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، يقوم على الغنائم والزبائنية، وجعل من المكوّنات أساسًا للتقاسم الوظيفي، وقد ورد مصطلح المكوّنات في الدستور (مرّتان في المقدمة) وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142، وحمل الدستور العديد من الألغام والمتناقضات، وهو ما اعترف به حتى الذين كانوا من أشد المتحمّسين له.
عشيّة الرحيل
أصيب تحسن معلّة بالشلل إثر جلطة قلبية في العام 2000 أقعدته عن أداء مهمّاته، ولكنّ عينيه وعقله وقلبه ظلت ترنو إلى العراق الذي زاره للمرّة الأخيرة ليودّعه في العام 2004 ويعود بعدها إلى لندن إلى أن حضرته المنية عن عمر ناهز الرابعة والسبعين عامًا في 15 كانون الثاني / يناير 2005. وكان قد ولد في النجف في العام 1931. وقد زرته مرّةً واحدةً، ثمّ امتنعت عن زيارته كي لا أراه بحالة ضعف، وهو ما فعلته مع الجواهري في مرضه وصالح دكلة وأديب الجادر ومظفّر النواب وصديقي كوثر الواعظ وغيرهم.
لا أدري كيف تذكّرت وأنا أكتب عن تحسين معلّة، الشخصية الوطنية العراقية عزيز شريف الذي قال ذات يوم: نحن الشيوعيين وينطبق المثل على السياسيين العراقيين بشكل عام، مثل راكبي الدرّاجات يستمرّون بالسير أحيانًا دون بوصلة، لخشيتهم من الوقوع على الأرض ، ولذلك يدورون ويدورون دونما توقّف، بل لا يأخذون قسطًا من الراحة أو التأمّل أو التفكّر في دوّامة العمل المسلكي اليومي الروتيني.
ولعلّ السياسة في بلداننا، وفي العالم الثالث عمومًا، لا تعطي مجالًا لمن تدركه حتى من التفكير لبرهة، فلا الحكومة ترحمه ولا التنظيمات السريّة تمنحه فسحة حريّة للتفكير والنقد والمراجعة، ولا ظروف البلاد والتحديات الخارجية تترك له ولو هامشًا ضيّقًا من الاستراحة، بل وحتى التقاعد أو الاستقالة أو الإجازة المفتوحة.
لو عاد تحسين معلّة إلينا اليوم لوجدناه ما يزال متحمسًا حتى وهو في عمر الشيخوخة، بل تراه يتصرّف بروح الشباب بصدقية وصميمية وتواضع دون خشية من الوقوع في الخطأ، فالسياسة في نهاية المطاف لا تخلو من أخطاء ونواقص وثغرات، وتلك هي الحياة، إلّا أن تحسين ربّما يختلف عن الكثيرين غيره أنه كان يتصرف بعفوية ومحبّة مثل طفل بريء.
[*] أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – له أكثر من 70 كتاباً ومؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني. وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.