جذور صراع الصدر والمالكي والنتائج
مع تصاعد حدة الأزمة السياسية في العراق واقترابها من حافة اشتعال صراع شيعي شيعي بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، تستعيد ذاكرتنا جذور الصراع ومسار تقلباته وجولات الأزمات بين رمزي الصراع، مقتدى الصدر ونوري المالكي.
ويمكننا القول إن التيار الصدري ولد بقيادته الممثلة برجل الدين الشاب السيد مقتدى الصدر بعد سقوط نظام صدام مباشرة، إذ استقطب الطبقات الاجتماعية الدنيا من الشيعة، اولئك الذين يعيشون في ضواحي المدن الفقيرة. وقد مثّل فقراء الشيعة المادة الجماهيرية التي إلتفت حول والد مقتدى آية الله محمد الصدر قبل اغتياله، وهم المادة التي تشكل منها لاحقا التيار الصدري، هذا الأمر طرح تنويعا جديدا للصراع الشيعي الداخلي، فهو نمط من صراع طبقي بين فقراء الشيعة من المسحوقين والمهمشين وطبقة أثرياء الشيعة وأحزابها التقليدية، وكان صراع الصدريين مع أحزاب المعارضة السياسية الشيعية السابقة واضحا، إذ تعاملت هذه الأحزاب مع أتباع الصدر باهمال وإزدراء واعتبرتهم (رعاع) الشيعة، وانهم لا يمثلون قوة يمكن ان تؤثر في المعادلة السياسية الجديدة.
لكن سرعان ما تحول التيار الصدري إلى رقم مؤثر في الحياة السياسية وأثبت إنه لاعب رئيسي في العملية السياسية الجديدة وذلك عبر مشاركته في انتخابات عام 2005 وحصوله على ثلاثين مقعدا في البرلمان ما أهله لتقاسم السلطة التنفيذية مع الآخرين والفوز بعدد من الوزارات الخدمية، مع فرض وتزايد سطوة ميليشيا جيش المهدي، الذراع العسكري للتيار الصدري. تأجج الصراع الطائفي بعد حادثة تفجير مرقد الإمامين في سامراء في شباط/فبراير 2006 أدى إلى انجرار ميليشيا جيش المهدي، لما عرف بالحرب القذرة وآلياتها مثل القتل على الهوية والتهجير الذي أفرز أحياء منفصلة أحادية الطائفة في مختلف مدن العراق.
نتيجة ضعف مؤسسات الدولة ومنها القوات الأمنية والعسكرية حينذاك وتغول الميليشيات، ونتيجة سيطرة الأحزاب والميليشيات الشيعية على الحكومات المحلية في محافظات الوسط والجنوب، أصبح وضع السكان مزريا ووصل الحال إلى حد الانفجار، عندها أقدمت حكومة نوري المالكي الأولى على شن عمليات «فرض القانون» في بغداد، ثم تبعتها بعملية حاسمة في البصرة هي «صولة الفرسان» وقد نفذ هذه العمليات الجيش العراقي المدعوم بقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وكانت النتيجة كسر شوكة ميليشيا جيش المهدي، وقد أدى الأمر إلى احتجاج الكتلة الصدرية التي علقت مشاركتها في البرلمان والحكومة، وخروج الآلاف من ناشطي التيار الصدري إلى إيران بينهم قيادات دينية وميليشياوية، وحتى السيد مقتدى الصدر نفسه أقام حينذاك لمدة أربع سنوات في قم، وكان السبب المعلن هو اكمال دراسته الدينية، لكن وبعد الكثير من الجهود والمفاوضات أثبت الصدر قدرته على المناورة، إذ حول جيش المهدي إلى هيئة سياسية خدمية ضمت الجزء الأكبر من الميليشيا، وترك جزءا آخر عسكريا شبه مخفي، حيث أمر بتجميد فعالياته بعد مطاردة غير المنضبطين من أفراده وقياداته الذين تم زجهم في المعتقلات الأمريكية.
العودة بقوة للساحة
عندما دعم الصدر غريمه المالكي لتولي العهدة الثانية بعد انتخابات 2010 وما حصل فيها من مشاكل والتفاف على الدستور، ابتدأ الصدر لعب دور بيضة القبان في دفع من سيتولى رئاسة الحكومة، لكنه سرعان ما بدأ اللعب وفق تكتيكات خطيرة تقوم على مبدأ دفع الأزمات باتجاه حافة الهاوية، وبات موقفه متذبذبا بشكل بيّن، إذ كانت مواقفه موزعة، فهو يضع قدما في الحكومة والبرلمان، وأخرى في ساحات الاحتجاج التي انطلقت في العراق مع بداية عام 2011 العام الذي عاد فيه الصدر من إيران إلى منزله في منطقة الحنانة بالنجف.
وتوالت الصراعات مع نوري المالكي في ولايته الثانية حتى حدوث كارثة احتلال «داعش» ثلث مساحة العراق، وتشكيل الحشد الشعبي، واستعادة مقتدى الصدر لجناحه المسلح الذي كان في طور كمون، ولكن هذه المرة تحت مسمى ميليشيا سرايا السلام التابعة اسميا للحشد الشعبي. وما ان أفرزت نتائج انتخابات 2014 تقدم المالكي ومطالبته بولاية ثالثة، حتى تصدى له مقتدى بوصفه صانع الملوك هذه المرة، ودفع باتجاه تغليب منافسه حيدر العبادي لتشكيل الحكومة.
بعد ذلك بات الصراع بين الرجلين مكشوفا في أغلب الأحيان، وخفيا تقف في واجهته حركات وأحزاب وميليشيات في أحيان أخرى، والتف منافسو الصدر من الشيعة في تكتل جديد في انتخابات 2018 جمع كل القوى المقربة من طهران هي كتلة «الفتح» التي ائتلفت مع كتلة نوري المالكي «دولة القانون» لتشكلا كتلة «البناء» بينما شكل الصدر ائتلافا مع قوى يسارية وعلمانية في كتلة «سائرون» التي ائتلفت مع حيدر العبادي في تشكيل كتلة «النصر» ونتيجة سيولة وعدم وضوح المواقف، تم انتهاك الدستور في عدم إعلان الكتلة الفائزة في الانتخابات، وللخروج من المأزق تم التوافق على اختيار عادل عبد المهدي كمرشح توافقي لرئاسة الحكومة بين كتلتي «النصر» و«البناء».
ويشير بعض المراقبين إلى أنّ «الصراع بين الصدر والمالكي تحوّل من تنافس سياسي بين حزب الدعوة والتيار الصدري تحت عناوين مختلفة على اعتبار أنّهما تكتلان فكريان وعقائديان رئيسيان في الساحة العراقية، إلى عداء شخصي بين الرجلين». وما أن اندلعت انتفاضة تشرين 2019 ضد حكومة عادل عبد المهدي حتى سارع مقتدى الصدر إلى اللعب وفق آلياته التي باتت معروفة، حيث اشترك الصدريون في ساحات الاحتجاجات بدون الإعلان رسميا عن هويتهم، بينما وقف المالكي ورجاله مع حكومة عبد المهدي حتى النفس الأخير، حتى أصبحت حكومة ولائيين بامتياز. وعندما تمت إطاحة حكومة عادل عبد المهدي التي قدمت استقالتها وتحولت لحكومة تصريف أعمال نتيجة ضغط الاحتجاجات، أراد الصدر ان يركب موجة تشكيل الحكومة الجديدة فانقلب على شركائه التشرينيين وحاول إفراغ ساحات الاحتجاجات لتمرير حكومة الكاظمي التي تم التوافق عليها بين فرقاء الشيعة.
بقيت استراتيجية التذبذب سمة عمل مقتدى منذ 2020 حتى حصول انتخابات تشرين الأول/اكتوبر 2021 إذ أعلن انسحابه وعودته للعمل السياسي والمشاركة في الانتخابات عدة مرات، ونتيجة ما يتصف به أنصار التيار الصدري من انضباط وطاعة، استطاع الصدر أن يحقق فوزا ملحوظا في الانتخابات الأخيرة ويحصل على 73 مقعدا في مجلس النواب، ليمثل الكتلة الأكبر، وسعى إلى ما أطلق عليه تشكيل حكومة أغلبية وطنية عبر التحالف مع الكتل السنية والكردية الفائزة في الانتخابات في مسعى واضح لعزل المالكي وإخراجه من الحكومة، والتهديد بمحاسبته ورجاله على ملفات الفساد التي حصلت ابان حكمه في الولايتين السابقتين.
بدوره لم يقف المالكي مكتوف الأيدي بالطبع، بل جمع قوى الولائيين مشكلا الثلث المعطل في البرلمان الجديد وعمل على عرقلة انعقاد جلسات تمرير تسمية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزرائها. هذا الأمر أفشل مسعى الصدر في تشكيل الحكومة طوال ثمانية أشهر انقضت في الشد والجذب، حاول فيها الصدر عبر وساطات مرجعية النجف وقوى إيران النافذة أن يخترق تكتل خصومه في الإطار التنسيقي، وأوصل لهم رسائل مفادها أنه موافق على إشراكهم في الحكومة المقبلة، لكن الفيتو الوحيد لديه خص به المالكي.
التصعيد والموقف الحالي
سحب الصدر نوابه من البرلمان في حزيران/يونيو الماضي، وحاول إحراج الإطار التنسيقي عبر إثبات عدم قدرتهم على تشكيل الحكومة، لكن بعد أن تداعت الأمور وبدأ المالكي يعد العدة للعودة والمطالبة بولاية ثالثة، تم تفجير قنبلة تسريبات المالكي التي ورد فيها كلام بدا خطيرا، إذ وجه المالكي كلامه لأحد الفصائل الولائية مطالبا اياهم بالاستعداد للحرب الأهلية الآتية مع الصدريين، والتعهد بالقضاء على مقتدى ورجاله كما فعل سابقا في «صولة الفرسان». هذه التسريبات أكلت من جرف المالكي ودمرت فرصة ترشحه لرئاسة الحكومة، ما دفع بالإطاريين إلى ترشيح محمد شياع السوداني المقرب من حزب الدعوة لرئاسة الحكومة، واعتبر الصدريون هذا الترشيح بمثابة ستارة سيحكم المالكي من خلفها، ما دفع الصدر إلى تحريك أتباعه الذين اجتاحوا المنطقة الخضراء مرتين في غضون أيام، وفي المرة الثانية احتل جمهور الصدر البرلمان واعتصموا فيه مطالبين بتغيير العملية السياسية برمتها.
لكن يبدو ان الصدر قد خفض سقف مطالبه العالي، كما حاول أن يصور النزاع بينه وبين المالكي على إنه نزاع مبادئ وليس صراعا بين رجلين، إذ قال في خطابه الأخير يوم الاربعاء 3 آب/اغطس الجاري «بعد أن حصلنا على أكبر كتلة وأردنا الأغلبية الوطنية عرقلتها الدعاوى الكيدية، وليس الصراع صراعا بين أشخاص كما يحاولون تبيان ذلك لكم، فلستُ ممن يُعادي أحداً على الإطلاق وإن كان يريدُ قتلي كما في التسريباتِ الأخيرة، أو ممن سكتوا عن التسريبات فلا أكنِ لهم إلا طلب الهداية، لا لأجلهم بل محبةً بالدينِ والمذهب والشعبِ والوطن».
واختتم بقوله «أنا على يقين أن أغلب الشعب قد سئم الطبقة الحاكمة برمتها بما فيها بعض المنتمين للتيار، لذلك استغلوا وجودي لإنهاء الفساد، ولن يكون للوجوهِ القديمة مهما كان انتماؤها وجودٌ بعد الآن، إن شاء الله تعالى، من خلال عمليةٍ ديمقراطية ثورية سلمية أولا ثم عملية ديمقراطية انتخابية مبكرة بعد حل البرلمان الحالي».