الموت يحاصر أهالي غزة… طفلة تصرخ: «لم أتوقع أن أعيش… وأم تنعي ابنها: كنت أعرف أن ابني لن يعيش طويلاً.
محمد السعدي.
الموت يحاصر أهالي غزة… طفلة تصرخ: «لم أتوقع أن أعيش… وأم تنعي ابنها: كنت أعرف أن ابني لن يعيش طويلاً
كأنه مكتوب على جباه امهاتنا القهر، والألم، والفجيعة، والخذلان. كأنهن على موعد دائم مع الدم والدموع!
الأسبوع الماضي امتلأت الدنيا بصرخات أمهات ضحايا مرفأ بيروت. وما زال صدى تلك الصرخات يهز الميناء والشواطىء ويطأطئ رأس المدينة ليهزمها من أعلاها حتى أخمصها.
أما هذا الأسبوع فكان الوجع من نصيب أمهات غزة. ضحايا ودمار وانهيارات بالجملة. ولا حياة لمن تنادي. رؤساؤنا يغطون في نوم عميق. فالدماء المسكوبة ليست دماء أبنائهم ولا تهمهم في شيء!
غزة تحت القصف الإسرائيلي المستمر. عنف يتفنن جيش العدو بإبرازه للعالم عبر غارات تستهدف المدنيين قبل الحجر. عشرات قتلوا من بينهم عدد كبير من الأطفال. هدرت دماؤهم فقط لأنهم يسكنون على أرضهم ويتمسكون بها.
من بين أحداث كثيرة تدمي القلب منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت هناك قصة لأم منكوبة. تروي ما جرى لها، وهي تحاول كبح شلالات من الدموع. دموع تتنقل بين أصابعها في كل لحظة. لا يمكن لإنسان سوي سماعها دون أن ينهار من فرط الألم.
لقد انتظرت 12 سنة مجيء ابنها خليل. 12 سنة وهي تحلم بملامحه. ترسم عينيه وأنفه ومبسمه وتتخيل ضحكاته وتتفاعل مع حركات يديه الآتية. جهزت ثيابه الصغيرة قطعة قطعة، وحاكت له بدل الكنزة عشرة.
انتظرته طويلاً. كانت تغني له، وهو في أحشائها، وتشعر برقصاته. إلى أن جاء اليوم الذي حملته بين يديها قطعة لحم صغيرة. سهرت وكبّرت وتعبت على تنشئته حتى أصبح رجلاً تتباهى به أمام الخلق. زرعت فيه عمرها. ولكنها كانت تعلم أن عمره سيكون قصيراً. كيف لا وهي تسكن في غزة. في قلب مدينة تتعرض باستمرار لمخالب شرسة وغرز مستمر من المفترسة والمعتدية والمغتصبة إسرائيل.
إنها والدة الشهيد خليل حمادة. تروي حكايتها مع فراقه الأبدي. لقد ربت ابنها 19 سنة إلا شهرا. نعم. فهي جمعت عمر ابنها يوماً بعد يوم. كانت تنتظر عيد ميلاده كي تفرح به. وكان هو على عتبة الزواج. غاب خليل ولم تعد أمامها سوى قافلة الذكريات!؟
تحكي أم خليل تفاصيل يوم استشهاده. لقد طلبت منه الذهاب إلى مكان آخر أكثر أماناً، لكنه فضل البقاء معها. ربما لأنه كان يشعر بالأمان في حضن أمه. يومها أحضر صحن الفلافل لعائلته وتعشوا معاً. بعدها سأل أمه: ماذا نأكل غداً؟ وكأنه يعلم أن الغد غير آت. وأراد بسؤاله أن يبني تفاصيل يوم إضافي مع والدته قبل أن يرحل. ثم زحفت الدبابة بزناجرها المدببة لخنق آخر أنفاس خليل.
تفتح أم خليل خزانته، وتنظر إلى أغراضه المبعثرة بعثرة كان ينتهجها، ربما لينبئها بالحياة في غيابه. تقول: «هاي غازه وهاي لحافه وحرامه. كل شي أجهزه له»!
ألم يتكرر المشهد نفسه الأسبوع الماضي في بيروت حين كانت والدة ضحية انفجار4 أغسطس/آب، السيدة نجوى حايك، تتفقد غرفة وأشياء ابنتها الشابة لارا، القابعة في سريرها في غيبوبة عميقة لسنتين متتاليتين؟ ألم تكن الحرقة نفسها؟ إلى متى ستستمر غصات أمهاتنا؟!
نحن أمة لا تعرف سوى العذاب. ولا عزاء لنا. ولا حياة تنتظرنا أو أمل بحياة مقبلة ونحن نفقد أبناءنا الواحد بعد الآخر. كلهم ضحايا حروب وانفجارات ومؤامرات ومصالح وصفقات واتفاقات «سلام» متبادلة بين الكبار.
تكمل والدة خليل حديثها وهي بالكاد قادرة على فتح عينيها، ولكنها تمسك بصورة ابنها بكل ما أوتيت من قوة: «كان هو حبيبي وأخوي وصديقي. حبيبي محبوبي الغالي على الكل. مش عشان يستشهد. مش مهم الدار. مش مهم أنا. مش مهم أبوه. المهم الولد. الولد راح بشربة مي. كنت حاسة عمره قليل فعلاً طلع عمره قليل»!
ثم تغرق في البكاء. نعم كانت تعلم أن مصيره يشبه مصير معظم سكان غزة، ولكنها كانت تأمل أن ينجب لها حفيداً قبل غيابه الأبدي.
خليل ليس الفرد الأول في العائلة، الذي تقتله اسرائيل. فقد استشهدت جدته، وهو ما يزال جنيناً في بطن أمه. وسيستمر موكب الشهادة في ظل الصمت العربي المخزي.
إلى متى سنبقى عاجزين أمام كل هذا الكم من القهر؟!
لم أتوقع أن أعيش
ومن قصة خليل إلى قصة، رغم قسوتها قد تجلب لنا ابتسامة ضائعة. إنها الطفلة الفلسطينية لين مطر. لم تتوقع أن تعيش. كانت تتلو الشهادة على روحها حين هبط عليها الركام وهي في بيت جدها، وبدأت بالصراخ. لكن الجيران تمكنوا من إنقاذها. إنها الطفلة المعجزة. ربما عاشت لتمنح أهلها وأحباءها شيئاً من الأمل.
لين، تبلغ من العمر تسع سنوات، ولكن الهجمات المتكررة على غزة، وخاصة الهجوم الأخير، الذي وصف بالأشرس منذ حرب مايو/آيار 2021 جعل عمرها الصغير يمتلىء ندوباً قد يصعب على الأيام أن تداويها. ثلاثة أيام من الرعب عاشتها الطفلة فيما كانت اسرائيل بحجة استهدافها أهدافا لحركة الجهاد الإسلامي تدكّ الأماكن المكتظة بالسكان لتقتل ما يزيد عن 43 طفلاً في رمشة عين!
لين، لا ترغب العيش في هذه الدوامة. تقول: «ما بدنا نضل على هذا الحال. يعني كل سنة قصف وقتل أطفال وإصابات. أنا سعيدة إني ما زلت على قيد الحياة»!
تريد أن تحقق حلمها في أن تصبح طبيبة لتساعد الناس. نعم، رغم كل هذا الألم ما زال أطفالنا يحلمون. تود أن تنقذ أهلها وناسها، كما أنقذوها يوماً. تتكلم وهي جالسة على سرير في مستشفى. تفكر في غيرها وجروحها لم تلتئم بعد. وهنا تكمن المعجزة.
لن نخاف على أوطاننا ما دام أبناؤنا أقوياء لهذه الدرجة، وما داموا يتمتعون بمثل هذا الوعي الكبير والغيرة على شعبهم وأرضهم، وهم بعد في عمر الطفولة البريئة، التي لم يتمتعوا بها مثل أطفال العالم.
كاتبة لبنانيّة