ج2/ العلموية وتفريغ الحياة والإنسان من المعنى: مقولة التقدم الزائفة!
علاء اللامي*
يوضح غريغوري بيترسون ذلك بقوله “بالنسبة للعديد من اللاهوتيين والفلاسفة، فالعلموية من بين أعظم الخطايا الفكرية. ومن أعظم خطاياها فقدان الغاية؛ ففي العالم العتيق كان التفكير الغائي سائداً أكثر من عصرنا… ومع ظهور العلم الحديث، لم يعد يُنظر إلى الطبيعة باعتبارها نظاماً ذا هدفٍ، بل صار يُنظر إليها ميكانيكياً”. بكلمات أخرى؛ لقد أصبح العالم مجرد “ماكنة ذكية تدور عبثا وبانتظام” ولا معنى فيها أو شغف أو دهشة، بل ينبغي عيشها كتجربة “أمر واقع” وتسهيل هذا العيش والاستلذاذ به وكفى! وهذا يعني إفراغ العالم والحياة الإنسانية من أية قيمة معيارية أخلاقية وجمالية مضافة على وجوده المادي الانطولوجي، بما يعني إهمال الشِّعر والفلسفة والدين والجماليات وحتى علم النفس، ودخولا صريحا في عالم ميكانيكي قاحل ورتيب يتحول فيه الإنسان من مخلوق سامٍ وعاقل متعالٍ وفنان وأخلاقي إلى حيوان لذائذي شديد الذكاء ولكنه بلا عمق أو هدف أو غاية!
ولعلنا نجد مصداق ما قلناه هنا في ما كتبه عالم الأحياء التجريبي أوستن هيوز في كتابه “حماقة العلموية”، قال: “بصفتي عالمًا تجريبيّاً، لن أنكر أبداً أنّ الاكتشافات العلمية يمكن أن يكون لها آثار مهمة على الميتافيزيقيا “الماورائيات”، نظرية المعرفة، والأخلاقيات، وأنّ جميع المهتمين بهذه الموضوعات يحتاجون إلى معرفة علمية. ولكن الادعاء بأنّ العلم التجريبي وحده قادر على الإجابة عن الأسئلة القديمة في هذه المجالات يثير مشاكل لا حصر لها”. ويلخص هيوز قصة العلموية أو حماقتها بالكلمات القليلة المعبرة التالية “ إنّه منذ بداية المشروع العلمي الحديث، كان ثمة علماء وفلاسفة أُعجبوا بقدرة العلوم الطبيعية على تطوير المعرفة، مؤكدين أنّ هذه العلوم هي الطريقة الصحيحة الوحيدة للبحث عن المعرفة في أي مجال. وقد أطلق على هذا الموقف اسم “العلموية”، وهو المصطلح الذي كان في الأصل تحقيرياً، إلاّ أنّ بعض أنصاره الأكثر صراحةً كانوا يدافعون عنه باعتباره شعار شرف. في كتابهم الذي صدر عام 2007م بعنوان “كل شيء يجب أن يذهب: الميتافيزيقيا باعتبارها طبيعة”. والمعنى واضح فالعلمويون يريدون في المدى الأبعد احتواء وفهم الميتافيزيقيا “ما وراء الطبيعية” وجعلها “طبيعة/ فيزيقيا”، ولتقريب الصورة من ذهن القارئ بعبارات “ظريفة” يمكن أن نقول إنَّ البحث في دراسة الروحانيات والجماليات مثلا، لا يختلف عند العلمويين عن دراسة خواص التربة!
في الجزء الأخير من هذه المقالة سنقارب بعض الأسئلة حول ماهية ومعنى “التقدم الغربي”: عوداً إلى مقولة بعض أصحاب هذا التوجه العلموي من العرب، القائلين إن دول الغرب الأوروبي ومجتمعاته قد تقدمت على دولنا ومجتمعاتنا العربية والمسلمة لأنها اعتمدت العلم وتخلت عن الدين؛ هذه المقولة ذات المحمول العلموي في حالته الخام الفجة بحاجة إلى تفكيك منهجي لبيان فساد محتواها وكونها نوعا من الأيديولوجية السياسية المدافعة بالنتيجة عن الواقع الإمبريالي الظالم وغير العادل ومحاولة تبريره وتأبيده باسم العلوم الحديثة، وسنحاول أن نطرح مجموعة من الأسئلة والتساؤلات كبداية لهذا التفكيك:
*ما محتوى مفهوم التقدم الغربي وما مقياسه؟ هل هو تقدم متكامل ومتوازن بين المادي والعقلي والروحي؟ هل هو تاريخي ومنتوج لجهود البشرية جمعاء طَوال تاريخها أم ظاهرة ميتافيزيقية خارج التاريخ و”داخل الفكر/الروح /العقل” الأوروبي الغربي “المتميز عنصريا وفسيولوجيا”؟
*ما ثمن وأسباب هذا التقدم الغربي الاقتصادي، وكيف نفسر أن أكثر من ثمانين بالمائة الذهب في فرنسا وبريطانيا وأسبانيا والبرتغال هي مناجم قارة أفريقيا الجائعة الفقيرة والتي لا تملك أكثر من ثلاثة بالمائة من ذهب العالم الذي نُهب من مناجمها بطرق قرصنية واستعمارية مختلفة؟ وكيف نفسر أن نِسَباً كبيرة جدا من الثروات الأخرى في العالم يحتكرها الغرب، ولا يسمح لشعوب الجنوب التي تحوز نسبة مهمة منها بالتصرف بثرواتها بشكل مستقل؟ أليس القانون الأميركي الذي يزمع المشرعون الأميركيون إصداره لمنع منظمة أوبك من تسعير نفطها وتقديمها للقضاء الأميركي بتهمة الاحتكار مثال على ذلك؟
*هل تخلى الغرب عن الدين فعلا، أم أنه نظم العلاقات بينه وبين الدولة الاستعمارية الغازية وجعله أحيانا في خدمة مشروعه الاجتياحي الإبادي في القارات الأخرى، فكانت جيوشه في الموجات الاستعمارية الأولى مرفوقة برجال الدين وكتبهم المقدسة إلى جانب أحدث الخرائط الجغرافية وأحدث أنواع البنادق والمدافع والكحول؟
*ما هو محتوى مفهوم التخلف الجنوبي والشرقي وإلى أية درجة تعتبر المجتمعات ودولها “المتخلفة” مسؤولة عن تخلفها في العصر الإمبريالي المعاصر وهل أن تخلفها ثيمة ميتافيزيقية لاصقة بها وبتاريخها وبنوعها البشري الجنوبي وبهيكلية جماجم الناس فيها؟
*ما معنى الحرية التي يرفع الغرب رايتها في حين تنفرد خمسة دول “متقدمة” في الأمم المتحدة بامتلاك حق النقض الفيتو من بين مائة وثلاث وتسعين دولة؟
*ما معنى ومبرر أن تمتلك تسع دول في العالم سلاحا نوويا، هي الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، إسرائيل، روسيا، الصين، الباكستان، الهند وكوريا الشمالية السلاح النووي في حين تُمنع الدول الأخرى من امتلاك هذا السلاح وتعاقب لمجرد الشك بانها تحاول ذلك وتوضع شروط قاسية ومراقبة بالصوت والصورة وعلى مدار الساعة على دول أخرى إذا أرادت أن تستفيد من الفيزياء النووية لأغراض سلمية؟
*كخلاصة لوجهة نظري الشخصية أقول؛ إنني منحاز وبقوة إلى العلوم، والعلوم التجريبية من ضمنها، وما وصلت إليه من فتوح رائعة في عالم اليوم، وأعتبرها نتاج تأريخي وذروة العبقرية الإنسانية وجهودها على مدى أجيال وأجيال منذ أنْ خط الإنسان أول كلمة على لوح طيني أو روقة بردي إلى آخر الزمان إنْ كان له آخر، ولكن العلم لن يستطيع أن يحل محل الدين أو الفلسفة أو الشعر، فلكلٍّ باب من هذه الأبواب أسئلته وسياقاته ومكوناته الداخلية، لأن الأسئلة والحاجات الإنسانية العميقة والوجودية التي يلبيها الدين لن يلبيها العلم، وتلك التي يشتغل عليها العلم تختلف نوعياً عن تلك التي يتحرك فيها الدين أو الفلسفة، وتلك التي تجيب عنها الفلسفة قد لا يجب عنها الدين أو العلم أو الشعر. ثم أن قمع واضطهاد الإنسان الفرد والجماعة /الشعب والأمة، سواء مورس باسم الدين أو العلم أو الفلسفة، من قبل حاكم مستبد أو دولة أجنبية غازية أمر مرفوض ويجب أن يقاوم ويرفض باسم حرية الإنسان “فالحرية هي الأولى، والموت يأتي أخيرا” كما قال أراغون.
إن أسرار الوجود والحياة العميقة سيتبقى مفتوحة إلى الأبد، ولن يستطيع العلم أو الدين أو الفلسفة الإجابة عنها بشكل نهائي، لأن الإجابة عليها بشكل نهائي أمر محال، وحين يزعم الزاعمون أنه تحقق فلا يعني ذلك سوى الإعلان عن موت الحضارة الإنسانية وتسطيح العقل الإنساني وإعدام أسئلته المعقدة عن الوجود والعدم وأسرارهما، وتحويل الإنسان ذاته الى حيوانٍ يحفظ جدول الضرب والمعادلات العلمية!
كلمة أخيرة: العلمويون والعلمانيون القشريون، وخصوصا عندنا في عالم الجنوب والدول العربية والمسلمة خصوصا، حين يحلمون بأن السماء الإمبريالية ستمطر عليهم ذات يوم دولا ديموقراطية ليبرالية مستقلة ومتطورة وعلمانية وعلموية على الغرار الأوروبي الغربي، أو بأن الغرب نفسه، سيتوكل على الله، ويبني لهم دولا كهذه لسواد عيوننا فهم واهمون ومخطئون حتى ينقطع النفس. والسبب بسيط هو أن الغرب لم يعد يسمح لأية دولة / أمة / شعب في الجنوب أو الشرق بسلوك طريق الرأسمالية والليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية بل وقبل ذلك بزمن طويل نسبيا أي منذ أيام المرحوم محمد علي باشا في مصر ومدحت باشا في العراق اللذين خرّبَ تجربتيهما بشكل مباشر ومقصود.
أما التجارب التي سمح لها بالنجاح الجزئي مثل كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية – لنضع تجربة ملاهي وكباريهات الإمارات ودولة قاعدتي السيلية والعديد في قطر أو دولة قاعدة الجفير في البحرين لنضعها جانباً – فهذه الدول (كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا) هي مستعمرات للولايات المتحدة، وهي دول فاقدة لاستقلالها، وعلى أراضيها عشرات القواعد العسكرية وآلاف العسكريين من قوات احتلال أميركية حقيقية تدفع هذه الدول أجورها وتكاليفها، أما قصة النمور الآسيوية “السبعة” فقد انتهت الى الاختناق ثم الانتعاش الجزئي المشروط بحالة اقتصاد الدولار ولم ينجو منها إلا تجربة مهاتير محمد في ماليزيا وبالضبط لأنه تمرد على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وطبق خطة إنقاذ مستقلة وندية فشق طريقه بصعوبة نحو الاستقلال الاقتصادي والسياسي ولكن إلى حين.
وإن التجربة التاريخية تؤكد أن الدولة الديموقراطية والمستقلة سياسيا واقتصاديا والساعية الى بناء ذاتها لا يمكن أن تنشأ إلا بمواجهة جريئة وعميقة وصدامية مع الهيمنة الإمبريالية الغربية! إن دولة “ديموقراطية وعلمانية وذات استقلال اقتصادي وسياسي” كهذه، لا يمكن الحصول عليها باستجداء الغرب الإمبريالي بل ينبغي أن تنتزع انتزاعا كالحرية! فالحرية لا تعطى بل تنتزع لأنها إن منحت كهبة فستبقى مهددة ورهينة سيستعيدها المانح الواهب في أي لحظة!
(Inget ämne)