و..بيني وبين نفسي ايضا ً
إبراهيم البهرزي .
حين اكملت قراءة كتاب ( بيني وبين نفسي ) الذي أهداه لي مؤلفه الصديق محمد السعدي المقيم منذ بضعة عقود في السويد انتابني ذلك الشعور المتناقض الذي يمر بالإنسان حين يفرح بلقاء صديق عاش معه ظروفا صعبة بعد طول فراق ،. ذلك الخليط من الشعور بفرح اللقاء المشوب بألم الذكرى .
يأخذ الكتاب شكل وثيقة مهمة اكثر من كونه كتاب مذكرات وسيرة شخصية كما نوه المؤلف لذلك في زاوية صغيرة من الغلاف .
لم يكن مسرح الأحداث ولا اَي من شخوصه بعيدا عن ذاكرتي ،فهو يتحدث عن بيئة عشت في حاضنتها وعن أصدقاء عاشرت اغلبهم وعن زمان عصيب عُصرت روحي بين تروسه الخانقة .
عدا عن تلك السطور التي تتحدث عن ذكريات شخصية محضة تتعلق بالنشأة العائلية والارتباط العاطفي والتي كتبت بلغة شاعرية مفعمة بالصدق فان بقية الذكريات تعد وثيقة وطنية عن زمن مسكوت عنه يتعلق بالفترة التي اعقبت انهيار الجبهة الوطنية عام ١٩٧٨ والحملة الاجرامية التي شنتها الأجهزة الأمنية على الكوادر الشيوعية الوسطى والصغيرة بعدما تركوا منكشفين اثر تسلل غالبية القيادات العليا من الميدان صعودا الى الجبل او هروبا الى المنافي مع تبليغ انهزامي للقاعدة مفاده ان (يتدبر ) كل رفيق نفسه .
قيمة هذه الوثيقة التذكارية التي دونها صديقي السعدي في قرابة ٤٠٠ صفحة تتمثل في انها لم تصدر عن قيادي في الحزب لتحمل معها كل تلك التبريرات والتنظيرات التي تتخذ شكل مرافعات دفاع مفككة عن موقف واضح الإدانة .
فعلى العكس من كل تلك المذكرات التي كانت اغلبها محاولات إبراء ذمة عن قرارات ذميمة العواقب.
تمثل سردية الصديق السعدي في هذا الكاتب ضمير جيلنا من تلك الكوادر الصغيرة في الحزب الشيوعي العراقي التي فوجئت وهي في أوائل العشرينات من عمرها بوقوعها تحت محنة المطالبة بالتخلي قسرا عن معتقداتها الفكرية والاتهام بمعاداة النظام السياسي والمطاردة الشرسة من قبل نظام قمعي تعددت أذرعه ما بين جهاز حزبي من الوشاة واجهزة أمنية مدنية وعسكرية تدير سجونا وأقبية وغرف تحقيق كانت تتوزع عبر كل زاوية من زوايا البلاد .
المتن الأساس في سيرة الصديق السعدي ووثيقته تتحدث عن تلك الفترة المأساوية التي تتجاهل الخوض فيها اغلب قيادات الحزب الشيوعي العراقي وهي الممتدة مابين عام ١٩٧٨ وهو عام النكبة الشيوعية الثاني (اذا افترضنا ان عام النكبة الاولى كان في ١٩٦٣) وهي فترة عشت تفاصيلها بمنتهى الوجع والتي لازالت أوجاعها ضاربة في عصب المشاعر حتى اليوم .
اراهن على صدق هذه الوثيقة من منطلقين أولهما ان الصديق السعدي لم يكن كادرا قياديا يفرض عليه موقعه التبرير او التستر لدفع المسؤولية عن قرارات خاطئة ، وثانيها انني شخصيا عشت اغلب ظروف تلك الايام التي يتحدث عنها بل انني كنت على صلة رفقة وصداقة مع اغلب الاسماء التي ترد في هذه المذكرات من رحل منهم ومن طَل على قيد الحياة باستثناء فترة الصعود الى الجبل وتجربة العمل الأنصاري التي لم اعايشها .
قيمة مثل هذه المراجعات اذا ما صدرت عن ضمير صادق انها تنصف اولا جيلا كان من خيرة اجيال العراق لما يتمتع به من حس وطني خالص وثقافة إنسانية منفتحة وعلاقات نبيلة لاتزال تحتفظ ببعض من طيب الأثر في نفوس من تبقى من هذا الجيل ،
لكن المؤلم ان هذا الجيل نفسه قد فقد خيرة عناصره ما بين اقبية التعذيب والتغييب ومطاحن الحروب الخارجية والداخلية وماتبقى منه غير أنفار يعاني اغلبها القنوط مما الت اليه خواتيم الامور لتأتي شهادة الصديق السعدي بصراحتها ووضوحها منصفة لأرواح كل أولئك الذين ازهقت ارواحهم عبثا تحت طائلة قرارات متخبطة لقيادات متنافرة البوصلات .
من المعلومات المثيرة حقا للفزع هي تلك التي تتعلق بحجم الخيانات وطيف المندسين الواسع في صفوف الحزب والذين ذهب نتيجة ممارساتهم نخبة كبيرة من رفاق الدرب ، يتحدث الصديق السعدي من مشهد قريب عليه عاشه وخبره فكانت روايته عنها سيرة درامية لتجربة لا ينفع الندم او الاسى لمواساتها . ويدفع المرء الى التساؤل ( بينه وبين نفسه ) أكان ضروريا اهدار كل تلك الدماء البريئة في مغامرات حمقاء غير محسوبة العواقب ، وهل ظل هناك منهم مندسون ولازالوا يمارسون عملهم الحزبي والقيادي ربما ، بحكم ان من تم كشفه كان بمحض الصدفة لاغيرَ ؟!.
للإنصاف فان الصديق السعدي لم يخنس كما خنس كثير من شهود تلك الايام المرة عن تحليل الأسباب وتحديد جهات التقصير بالاسماء حينا وحينا بالتلميح ،ورغم اني اتفق معه في اغلب تحليلاته غير اني اجد التلميح دون التصريح يقع احيانا في باب خيانة ذكرى الشهداء ، ومقولة ان الظروف غير مناسبة لكشف كل الملفات إنما هي مقولة حق يراد به باطل وابسط بطلانها انها تريد اعفاء جناة حقيقيين من مغبة جناياتهم .
كانت لي ملاحظة حول ما جرى في مؤتمر الحزب الرابع والذي أفاض الصديق السعدي في الحديث عنه بحكم قربه الجغرافي والفكري من اجواء انعقاده ، وكان نقده لتلك الأجواء صريحا وتشبيه ما حدث خلاله بمجزرة قاعة الخلد البعثية من خلال طرد نصف القيادة التاريخية من مواقعها وتعيين من اسماهم ( العشرة المبشرة بالجنة ) بدلا عنهم بارادة شخص واحد ، كان تحليلا سليما لكنه وشأن كل الأصدقاء الذين تناولوا الموضوع تجنبوا العقدة الاساسية في هذا الانقلاب الذي حدث في أوج غمار الحرب الإيرانية العراقية وهي العقدة التي يخاف او يستحي او يداري الاخرون ممن عايشوها عن البوح بها ، اما انا فلا أخاف ولا اداري ولا استحي ابدا حين اقول ان سبب العقدة هو النسغ الطائفي الخفي الذي صعد فحأة في عروق بعض القيادات الحزبية نتيجة الموقف من الحرب الإيرانية العراقية ، والصديق السعدي يتحدث بصدق عن حالة الانقسام في الحزب نتيجة الموقف من الحرب مابين من يدعو لإيقافها كونها مطحنة تفتك بشعبين لا إرادة لهما فيها ، وبين من يدعو لدعم الجانب الإيراني فيها لغرض إسقاط النظام .
الحقيقة المخجلة ان هذا الطرف الأخير كان مدفوعا بالهاجس الطائفي الذي تسلل منذ تلك الايام الى نفوس اشخاص لم تتمكن التربية الوطنية المشهود لها في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ولا العقيدة الشيوعية المدعمة بالفلسفة المادية الديالكتيكية كما يُفترض ، لم تستطع من كبح هذا الهاجس الطائفي الذي قد لا ألومهم على تشبثهم به بحكم تربية بعضهم ونشأتهم وسط اجواء شعائرية تثير من النوستالجيا ما يحول الحنين الروحي الى موقف سياسي ، والحقيقة ان هذا هو الذي حدث وهو الذي وجه موقف الحزب الشيوعي العراقي بعد الاحتلال ودخول ممثله لمجلس الحكم لصفته المذهبية لا بالصفة الحزبية ( لم يتشكل مجلس الحكم على اَية قاعدة حزبية وهو امر لا يمكن انكاره مطلقا ) .
لا الوم الصديق السعدي ولا اَي صديق ممن عايش ذلك الظرف او ممن لازال يمارس مسؤوليته الحزبية ،لا ألومهم على الصمت ازاء هذه الحقيقة لان من الصعب على أكثرهم تجاوز تلك النوستالجيا لما لها من قوة وجدانية مع الأسف ، ومن مظاهر تلك النوستالجيا التي يدونها الصديق السعدي دون تسميتها هو ما يذكره صراحة عن شخص كان بعثيا خالصا قبل ٢٠٠٣ يتم انتخابه عضوا في لجنة محلية ديالى بعد ٢٠٠٣ ، ورغم انني لا اعرف المعني شخصيا لكنني اقول له يحدث هذا وغيره الكثير بأثر الهاجس الطائفي المستتر العميق الذي تسلل لآليات العمل الحزبي بعد ٢٠٠٣ والذي كان من نتائج المؤتمر الوطني الرابع واختيار العشرة المبشرة الذين هيمن ثلاثة منهم على القرار الحزبي بعد ٢٠٠٣ بطريقة أدت الى التراجع المحزن لجماهيرية الحزب اضافة لتدخل هذا الهاجس في منح رتب عسكرية ورواتب تقاعدية لأشخاص على انهم عناصر في الانصار مع انهم لم يصلوا الجبل مطلقا ،بل لم يغادروا مدنهم ، هذا ان لم يكن بعضهم مهادنا بطريقة ما لحزب البعث او على صلة ما ببعض اجهزته الأمنية .
هناك عقد كثيرة اخرى عالجها الصديق السعدي بجرأة في سيرته هذه تستحق التقدير والثناء لما تمتعت به من نبل وتجرد وايمان بالحقيقة كدالة وحيدة لقيمة كل إنجاز ومنها إنصافه لصديقنا الشاعر اديب ابو نوار الذي لم ينصفه اقرب أصدقاءه ممن كانوا يتملقونه في حياته بعد رحيله .
واذْ انهي هذه القراءة العجلى لسيرة صديقي السعدي فإنني أستعير منه هذه الحكمة العظيمة التي لم يزل الكثير لا يتمثلها ، ولو تمثلهاالجميع لما حدثت كل تلك الكراهية الجاهلة التي تصيب كل من يراجعون وينتقدون اخطاء الحزب ، يكتب الصديق السعدي في الصفحة ٢٥٢:
( هناك وهم ٌ كبير ٌ جدا عند بعض الناس بأن بعض الشيوعيين يتفردون بخصال تنظيمية بعيدا عن البيروقراطية والإقصاء والثأر والتشهير ، فلم نكن الا جزءا من مجتمع مضطرب يشكو من عقدة صراع بين البداوة والحداثة وبين الجذر الديني ونهج العلمانية )
هذه السطور العميقة تكفي لتفكيك الكثير من ارهاصات الحزب الشيوعي بعد ٢٠٠٣ والتي من غير الممكن ان يتقبلها المنتفعون في الحزب
وسيقول قائل وهل في الحزب الشيوعي وجود لمنتفعبن انتهازيين ؟
سأقول بمنتهى الحزن : نعم ! لقد حدث هذا ولأول مرة منذ العام 2003