الشعر العربيّ بين الكليّة والجزئيّة وتبعاتهما
للحزن في كيان الذات العربية موضع وامتياز، نظراً لما مرت به هذه الذات من مآس وانكسارات، وقبل ذلك ما لاقته من الطبيعة القاسية من ضنك ومفاجآت. وكان الشعر هو أداة هذه الذات في التعبير عما يكتنفها من شعور بالحزن والألم والمعاناة.
ولو عدنا إلى أصول الشعر الأولى لوجدنا أن غنائيته كانت في الغالب طقسية دينية وذات نزعة حزينة وابتهالية، بها واجه الإنسان خوفه من الموت متقرباً إلى الآلهة. وما شارع الموكب في بابل سوى تعبير عن تلك الفجائعية التي احتلت من حياة الإنسان السومري موضعاً لاسيما المرأة ومشاعرها الأمومية. وإذا كان الرثاء أصل الشعر، فإن المرأة هي أول الراثين والمتفجعين والباكين فيه، وكانت انخيدوانا أول شاعرة نعت ذاتها في معابد الكهنة وعشتار أول إلهة تبكي على تموز في كثير من الأساطير البابلية.
وحين تطور الشعر من الغنائية إلى الملحمية ظل الحزن هو عنوانه لأن الموضوع واحد هو الفقدان ـــ والموت أجلى صوره وأشدها قساوة ـــ واحتل الحزن من ملحمة جلجامش الجزء الأعظم، لتكون أول مرثية في تاريخ الإنسانية، فيها تفجع الإنسان من الموت وندب الفقد وبكى وانتحب على ما ينتظره من فناء.
وانتقلت هذه الفجائعية الرثائية إلى شعر الإغريق والرومان إلهاما أو استلهاما، فكتبوا ملاحم الإلياذة والأوديسة والانياذة ثم ابتكروا الشعر المسرحي التراجيدي كمرثية درامية للبكاء والألم. واستمرت تأثيرات الحزن في الشعر تنتقل عبر الذاكرة الجمعية في وجدان البشرية.
وبسبب المساكنة الجغرافية ما بين الأقوام السامية الأكدية والعربية أثّرت المراثي في الأقوام العربية لاسيما في طقسها الغنائي وأسطوريتها التفجعية فكانت إيقاعية الشعر العربي حزينة. أما ما فيها من طرب وسعادة فعلى نية مقاومة الفجائعية. ولو عدنا إلى الحداء كأقدم شكل للشعر العربي، لوجدنا فيه إيقاعية حزينة تعكس ما انطوت عليه حياة البوادي من ترحال وانتقال مستمرين، أشعرا الذات العربية بالثكل والضياع والحيرة والفقد والموت.
وإذا كانت المراثي هي أصل الشعر الملحمي وكانت التراجيديا هي أصل الشعر المسرحي، فإن الرثاء هو أصل الشعر الغنائي وفيه تجتمع كل الأغراض التي تفرعت ثم استقلت فكان أن عُرف المديح والغزل من الرثاء بوصفه مدحا للميت وتعدادا لخصاله ومناقبه، ومنه اشتق الهجاء على اعتبار أن الرثاء دعاء بالثأر ممن اعتدى على المرثي ظلماً وعدواناً، ومن الرثاء عُرف الوصف والزهد والفخر من ناحية ذكر حسنات المرثي والفخر بشمائله وأخذ الحكمة منه في فهم الحياة.
وما تقليد الوقوف على الأطلال كمطلع للقصائد إلا نوع من أنواع التفجع والانتحاب على الزمن المنصرم.
وبهذا تكون القصيدة القديمة في تعدد أغراضها عبارة عن مرثية في الأصل، وفيها الغنائية جزء لا يتجزأ منها حتى غدا شعرنا العربي كله غنائياً في حزنه وحزيناً في غنائيته. ولم تفارق الغنائية القصيدة العربية كما لم يفارقها الحزن فكان الشاعر ينشد الشعر بإيقاعية غنائية على مستوى الإلقاء وفي الآن نفسه يؤديه أو يمثلّه تراجيدياً على مستوى التوصيل والإرسال. وله في التمثيل طقوس خاصة، كان أولها ما عرفه شعراء الجاهلية في مواسم الأسواق من مطارحات تغلب عليها الفجائعية من ناحية الملبس وحلق الرأس ودهان الجسد.
وظلت أرضية الشعر العربي رثائية وبقيت سمة الحزن واضحة في موسيقاه وأوزانه الغنائية حتى بعد أن استقرت العرب في الحواضر وأسست الدول وصارت للشعر مدارس. وما من قصيدة مدحية أو غزلية أو هجائية أو حماسية إلا هي في أرضيتها حزينة، لا تخلو من بيت هنا يبكي على ما فات أو بيت هناك يتخوف مما هو آت أو يتحسب لضياع ما تم بناؤه أو فناؤه.
والغريب أننا في الوقت الذي فيه اعتدنا القول إن ديوان الشعر العربي غنائي، فإننا نجد من غير المعتاد القول بأن هذه الغنائية حزينة ورثائية في مجملها، والسبب هو نظرتنا التجزيئية للشعر التي ترى الغنائية متعددة بتعدد الأغراض لكن الرثاء يخلو منها مع أننا حين نتحدث عن غنائية المذهب الرومانسي نقرُّ بأنها واحدة تتسم بالحزن والتشاؤم وعليها بنى الشعراء الرومانسيون قصائدهم.
إن السبب وراء هذا الاعتقاد في فهم الغنائية على أنها تعني الفرح والطرب هو أننا اعتدنا التجزئة في دراسة شعرنا العربي، ولم نعن بالنظر إليه ككلية واحدة. فتحدثنا عن أغراض منفصلة عن بعضها مع أنها تشكل بنية القصيدة الواحدة، وقصرنا الإنشاد مثلا على الغزل، وميّزنا بين الإنشاد والغناء والتمثيل، ونظرنا إلى الغناء على أنه أندية ليل ومسامرات خلان، اقتصرت على حواضر العرب الثرية في الحجاز، ومنه ارتحل الغناء إلى دمشق ثم بغداد. ونسينا أن القصيدة العربية في أصلها لم تنشأ من فراغ، وأن العرب لم يكونوا على الأرض لوحدهم، بل تأثروا بما عند الأمم المجاورة من مظاهر الغناء وطقوس الانشاد وأثروا فيها أيضا بما لديهم من تقاليد، ألم يستوردوا الأصنام ليعبدوها من أقوام مجاورة؟
ومن التبعات أيضا أن الغنائية مضادة للحزن بينما الحزن هو القاعدة التي عليها قامت غنائية الشعر العربي كله بمرثياته وهجائياته وغرامياته ومجونياته ومدائحياته وحماسياته ومفاخراته. والأمر كذلك بالنسبة إلى الشعر الرومانسي الأوروبي الذي غنائيته عاطفية حزينة بفجائعية وتشاؤمية. ولعل أهم دليل على أن الغناء والرثاء هما القاعدة التي عليها بنيت القصيدة العربية ما نجده في المخيلة الجمعية من أناشيد وترانيم وطقوس في التعبد أساسها الحزن وتذكر الفواجع.
ومن تبعات التجزيئية أن اهتم الدارسون بشعر الغزل كثيرا وما زالوا يعيدون قراءة القصائد الغزلية على وفق مناهج ونظريات حديثة ومستجدة بينما ظل شعر الرثاء يشكو الإهمال والجدب لاعتقاد هؤلاء الدارسين أن هذا الشعر قيل فيه كل ما يمكن أن يقال حتى لا مزيد لما يمكن قوله.
ومن التبعات أن لا علاقة للغناء بالتمثيل وأن الشعر العربي غنائي لم يعرف التمثيل لأن العرب عاشت في صحراء مترامية الأطراف ولم يكن لها أن تبني المسارح. وعلى الرغم من تأكيد الدكتور طه حسين أن الشعر العربي أجاد تأدية ما كان ينبغي أن يؤديه من حاجات العرب الفنية في عصوره التي قيل فيها وأن فيه مميزات الشعر الغنائي فهو شخصي بمعنى انه يمثل قبل كل شيء نفسية الفرد معتمدا على الموسيقى، فإنه خضع للتجزيئية حين فصل بين الانشاد والتمثيل كأداء مشهدي لا كأداء قولي.
والذي نراه هو أن التمثيل أداء قولي مرتبط بالانشاد رافق الشعر منذ أن تقرَّب الانسان شعراً إلى الآلهة في شكل طقوس كان يؤديها كسيراً مترنماً كما أن الشاعر القديم لم يكن يقف جامداً وهو ينشد الشعر، بل كان ينشده بأداء تمثيلي. وثالثا أن القصصية التي هي من عناصر التمثيل كانت موجودة في الشعر العربي.
ومن تبعات التجزيئية أن صار الغناء شيئاً غير الإنشاد، بل الغناء والإنشاد يتحققان بانتظام الأوزان ولم يستقل الشعر العربي يوما عن الموسيقى مثلما لم يستقل عن أدائية إنشاده كسمة خالصة وكلية ولذلك قيل في المأثور( ترنم إذا أنشدت شعرا).
وهو ما يتضح في شعر المراثي بشكل خاص وكانت المرأة هي شاعرة المراثي الأولى ومن هنا حفظ التاريخ اسم الخنساء لأن الأداء التمثيلي لقصيدتها منعكس في إنشاد أبياتها. وهو ما ضمن لشعرها الانتقال عبر المخيلة الجمعية حتى تكونت حولها صور جعلتها أسطورة الحزن في ديوان الشعر العربي. ولأنها المثال الأسطوري في الفقد وندب الخسارات، غدت خنساوات يتجدد عبر التاريخ ذكرها، فكانت في الجاهلية تماضر بنت الشريد التي رثت ابنها المقتول في حرب داحس والغبراء. وتجددت في العصر العباسي بالشاعرة ليلى بنت طريف وهي ترثي أخاها الوليد بن طريف. وتجددت في العصر الحديث بالشاعرة نازك الملائكة التي اتخذت منها ملهمة لها في ما بثته في شعرها من تراجيديات.
إن هذه التجزيئية في النظر إلى الشعر العربي انما جاءت من جراء الدراسة المنهجية المولعة بالتقسيم والتصنيف والفرز والتبويب وهو أمر لا يناسب ما في الشعر العربي من كلية في حزنه وغنائيته. بينما ظل الشعر على مستوى التلقي الشعبي محتفظاً بكليته وخير دليل على ذلك ما نجده في الأغاني التراثية العراقية من شجن أصيل. وفي كثير من الأحيان يتجلى ناظم هذه الأغاني امرأة تبكي على فقد أحبتها وحزنها على ما فاتها وضعف حالها وضغط التقاليد عليها.
*كاتبة من العراق