قصة الخلاف على اسم الخليج -العربي- أم -الفارسي- وجذورها التاريخية
بدءاً، سأحاول الفصل بين عدة مواضيع يجري غالبا خلطها ببعض ما يؤدي إلى الوقوع في إطلاق أحكام جغرافية وسياسية غير دقيقة غالبا. فوجود العرب في العراق والشام الذي يمتد الى القرن الثامن قبل الميلاد مؤكد بالأدلة الإركيولوجية “الآثارية”، يختلف نوعيا عن وجودهم ضمن كيانية الجغراسياسية أو “سياحضارية” بعد الإسلام، وموضوع الأسماء الجغرافية والتاريخية كالخليج العربي وغيره يختلف نوعيا عن موضوع التسميات العربية وغير العربية التي نشأت في مراحل تاريخية لاحقة أي بعد تشكل الكيانية الجغراسياسية العربية في العهد العباسي.
*إن العرب قبل الإسلام كانوا موجودين فعلا في بلاد الرافدين أو العراق القديم أو “آراكيا/ حسب الوثيقة الآشورية التي نشرها المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد” وبلاد الشام أو “بلاد آرام/ أمورو/ رنتو/ كنعان. ولكن هذا الوجود كان وجودا قبليا متنقلا، كسائر الشعوب والجماعات الجزيرية السامية المرتحلة وغير المتحول الى وجود أو كيانية جغراسياسية معبرا عنها بدولة إلا بشكل محدود في زمن الغساسنة والمناذرة ولقرون قليلة ثم ظهر الإسلام.
الخليج، الذي سماه الرافدانيون القدماء “البحر السفلي”، وبلاد الرافدين كلها، خضعت بعد سقوط بابل في عهد الغازي قورش، للاحتلال الفارسي الأخميني ثم الفارسي الفرثي، ثم الفارسي الساساني، حتى الفتح والتحرير العربي الجزيري لها، أي طَوال أكثر من ألف عام، وأصبحت بلاد الرافدين جزءا من بلاد فارس والتي كانت عبارة عن رقعة طرفية صغيرة ومنعزلة في الهضبة الإيرانية ثم اتسعت خلال فترة قصيرة حتى شملت بلاد الرافدين وجنوب الشام ومصر وشمال العربيا “شبه الجزيرة العربية”، وسقطت نسختها الساسانية بعد الإسلام وقامت الدولة العربية الإسلامية الأموية ثم العباسية على أنقاضها.
إذن، طيلة ألف عام من الاحتلال الفارسي اكتسبت الأسماء الجغرافية صفة استعمالية ووثائقية فارسية، فأصبح الخليج وبلاد الرافدين المحتلة كلها جزءا من بلاد فارس حتى حرب الفتح والتحرير العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي وتدمير الإمبراطورية الفارسية، بل أن الوثائق والخرائط الأوروبية وبسبب الجهل أو التحامل ظلت حتى بدايات القرن الماضي تعتبر العراق جزءا من بلاد فارس مع أنه واقع تحت الاحتلال العثماني التركي.
*تفيدنا المصادر الجغرافية والتاريخية بالمعلومات التالية حول تأريخية اسم الخليج:
*إن أقدم اسم معروف للخليج هو اسم “بحر أرض الإله» ولغاية الألف الثالثة قبل الميلاد. ثم أصبح اسمه “بحر الشروق الكبير” حتى الألف الثاني قبل الميلاد. وسمي «بحر بلاد الكلدان» في الألف الأول قبل الميلاد. ثم أصبح اسمه «بحر الجنوب» خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد.
وقد سماه الآشوريون والبابليون والأكديون: «البحر الجنوبي» أو «البحر السفلي»، ويقابله البحر العلوي وهو البحر الأبيض المتوسط. كما أُطلق عليه اسم «نارمرتو» (أي البحر المر) من قِبل الآشوريون.
*سماه الفرس «بحر فارس». قيل التسمية عرفت في أول الأمر من قبل الملك الفارسي داريوش الأول (521-486 ق.م) في كلامه «على البحر الذي يربط بين مصر وبلاد فارس». والراجح أن الاسكندر الأكبر هو أول من أطلق تلك التسمية بعد رحلة موفده أمير البحر نياركوس عام 326 ق. م إلى الهند.
*وممن أطلق تلك تسمية “الخليج العربي” المؤرخ الروماني بليني بلينيوس الأصغر في القرن الأول للميلاد. قال بليني: «خاراكس (المحمرة) مدينة تقع في الطرف الأقصى من الخليج العربي”.
*سماه العرب «خليج البصرة» أو «خليج عمان» أو «خليج البحرين» أو «خليج القطيف» و«بحر القطيف» لأن هذه المدن الثلاث كانت تتخذه منطلقًا للسفن التي تمخر عبابه وتسيطر على مياهه. ويعود اسم «بحر البصرة» إلى فترة الفتح الإسلامي في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وظل هذا الاسم متداولا حتى العصر العثماني الذي ترجمه الى ” بصرة كورفيزي / الصورة”.
*وإن كان اسم «بحر فارس» شائعًا كذلك في العصر الإسلامي، خاصة بين المسلمين الفرس. حتى أن البعض قد يستعمل الاسمين معًا في الصفحة نفسها. كما أسماه بعض العرب أثناء الخلافة العباسية «خليج العراق». وهناك خريطة باللغة اللاتينية من القرن الخامس عشر تسميه الخليج الفارسي/ الصورة.
*تأخذ الأمم المتحدة باسم ” الخليج الفارسي” أما في وثائقها باللغة العربية فتستعمل اسم “الخليج العربي”.
*نفهم من ذلك أن الأسماء لصيقة بالظروف التاريخية التي ولدت ونشأت وتكرست ثم زالت أو تم تحريفها أو تغييرها جذريا واستبدالها فيها. ولكن السلطات الإيرانية في عصرنا تريد استثمار التسميات التاريخية المناسبة لعصبيتها القومية والتي وجدت في عصر احتلال الفرس لبلاد الرافدين، ويشاركها في ذلك قوى عالمية وإذا كان ذلك من حق الفرس، فمن حق العرب في المقابل أن يسموا الخليج بالخليج العربي ولهم أسبابهم القوية ومنها:
– اسم «الخليج العربي» تاريخي وقديم، وأنه مبرر لأن ثلثي سواحل الخليج تقع في بلدان عربية، بينما تطل إيران على حوالي الثلث.
– حتى السواحل الإيرانية تقطنها قبائل عربية سواء في الشمال (إقليم الأحواز) أو في الشمال الشرقي في العديد من مدن إقليم بوشهر مثل بوشهر وعسلوية وبندر كنغان أو في الشرق في بندر لنجة وبندر عباس.
– العرب يشكلون سكان أهم جزيرتين مسكونتين في الخليج العربي وهما جزيرة البحرين وجزيرة قشم بالإضافة إلى أن العرب يشكلون السكان الأصليين لجميع الجزر المأهولة في الخليج العربي قبل ظهور النفط وبالتالي فمن الأولى تسمية الخليج وفق الشعب الذي يسكن جزره وسواحله.
– تبين خارطة القوميات الإيرانية الموضحة أدناه بوضوح أن جميع سواحل الخليج العربي الجنوبية والغربية تخلو من الفرس.
– منذ عام 1935 م، لم تعد تسمية «بلاد فارس» موجودة سوى في السجلات التاريخية بعدما أصدر الشاه الإيراني رضا شاه بهلوي مرسومًا قضى بتغيير اسم بلاده إلى «إيران».
– الفرس لم يكونوا يركبون البحر، حتى في عهد إمبراطوريتهم الواسعة. وإذا ما أنشأوا في الخليج أسطولاً، كان بحارته من غير الفرس. يقول د. صلاح العقاد: «أما الساحل الشمالي الشرقي الذي يكوّن الآن الساحل الإيراني، فيمتد على طوله نحو ألفي كيلومتر: سلسلة عالية من الجبال الصعبة المنافذ إلى الداخل، مما عزل سكان بلاد فارس والسلطة المركزية فيها عن حياة البحر. ولقد اشتهر الفرس منذ غابر الزمن بخوفهم من حياة البحار، حتى قال بعض مؤرخين العرب: «ليس من الخليج شيء فارسي إلا اسمه».
*لكن الإيرانيين المعاصرين يصرون على احتكار التسمية القومية الخاصة بهم وهي كانت شائعة حتى لدى البلدانيين العرب “علماء الجغرافيا” في فترة معينة خلال العهد الإسلامي وأحيانا كانوا يسمونه “بحر العجم” و “بحر البصرة”.
*لو طبقنا الفكرة الإيرانية بعصرنة وتعميم التسميات التاريخية القديمة لكان من حق العرب أن يطلقوا على إيران اسم “عراق العجم” وهو من الأسماء المشهورة لدى البلدانيين العرب المسلمين حيث كان يطلق هذا الاسم على إيران الحالية “شرق عراق العرب” بما في ذلك مدن مثل أصفهان والري وقزوين وكرمنشاه وتعرف هذه المنطقة أيضا باسم إقليم الجبال”، وكان يطلق على العراق الحالي “عراق العرب”، وهو العراق القديم “بلاد الرافدين” ذاته الذي شطب على عروبته ساسة التحالف الشيعي الكردي الحليف للاحتلال الأميركي في دستورهم المكوناتي سنة 2005.
*ساد اسم “العراقَين” كاسم يجمع بصيغة التثنية اسمي “عراق العجم غرب إيران” وعراق العرب خلال تلك الفترة بين القرنين الحادي عشر والسادس عشر ميلادي، وهناك خريطة جغرافية بدائية للجغرافي التركي محمود كاشغيري (ت سنة 1102م) وردت فيها هذه التسمية/ الصورة. وهناك خرائط أخرى أوروبية تسمي الخليج باسم “الخليج العربي ومنها نشرت مثالين” خريطة ميركاتور وهندويس يظهر فيها الخليج وقد كتب عليه باللاتينية اسم «sinus arabicus» أي الخليج العربي، وخريطة فرنسية قديمة (1667) يظهر فيها بوضوح اشارتها إلى الخليج العربي بأنه «الخليج العربي».
*الملفت أن السلطات الإيراني أثبتت أنها لا تقل تعصبا قوميا رغم شعاراتها ومسمياتها الاسلامية من النظام الملكي السابق لها في الدفاع عن اسم “الخليج الفارسي “، وتحاول فرض اسم “الخليج الفارسي” بطريقة قمعية وتعاقب كل من يستعمل تسمية أخرى، وضمن هذه النزعة القومية المتشددة فقد غيرت إيران اسم “شط العرب” العراقي في جميع المصادر والخرائط العالمية الى تسمية فارسية هي “أروَد رود”، ولم نسمع بأي احتجاج من السلطات العراقية عن ذلك. وهذه أدناه بعض الأمثلة على هذا السلوك الدال على التعصب القومي الفارسي:
* بتاريخ 19 /01/2020 ردت الخارجية الإيرانية بتشنج على تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الذي استعمل اسم “الخليج العربي الفارسي” وقالت في تغريدة على حسابها في تويتر إن الرئيس الفرنسي أخطأ في استخدام مصطلح الخليج العربي الفارسي متهما إياه بتحريف التسمية. وكتب الناطق بام الوزارة الإيرانية “أود أن أذكر ماكرون بأن الخليج يقع في جنوب إيران وله اسم واحد فقط: الخليج الفارسي…”.
*بعد أن أعلنت مؤسسة الجمعية الجغرافية الوطنية عن كتابة اسم الخليج العربي إلى جانب الخليج الفارسي، في أطلسها الجديد، غضبت السلطات الإيرانية، واتهمت المؤسسة بتلقي الرشاوي، واتهموها كذلك بأنها «بتأثير من اللوبي الصهيوني». ومنعتها من بيع مطبوعاتها وخرائطها في إيران ومنع أي مندوب من قبلها من دخول الأراضي الإيرانية. كما دعا رئيس البرلمان الإيراني حداد عادل للدفاع عن فارسية الخليج. كما جمع المعارضة الإيرانية بمختلف أطيافهم عن أن الخليج فارسي».
*من المضحك أن السلطات الإيرانية الرسمية التي تتهم كل جهة تستعمل اسم “الخليج العربي” بانه صهيوني أو موال للصهيونية تتغافل عن أن الكيان الصهيوني هو الدولة الوحيدة في المنطقة التي تستعمل اسم “الخليج الفارسي” فقط ولم تستعمل اسم “الخليج العربي” قط.
*في مايو 2006، وخلال لقاء في الدوحة بين الرئيس الإيراني أحمدي نجاد وأمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني أثناء افتتاح دورة أسيان الدوحة، قال الأخير في معرض حديثه عن منتخب إيران لكرة القدم، أن نجاح المنتخب إيران في مونديال 2006 سيسعد سكان الخليج الفارسي العربي فرد عليه نجاد بفظاظة لا علاقة لها بالدبلوماسية بين رؤساء الدول قائلا: “أعتقد أنك كنتَ تقرأ اسمه الخليج الفارسي عندما كنتَ بالمدرسة”.
*في سنة 2008، نُظمت احتجاجات في إيران على تسمية متصفح غوغل الخليج «العربي».
*يناير 2010. إلغاء الدورة الثانية من ألعاب التضامن الإسلامي بسبب اعتراض الدول العربية على تدوين كلمة «الخليج الفارسي» على قلائد البطولة وجميع وثائقها، وكانت الجهات العربية الرسمية قبل ذلك اقترحوا كتابة لفظة الخليج فقط. لكن إيران واجهتهم بالرفض.
*أيضا في فبراير 2010، قامت إيران بطرد مضيف جوي يوناني بسبب استعماله مسمى الخليج العربي.
*حالة التمرد العربية على اسم الخليج العربي جاءت من إمارة الكويت ففي شباط /فبراير 2010، صرح السفير الكويتي في إيران قائلا إن “التسمية ليست موطن خلاف، وأن تسميته بالخليج العربي تمت تحت ظرف سياسي معين وأن اسمه سيظل الخليج الفارسي” ولا أدري إن كانت التسمية في المناهج التعليمية والإعلام في الكويتي قد أخذت أيضا بوجهة نظر هذا السفير أم لا.
*وأخيرا، فإذا كان من الصحيح القول عدم ضرورة وصحة الرد على التعصب القومي الفارسي في إيران اليوم بتعصب قومي عروبي مضاد حول هذا الموضوع فإن من الصحيح أيضا عدم التنازل عن الثوابت التاريخية والجغرافية خصوصا وإن إيران تريد فرض رأيها الرسمي على الآخرين وترفض أي حوار مع جيرانها العرب، وعلى هذا فلا معنى للانهزامية التي يأخذ بها أمثال السفير الكويتي وبعض الإعلام الرسمي العربي حين يسقط صفة واسم الخليج؛ لذلك أعتقد أن من حقنا كعرب وعراقيين أن نسمي هذا الخليج باسم “الخليج العربي” ، وليسموا هم الخليج بالاسم الذي يريدون، بشرط عدم فرضه على الآخرين في العالم، أو أن يتم الاتفاق عبر الأمم المتحدة على استعمال الاسم المزدوج “الخليج العربي الفارسي” من قبل الجميع، فلا مكان في عصرنا للهيمنة وفرض العُنجهية والتعصب القومي الأعمى من أي طرف كان على شعوب المنطقة.