العراق: نظام في غرفة الإنعاش
مع تصاعد وتيرة الصراع السياسي في العراقي، كثرت التكهنات التي ترى أن نظام ما بعد 2003 قد انتهت صلاحيته، وإننا إزاء مرحلة تغيير مقبلة لا محالة. وقد يتفق قطاع واسع من العراقيين مع هذه الرؤية، أو ربما يتمنونها فقط، لأنهم تعبوا من طوفان الفساد وسوء الخدمات وتعثر الحياة اليومية بمتطلباتها البسيطة، لكن هناك خوفا موازيا من أن يكون التغيير عنيفا مصحوبا بتسونامي من الاقتتال الداخلي لا أحد يمتلك المخيلة للتكهن بدمويته أو طول المدة الزمنية التي ستستغرقها عملية ولادة الوضع الجديد.
يشير الدكتور إياد العنبر أستاذ العلوم السياسية في مقال له، إلى مقولة صموئيل هنتنغنتون حول النظم السياسية الفاشلة أو المحتضرة بقوله: «المشكلة الرئيسة التي تواجه الأنظمة السياسية التي تعاني من مشكلة عدم الاستقرار، هي الهبوط في النظام السياسي، والتقويض التدريجي لسلطة الحكومة وفاعليتها وشرعيتها، وهو ناتج إلى حد كبير، عن التغيّر الاجتماعي السريع لفئات جديدة في مجال السياسة، يقابله تطور بطيء في المؤسسات السياسية». ويبدو أن عجلة النظام السياسي في العراق متوقفة عند عتبة هذه الأزمات، إذ تتفق الطبقة السياسية جميعها على أن العراق يعيش فعليا أزمات الانسداد السياسي، بيد أنها تبدو عاجزة تماما عن طرح حلول لتجاوز ذلك.
الكل يتابع اليوم تحركات التيار الصدري التي شلت الحياة السياسية بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ أوقفت عمل البرلمان، وعطلت عمل الحكومة التي هي أصلا حكومة تصريف أعمال، كما تم مؤخرا زج القضاء في الأزمة، مع حصار مبنى مجلس القضاء، ثم الانسحاب في خطوة أضمرت تهديدا واضحا، حتى بات واضحا أن المؤسسة القضائية أصبحت أحد خصوم التيار، التي يجب إطاحتها نتيجة عدم إصدارها تأييدا لمطالب التيار بحل البرلمان، بقانون يصدر عن المحكمة الاتحادية العليا، أو على الأقل (تطهير المؤسسة القضائية) من الفساد، كما تشير تصريحات رسمية صادرة عن التيار الصدري.
تتفق الطبقة السياسية جميعها على أن العراق يعيش فعليا أزمات الانسداد السياسي، بيد أن هذه الطبقة تبدو عاجزة تماما عن طرح حلول لتجاوز ذلك
في سؤال مراسل تلفزيوني يغطي الأحداث في المنطقة الخضراء، يسأل أحد معتصمي التيار عن مطالبهم، فيجب المعتصم بكل ثقة ووضوح: «مطالبنا واضحة، حل البرلمان، وحل الحكومة، ومكافحة الفساد»، تنتقل الكاميرا لمراسل ثان، زميل للمراسل الأول يغطي الجانب الآخر من اعتصام أنصار الإطار التنسيقي في محيط المنطقة الخضراء، ويسأله السؤال نفسه، فتأتي الإجابة؛ «مطالبنا واضحة، عودة عمل البرلمان، تشكيل الحكومة الدائمة لتتم خدمة الناس الذين يعانون من توقف حياتهم ومصالحهم». هذان التصريحان يقدمان تكثيفا بيّنا لحال الأزمة العراقية، فإذا علمنا أن قوى الإطار والتيار مجتمعان لا يشكلان سوى خمسة في المئة من العراقيين، فسوف نتوصل إلى أن هنالك أغلبية صامتة، تجلس وهي تراقب بخوف وتنظرالى طرفي الصراع المتهمين معا بإيصال الحال إلى السوء الذي وصل إليه، وليس أمامها سوى انتظار ما سيؤول له الوضع. قوى الإطار ومعها القوى الكردية والسنية، ترى أن النظام المحتضر الذي أدخل عدة مرات غرفة الإنعاش، وتم إحياؤه بصعقات الكهرباء قادر على الاستمرار عبر الإبقاء على المنظومة السياسية العاملة منذ عقدين، على الرغم من أنها تدار بمنطق التخادم المصلحي الذي يعيد تدوير ثنائية الفشل والفساد، لأن غياب البديل أو الخوف من التغيير يجعل الشارع يقبل بهذا الوضع مع جرعات تنشيطية، يحقن بها الوضع بين الحين والآخر. وقد كتب الصحافي الكردي سامان نوح معلقا على الوضع بقوله: «القوى الكردية بمجموعها قلقة، بل خائفة من دعوات التيار كما القوى السنية، ولا يريدون تغييرا في النظام البرلماني القائم، فالبديل ربما يعني حرمانهم من الشراكة (الجزئية) القائمة الآن في صنع القرار، وسيخسر الكرد ليس وجودهم في رئاسة الجمهورية، بل ربما إضعاف فيدرالية الإقليم لصالح نظام مركزي، والسنة سينتهي وجودهم الفاعل في البرلمان بوجود أغلبية شيعية حاكمة في ظل نظام رئاسي». كما هو معلوم أن في حالة الاحتضار أو الموت السريري التي يعاني منها نظام ما بعد 2003، تكون الأرضية خصبة لترويج نظريات مؤامرة متعددة التوجهات والمستويات، من ذلك الترويج والتبشير بالانقلاب العسكري المقبل، الذي سيجلب جنرالا يتربع على عرش السلطة في العراق، ويقوم بتصفية قوى العملية السياسية الفاسدة عبر تصفيتهم أو زجهم في السجون، هذه النظرية تلقى دائما أذنا صاغية في الشارع العراقي، نتيجة كم الضغط وتراكم الفشل والفساد الذي يعيشه العراقي، لكن مع تحليل معطيات الواقع سنفهم وبسهولة أن هذا الامر صعب التحقيق وبعيد المنال، فلا وجود لمؤسسة عسكرية راسخة في عراق اليوم، والجيش لم يعد سوى جهة واحدة من الجهات التي تتقاسم امتلاك القوة وتقف في مواجهتها جيوش كردية وسنية وشيعية، بالإضافة إلى قوى مسلحة منفلتة مثل العشائر ومافيات الجريمة المنظمة، النتيجة أن تحرك الجيش العراقي، أو جزء منه في محاولة لإمساك الحكم ستكون نتيجته الحتمية حربا داخلية طاحنة يصاحبها تفتت شديد للعراق.بعض نظريات المؤامرة القائمة على آلية التسريبات، لعبت على وتر تدخل القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو بريطانيا أو حلف الناتو، أو حتى الترويج لتدخل أممي يعمل على رفع غطاء الشرعية عن النظام المحتضر، الذي يعاني في غرفة الانعاش، ليتم بعد ذلك رسم صورة تشابه أو تكرر سيناريو عام 2003، عندما أطيح بنظام صدام حسين عبر الاجتياح الأمريكي، لكن مروجي هذه النظرية يعلمون قبل غيرهم أن العراق، والمنطقة برمتها لم تعد منطقة جذب أو اهتمام للقوى الدولية الكبرى، كما كانت قبل ربع قرن، وإن العين اليوم تتجه إلى الشرق الأقصى والصراع مع الصين وتكتلاتها الدولية المقبلة، وبالتالي لن تغامر أي قوة كبرى بالدخول مجددا للمستنقع العراقي.
إذن نحن اليوم إزاء موقف يتجلى ببساطة في مطالب الإطار باستمرار النظام والتوافق عبر عمل حكومات، يتم توزيع حصصها، كما كان يتم طوال العقدين الماضيين، ولتنفيذ ذلك بالإمكان اعتماد مخرجات انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021، أو حتى الذهاب إلى انتخابات بديلة يحدد موعدها بعد عام من الآن. في المقابل موقف التيار الصدري يطالب بتغيير النظام الحالي عبر حل البرلمان وإبقاء حكومة تسيير الأعمال، أو حتى استبدالها بحكومة تسيير أعمال مصغرة، والذهاب إلى انتخابات جديدة بعد عام، لكن يطرح هنا سؤال جوهري هو: من سيضمن عدم الاحتجاج على أي إجراء سياسي مقبل وبضمنها الانتخابات؟ من سيضمن خضوع فرقاء الصراع السياسي لمخرجات الانتخابات المقبلة وعدم التشكيك بها مرة أخرى واللجوء إلى الشارع والاعتصامات وشلل الحياة العامة مجددا؟ كتب أحد المعلقين في صفحات التواصل الاجتماعي واصفا حال الأغلبية الصامتة في العراق فقال: «الكتلة الأكبر من الشارع العراقي تؤيد حل النظام وتغييره وإنهاء وجوده، وهم بذلك في جبهة مطالب الصدر، وليس معه شخصيا، يؤيدون مطالبه ويرفضون شخصه أو يعترضون عليه، قوى الإطار من جانبها تعرف أن المزيد من التدهور ليس في صالحها، في حين يرى أنصار التيار أن مزيدا من التصعيد، حتى مع تدهور الأحوال قد يؤدي إلى هدم البناء الحالي للنظام وإنهاء وجوده، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الاغلبية الصامتة تريد أيضا التوصل إلى حلول قريبة من رؤية الإطار الساعية إلى إيجاد مخارج أقل دموية للأزمة، فالخوف من اشتعال صراع داخلي أمر يرعب الجميع. لذلك نجد القوى السياسية اليوم جميعها تصرخ وبأعلى صوتها بشعارات التغيير، والإصلاح، ومحاربة الفساد، وإنهاء المحاصصة، وتوفير الخدمات والأمن، أي معالجة حالة النظام السياسي الحالي، حتى يتم إخراجه من غرفة العناية المركزة، لكن كل هذا الكلام عندما تضعه على محكات التنفيذ يظهر خواؤه بوضوح نتيجة غياب المعالجة الحقيقية العلمية والواقعية التي يمكن أن تنتج حلولا لإخراج الوضع من حالة الموت السريري التي أصابته.